نقل عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالاً مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً وأبداً - سأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعةَ عَشَرَ حَرْفاً ، فَأْجِيبُوا{[2765]} .
قال ابن الخَطِيبِ{[2766]} : ثمانيةٌ منها في سورة البقرة أولُها : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [ البقرة : 186 ] . وثانيها : هذه الآية ، ثم الباقية بعد في سورة البقرة . فالمجموع ثمانية في هذه السُّورة ، والتَّاسع : في المائدة ، قوله تبارك وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] والعاشر : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ } [ الأنفال : 1 ] والحادي عشر : في بني إسرائيل { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } [ الإسراء : 85 ] والثاني عشر في الكهف { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ } [ الكهف : 83 ] والثالث عشر في طه { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } [ طه : 105 ] والرابع عشر في النَّازعات { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } [ النازعات : 42 ] .
ولهذه الأسئلة ترتيبٌ عجيبٌ : آيتان :
الأول : منها في شرح المبدأ ، وهو قول تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } وهذا سؤالٌ عن الذَّاتِ .
والثاني : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ } وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلاَّقيَّة ، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه .
والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد ، وهو قوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } [ طه : 105 ] و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } [ النازعات : 42 ] .
ونظير هذا أنَّه ورد في القرآن الكريم سورتان : أوّلهما " يَا أَيَهَا النَّاسُ " فالأولى : هي السُّورة الرابعة من النِّصْف الأوَّل ؛ فإن الأولى هي " الفَاتِحَةُ " ثم " البَقَرَةُ " ثم " آلُ عِمْرَانَ " ثم " النِّسَاءُ " وهي مشتملةٌ على شرح المبدأ { يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] والسُّورة الثَّانية : هي الرابعة أيضاً من النِّصف الثاني : فإن أوله " مَرْيَم " ثم " طَه " ثم " الأَنْبيَاء " ثم " الحَجُّ " وهذه مشتملةٌ على شرح الميعاد { يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيَّةٌ ، وحِكَمٌ مطويَّة [ لا يَعْرِفُها إلاَّ الخواصُّ مِن عَبِيدِه ] .
فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلَّة
روي عن معاذ بن جبلٍ ، وثعلبة بن غنمٍ الأنصاريين قالا : يا رسول الله ، ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ ، ثُمَّ يزيد ؛ حتَّى يمتلىءَ ويَسْتَوِي ، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ ، لاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ كالشَّمْسِ ، فَنَزِلَتْ هذه الآية{[2767]} .
وروي أنَّ معاذ بن جبلٍ قال : إنَّ اليَهُودَ سَأَلُوهُ{[2768]} عَنِ الأهَلَّةِ .
واعلم أنَّ قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ } ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا ، إلاَّ أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال ؛ لأنَّ قوله : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان .
قوله تعالى : { عَنِ الأَهِلَّةِ } : متعلِّقٌ بالسؤال قبله ، يقال : " سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ " بمعنًى ، والضمير في " يَسْأَلُونَكَ " ضمير جماعة .
فإن كانت القصَّة كما روي عن معاذٍ : أنَّ اليهودَ سألُوهُ ، فلا كلام ، وإن كانت القصَّة أنَّ السائل اثنان ؛ كما روي أن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنمٍ ، سألوا ، فيحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أن يقال : إن أقلّ الجمع اثنان .
والثاني : من نسبة الشيء إلى جمعٍ ، وإن لم يصدر إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين ، وهو كثيرٌ في كلامهم .
قال الزَّجَّاج - رحمه الله- : " هلال " يُجمع في أقلِّ العدد على " أَفْعِلَةٍ " نحو : مثالٍ وأَمْثِلَةٍ ، وحِمَارِ وأَحْمِرَةٍ ، وفي أكثر العدد يجمع على " فُعُلٍ " نحو حُمُرٍ ، لأنهم كرهوا في التضعيف " فُعُلٍ " ، نحو هُلُل وخُلُل ، فاقتصروا على جمع أدنى العدد .
والجمهور على إظهار نون " عَنْ " قبل لام " الأَهِلَّة " وورشٌ على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وقرئ{[2769]} شاذَاً : " عَلَّ هِلَّةِ " ؛ وتوجيهها : أنه نقل حركة همزة " أَهِلَّة " إلى لام التَّعريف ، وأدغم نون " عَنْ " في لام التعريف ؛ لسقوط همزة الوصل في الدَّرج ، وفي ذلك اعتدادٌ بحركة الهمزة المنقولة ، وهي لغة من يقول : " لَحْمَرُ " من غير همزة وصلٍ .
وإنما جُمِعَ الهلالُ ، وإن كان مفرداً ؛ اعتباراً باختلاف أَزمانه ؛ قالوا من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في آخر ، والهلال : هذا الكوكبُ المعروف .
واختلف اللُّغَوِيُّون : إلى متى يُسَمَّى هِلاَلاً ؟
فقال الجمهور : يُقَالُ له " هِلاَلٌ " لِلَيْلَتَيْنِ ، وقيل : لِثَلاَثٍ ، ثم يكون " قَمَراً " وقال أبو الهيثم{[2770]} : يُقال له : " هِلاَلٌ " لِلَيْلَتَيْن من أوَّل الشهر ، ولَيْلَتَيْنِ من آخره ، وما بينهما " قَمَرٌ " . وقال الأصمعيُّ : يُقَالُ له " هِلاَلٌ " إلى أن يُحَجِّرُ ، وتحجيره : أن يستدير له ؛ كالخيط الرقيق " ، ويقال له : " بَدْرٌ " من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة ، وقيل : يُسَمَّى " هِلالاً " إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُهُ سَوادَ اللَّيْلِ ، وذلك إنما يكونُ في سَبْعِ لَيَالٍ " .
واعلم أنَّ الشَّهر ينقسم عشرة أقسامٍ ، كلُّ قسمٍ : ثلاثُ ليالٍ ، ولكلِّ ثلاثِ ليالٍ اسمٌ ، فالثلاثة الأولى : تسمَّى غرر ، والثانية نقل ، والثالثة تسع ، والرابعة عشر ، والخامسة بيض والسادسة درع ، والسابعة ظلم ، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشرة محاق .
والهلال : يكون اسماً لهذا الكوكب ، ويكون مصدراً ؛ يقال : هلَّ الشَّهر هلالاً ، ويقال : أُهِلَّ الهلالُ ، واسْتُهِلَّ مبنيّاً للمفعول وأهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ ، وقيل : يقال : أَهَلَّ واسْتَهَلَّ الهلالُ للفاعل ؛ وأنْشَدَ : [ الوافر ]
964 - وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ *** وَحَوْلٌ بَعْدَهُ حَوْلٌ جَدِيدٌ{[2771]}
وسُمِّي هذا الكوكب هلالاً ؛ لارتفاع الأصوات عن رؤيته ، وقيل : لأنه من البيان ، والظهور ، أي : لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه ، ولذلك يقال : تهلَّل وجهه : ظهر فيه بشرٌ وسُرُورٌ ، وأنْ لم يكُنْ رفع صَوْتَهُ ، ومنه قول تَأَبَّطَ شَرّاً : [ الكامل ]
965 - وَإِذَا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ *** بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ{[2772]}
وقد تقدم أنَّ الإهْلاَلَ : الصُّرَاخُ عند قوله { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [ البقرة : 172 ] . " وفِعَالٌ " المضعَّف يطَّرد في تكسيره " أَفْعِلَة " كأَهِلَّةٍ ، وشذَّ فيه فِعَلٌّ ؛ كقوله : عِنَنٌ ، وحِجَجٌ ، في عِنَان ، وحِجَاج .
وقدَّر بعضهم مضافاً قبل " الأَهِلَّة " أي : عن حكم اختلاف الأهلَّة ، لأنَّ السؤال عن ذاتها غير مفيدٍ ؛ ولذلك أُجيبوا بقوله : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وقيل : إنهم لمَّا سألُوا عن شيء قليل الجدوى ، أُجيبوا بما فيه فائدةٌ ، وعدل عن سؤالهم ، إذ لا فائدة فيه ، وعلى هذا ، فلا يحتاج إلى تقدير مضافٍ .
و " لِلنَّاسِ " متعلِّقٌ بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ ل " مَوَاقِيتُ " أي : مواقيتُ كائنةٌ للنَّاسِ . ولا يجوزُ تعلُّقُه بنَفْس المواقيتِ ؛ لما فيها من معنى النقل ؛ إذ لا معنى لذلك . والمَوَاقِيتُ : جمع ميقَاتٍ ؛ رَجَعَتِ الواوُ إلى أصلها ؛ إذ الأصل : موقاتٌ من الوَقْتِ ، وإنَّما قلبت ياءً ؛ لكسر ما قبلها ، فلمَّا زال موجبه في الجمع ، رُدَّت واواً ، ولا ينصرف ؛ لأنه بزنة منتهى الجموع .
فإن قيل : لم صرفت قوارير ؟ قيل لأنَّها فاصلةٌ وقعت في رأس الآية الكريمة فنوِّن ، ليجري على طريقة الآيات كما تنوَّن القوافي في مثل قوله : [ الوافر ]
966 - أَقِلِّي اللَّوْمَ ، عَاذِلَ ، والعتَابَنْ *** . . . {[2773]}
و " المِيقَات " : منتهى الوقت ؛ قال تبارك وتعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ }
[ الأعراف : 142 ] والهلال : ميقات الشَّهر ؛ أي : منتهاه ، ومواضع الإحرام : مواقيت الحجِّ ؛ لأنَّها مواضع ينتهى إليها ، وقيل : الميقات : الوقت ؛ كالميعاد بمعنى الوعد .
فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس
فإن قيل : لم خصَّ المواقيت بالأهلَّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها ؟
فالجواب : أنَّ الأهلَّة وأشهرها ، إنَّما جعلت مواقيت للنَّاس ، دون الشمس وأشهرها ؛ لأنَّ الأشهر الهلاليَّة يعرفها كُلُّ أحدٍ من الخاصِّ والعامِّ برؤية الهلال ومحاقه ؛ ولذلك عُلِّقت الأحكام الشَّرعيَّة بالشُّهور العربيَّة ، كصوم رمضان ، وأشهر الحجِّ ، وهي شوَّال ، وذُو القعدة وذو الحجَّة . والأشهر المنذورة ، والكفَّارات ، وحول الزَّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسلم ، وأشهر الإيلاء ، وأشهر العدد ، ومدَّة الرَّضاع وما تتحمَّله العاقلة في ثلاث سنين ، وغير ذلك ؛ بخلاف الشَّمس ، وأشهرها ؛ فإن الشَّمس لا يتغيَّر شكلها بزيادةٍٍ ، ولا نقصٍ ، ولا يعرف أوَّله وآخره ، ولا تختلِفُ رؤيتها ، وكذلك أشهرها لا يعرف أوَّلها وآخرها ، إلاَّ الخواصُّ من الحُسَّاب ، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة ؛ وهي الصَّيف ، والشِّتاء ، والرَّبيع ، والخريف ؛ ولذلك لا يتعلَّق به حكم شرعيٌّ ؛ فلذلك جعلت الأهلَّة وأشهرها مواقيت للنَّاس ، دون الشَّمس .
اعلم أنَّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلَّة ؛ فقال تعالى : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وذكر هذا المعنى في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ }
[ يونس : 5 ] واعلم أنَّ تقدير الزمان بالشُّهور فيه منافع دينيةٌ ، ودنيويةٌ .
فالدينية : كالصَّوم ، والحَجِّ ، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها ، والنذور المتعلِّقة بالأوقات ، وقضاء الصَّوم في أيامٍ لا تُعْلَمُ إلاَّ بالأهلَّة .
والدنيويَّة : كالمداينات ، والإجارات ، والمواعيد ، ولمدَّة الحمل والرَّضاع .
قوله : " والحَجِّ " عطفٌ على " النَّاس " قالوا : تقديره : ومواقيتُ الحَجِّ ، فحذف الثاني ؛ اكتفاءً بالأوَّل .
وقيل : فيه إضمارٌ ، تقديره : وللحَجَّ كقوله { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ } [ البقرة : 233 ] أي : لأولادكم .
ولمَّا كان الحجُّ من أعظم ما تُطْلَبُ مواقيته وأشهره بالأهلَّة ، أُفْرِدَ بالذِّكْرِ .
قال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] .
فإن قيل : الصَّوم أيضاً يطلب هلاله ؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام - : " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " {[2774]} .
قلنا : نعم ، ولكنَّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض ، والنُّفَسَاء ، والمُسَافر ، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر ؛ بخلاف الحجِّح فإنَّه إذا لم يصحَّ فعله في وقته ، لا يقضى في غيره من الأشهر .
واحتجَّ مالك - رحمه الله تعالى - وأبو حنيفة بهذا الآية على أنَّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهر يصحُّ ، فإن الله تعالى جعل الأهلَّة كلها ظرفاً لذلك .
قال القَفَّال : إفراد الحجِّ بالذِّكر إنَّما كان لبيان أن الحجَّ مقصورٌ على الأشهر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه ؛ وأنه لا يجوز نقل الحجِّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر ؛ كما كانت العربُ تفعلُ ذلك في النسيء ؛ فأفرد بالذِّكر ، وكأنه تخصيص بعد تعميم ؛ إذ قوله تعالى : مَوَاقِيتُ لِلنَّاس " ليس المعنى لذوات الناس ، بل لا بُدَّ من مضافٍ ، أي : مواقيتُ لمقاصد النَّاس المحتاج فيها للتأقيت ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب " النَّاسِ " منابه في الإعراب .
وقرأ الجمهور " الحَج " بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم ، فقرءوا{[2775]} { حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران :97 ] بالكسر ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنًى واحدٍ ، أو مختلفان ؟ قال سيبويه{[2776]} : " هما مَصْدَرَانِ " ؛ فالمفتوح كالرَّدِّ والشَّدِّ ، والمكسورُ كالذِّكر ، وقيل : بالفتح : مصدرٌ ، وبالكسر : اسمٌ .
قال القرطبيُّ{[2777]} : هذه الآية الكريمة تَرُدُّ على أهل الظَّاهر ، ومن وافقهم في أنَّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غيرِ معلومة ؛ واحتجُّوا بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ الزَّرْعِ والنَّخْل بما بَدَا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكَرَّم ، ومجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - من غير توقيت ، وقال : وهذا لا دليل فيه ؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال لليهود : " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " {[2778]}
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك مخصوصٌ به ، وأنَّه كان في ذلك ينتظر القضاء من رِّبه ، وليس كذلك غيره .
قوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ } كقوله : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ } [ البقرة :177 ] وقد تقدم ؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع " البِرِّ " ؛ لأنَّ زيادة الباء في الثاني عيَّنت كونه خبراً ، وقد تقدَّم لان أنَّها قد تزاد في الاسم .
وقرأ{[2779]} أبو عمرو ، وحفصٌ ، وورشٌ " البُيُوت " و " بُيُوت " و " الغُيُوب " و " شُيُوخاً " بضمِّ أوَّلها ؛ وهو الأصل ، وقرأ الباقون بالكسر ؛ لأجل الياء ، وكذلك في تصغيره ، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم ؛ لأنَّ الضمة في الياء ، والياء بمنزلة كسرتين ؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً ، قاله أبو البقاء{[2780]} - رحمه الله - .
و " مِنْ " قوله : " مِنْ ظُهُورِهَا " و " مِنْ أَبْوَابِهَا " متعلقةٌ بالإتيان ، ومعناها ابتداءُ الغاية ، والضميرُ في " ظُهُورِهَا " و " أَبْوَابِهَا " للبُيُوت ، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة ؛ لأنه يجوز فيه ذلك .
وقوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } كقوله - تبارك وتعالى - : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [ البقرة :177 ] يعني : تقديره : بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى ؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان ، وهما : " وَلَيْسَ البِرُّ " " وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى " عطف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : " وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا " " واتَّقُوا اللَّهَ " وفي التصريح بالمفعول في قوله : " وَاتَّقُوا اللَّهَ " دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى ، أي اتَّقَى الله .
قال الحسن ، والأصمُّ : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة ، إذا همَّ بشيءٍ ، فتعسَّر عليه مطلوبه ، لم يدخل بيته من بابه ، بل يأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم{[2781]} الله ؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً ، وعلى هذا : تأويل الآية الكريمة { لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } على وجه التطيُّر " ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به ، بل توكَّل على الله تعالى ، واتَّقَاه " ثمَّ قال : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا ؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ]
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [ الطلاق : 4 ] وتحقيقه : أن من رجع خائباً يقال : ما أفلح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله ؛ حتَّى تصيروا مفلحين ، وقد وردت الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر ، قال : " لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ{[2782]} " وقال : " مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ ، فَقَدَ أَشْرَكَ{[2783]} " و " كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ {[2784]} " وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه ، فقالوا : { قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ } [ النمل : 47 ] .
وقال المفسِّرون : سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة : كان الناس في أوَّل الإسلام ، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم ، فإن كان من أهل المدن ، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه ، ويخرج ، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره ، ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر ، خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يخرج ولا يدخل من الباب ؛ حتى يحلَّ من إحرامه ، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس ، وهم قريشٌ ، وكنانة ، وخزاعة ، وخيثمٌ ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً ؛ لتشديدهم في دينهم ، والحماسة الشِّدَّة .
967 - وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسِ{[2785]} *** . . .
وهؤلاء متى أحرموا ، لم يدخلوا بيوتهم ألبتَّة ، ولا يستظلُّون الوبر ، ولا يأكلون السمن ، والأقط{[2786]} ، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، دخل ، وهو محرمٌ ، بيتاً لبعض الأنصار ، فاتَّبَعَهُ رَجلٌ مُحْرِمٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، يقال له رفاعةُ ابن تابُوتَ ، فدخل على أثره من الباب ، فقال - عليه الصلاة والسلام دائماً وأبداً - : " تَنَحَّ عَنَّي فقال : ولمَ ، يا رسول الله ؟ قال : دخلت الباب ، وأنت مُحْرِمٌ ، فقال : رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ ، فدَخَلْتُ على أُثَرِكَ ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، شرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : إنِّي أحْمَسُ فقال الرَّجُلُ : " إن كنت أحمسياً ، فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ، ودينك " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة{[2787]} .
قال الزُّهريُّ : كان ناسٌ من الأنصار ، إذا أهلُّوا بالعمرةِ ، لم يحل بينهم وبين السَّمَاء شيءٌ ، وكان الرَّجُل يخرجُ مُهِلاًّ بالعمرة ، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته ؛ فيرجع ، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السَّماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثُمَّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ؛ حتى بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : " لِمَ فَعلْتَ ذَلِكَ ؟ " قال : " لأنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : " إني أحمسي " فقال الأنصاريُّ : وأنا أحمسي ، وأنا على دينك " ، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة{[2788]} .
فصل في اختلافهم في تفسير الآية
ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه :
أحدها :- وهو قول أكثر المفسرين - وهو حمل الآية الكريمة على ما قدَّمناه في سبب النُّزول ، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه ؛ فإنَّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر ، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } فأيُّ تعلُّق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين هذه القصَّة ، فذكروا وجوهاً :
أحدها : أنَّ الله - تبارك وتعالى - لمَّا ذكر أنَّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلَّة جَعْلُها مواقِيتَ للنَّاسِ والحَجِّ ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجِّ ، لا جَرَمَ ذكرها الله تعالى .
وثانيها : أنه تعالى إنَّما وصل قوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ } ؛ لأنَّه إنما اتَّفَقَ وقوع القصَّتين في وقت واحدٍ ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معاً في وقت واحدٍ ، ووصل أحد الأمرين بالآخر .
وثالثها : كأنَّهم لمَّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلَّة ، فقيل لهم : اتركوا السُّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم ، وارجعوا إلى البحث ، عمَّا هو أهمُّ لكم ، فإنَّكم تظنُّون أنَّ إتيان البيوت من ظُهُورها بِرٌّ ؛ وليس الأمر كذلك .
الوجه الثاني من تفسير الآية : أنَّ قوله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } مثل ضربه الله تعالى ، ولَيْسَ المرادُ ظاهره وتفسيرُ أنّ الطريقَ المستقيم هو الطريق المعلومُ ، وهو أنْ يُستدلَّ بالمعلوم على المظنون ، ولا ينعكس .
وإذا عرف هذا ، فنقولُ : ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً ، مختاراً ، حكيماً ، وثبت أنَّ الحكيمَ لا يفعلُ إلاَّ الصَّواب البريء عن العبث والسَّفه .
وإذا عرفنا ذلك ، وعرفنا أنَّ اختلاف أحوال القَمَر في النُّور مِنْ فعله علمنا أنَّ فيه حكمةً ومصلحةً ، لأنَّا علمنا أنَّ الحكيم لا يفعلُ إلاَّ الحكمة ، واستدلَلْنَا بالمَعلُوم على المجهول ، فأمَّا أن يُستدلَّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنَّ فاعلهُ ليس بحكيم ، فهو استدلالٌ باطلٌ ؛ لأنَّه استدلالٌ بِالمجهول على القدح في المعلوم ، وإذا عُرف هذا ، فالمرادُ من قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } يعني : أنَّكم لَمَّا لم تعلمُوا الحكمةَ في اختلاف نُورِ القمرِ ، صِرْتُم شاكِّينَ في حِكمة الخالِقِ ، وقد أَتَيْتُمُ الشيءَ مِنْ غير طريقه " إنَّما البرُّ بأنْ تأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا " وتستدلُّوا بالمعلوم المتيقَّن ، وهو حكمةُ خالقِها على هذا المجهول ، وتقطعُوا بأنَّ فيه حكمةً بالغةً ، وإنْ كُنْتُم لا تعلمونَها . فجعل إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها كنايةً عن العُدُول عن الطَّريق الصحيح ؛ وإتيانَها من أبوابِها كنايةً عن التَّمَسُّك بالطَّريق المُستقيم ، وهذا طريقٌ مشهورٌ في الكناية ؛ فإنَّ مَنْ أرشد غيرهُ إلى الصَّواب ، يقولُ له : ينبغِي أنْ تأتي الأمر مِنْ بابه ، وفي ضِدَّه قالُوا : ذهب إلى الشيءِ من غير بابه ، قال تعالى :
{ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ آل عمراان : 187 ] وقال عزَّ مِنْ قَائل :
{ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] وهذا تأويل المتكلِّمين .
قال ابن الخطيب{[2789]} : ولا يصحُّ تفسير هذه الآية ؛ لأنَّ الوجه الأوَّلَ يغيِّر نسقَ الترتيب ، وكلام الله تعالى منزَّهٌ عن ذلك .
الوجه الثالث : قال أبو مسلم{[2790]} : إن المراد مِنْ هذه الآية ما كَانُوا يعملونه من النسيء ؛ فإنهم كانُوا يخرجون الحجَّ عن وقته الَّذي عينه الله تعالى لهم ، فيحرِّمون الحلال ، ويحلُّون الحرام ، فذَكَرَ إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحجِّ وشهوره .