قوله تعالى : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] " حيث " منصوبٌ بقوله : " اقْتُلُوهُم " و " ثِقِفْتُمُوهُم " في محلِّ خفضٍ بالظرف ، و " ثَقِفْتُمُوهُمْ " أي : ظَفِرْتُمْ بهم ، ومنه : " رَجُلٌ ثَقِيفٌ " : أي سريعُ الأخذ لأقرانه ، قال [ الوافر ]
968 - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي *** فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ{[7]}
وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً ، إذا حذقهُ ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف ، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه ، ومنه الرماحُ المثقَّفة ؛ قال القائلُ : [ الطويل ]
969 - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا *** وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ{[8]}
ويقالُ : ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفاً وثَقَفاً ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ ، إذا كان محكِماً لما يتناوله من الأمور .
قال القرطبي{[9]} : وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير .
قوله : " مِنْ حَيْثُ " متعلِّقٌ بما قبله ، وقد تُصُرِّفَ في " حَيْثُ " بجَرِّها ب " مِنْ " كما جُرَّت ب " اليَاءِ " و " في " وبإضافة " لَدَى " إليها ، و " أَخْرَجُوكُمْ " في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه ، ولم يذكر " لِلْفِتْنَة " ولا " لِلْقَتْلِ " - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً ؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان ، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان ، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر .
فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية
هذا الخطابُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم ، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم ، حيث كانوا في الحلِّ ، أو الحرم ، وفي الشَّهر الحرام { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة ؛ فقال : أخرجوهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم ، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم من موضعكم الذي كنتم فيه وهو " مكة " ويحتمل أنه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم ، ففي الآية الأولى : أمرٌ بقتالهم ؛ بشرط إقدامهم على المقاتلة ، وفي هذه الآية : زاد في التكليف ، وأَمَرَ بقتالهم ، سواءٌ قاتَلُوا ، أو لم يُقَاتِلُوا ، واستثنى [ عنه ] المقاتلة عند المَسْجد الحَرَام ، ونقل عن مقاتل{[10]} أنه قال : إنَّ قولهُ { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } منسوخٌ بقوله { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] قال ابن الخطيب{[11]} : وهذا ضعيفٌ ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا ، وهذا الحُكمُ لم ينسخ ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل ، فهذا غير مسلَّم ، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس . وأما قوله : إنَّ هذه الآية ، هي قوله تبارك وتعالى { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } منسوخة بقوله تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } فهو خطأ أيضاً ؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكمُ غير منسوخ .
قوله { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } فيه وجوه :
أحدها : نقل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنّ الفتنة هي الكُفر{[12]} .
وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام ، فعابه المؤمِنُون على ذلك ، فنزلت هذه الآية الكريمة ، والمعنى{[13]} : أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام .
وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار ؛ لاستخلاصه من الغِشِّ ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان ؛ تشبيهاً بهذا الأصل ، والمعنى : أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر ، وعلى تخويف المؤمنين ، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ ، والوَطن ؛ هرباً من إضلال الكُفَّار ، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها .
وثالثها : أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم ، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب ، قال تبارك وتعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] ثم قال عقيبه
{ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 14 ] أي عذابكم { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ البروج : 10 ] أي عذّبوهم وقال { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] أي : عذابهم كعذابه .
ورابعها : أنَّ المراد : " فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم " .
وخامسها : أن الردَّة أشدُ من أن يُقْتَلُوا بحقٍّ ، والمعنى : أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ ، ولَو قُتِلْتُمْ ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم ، وأنتم على الحقِّ ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم .
قوله : " وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ " قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة : " ولا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ ، فإنْ قَاتَلُوكُمْ " بالألف من القتال ، وقرأها{[14]} حمزة ، والكسائيُّ من غير ألف من القَتل وهو المُصحف بغير ألف ، وإنما كُتِبَت كذلك ؛ للإيجاز ؛ كما كَتَبُوا الرَّحمن بغير ألف ، وما أشبه ذلك مِنْ حروف المَدِّ واللِّين .
فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل ؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى ، وأمَّا قراءةُ الأخوين ، ففيها تأويلان :
أحدهما : أن يكون المجازُ في الفعل ، أي : ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ ؛ ومنه { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] ثم قال " فَمَا وَهَنُوا " أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ ، وقال الشاعر : [ المتقارب ]
970 - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ *** وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ{[15]}
أي : فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا . يروى أن الأعمش قال لحمزة ، أرأيت قراءتك ، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً ، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره ؟ !
قال حمزة : إنَّ العَرَبَ ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا : قتلنا ، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ ، قالُوا ضُرِبنا{[16]} وأجمعوا على " فَاقْتُلُوهُمْ " أنَّه من القتل ، وفيه بشارةٌ بأنَّهم ، إذا فعلوا ذلك ، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم ، لا بقتالهم ؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم ، وخذْلانِهِمْ ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
و " عِنْدَ " منصوبٌ بالفعل قبله ، و " حَتَّى " متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له ، بمعنى " إلى " والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار " أَنْ " والضميرُ في " فِيهِ " يعودُ على " عِنْدَ " إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلاَّ ب " فِي " ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها ، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ " في " اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ ، فيتعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غير " في " ولا يُقالُ : " الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه " ، فيتعدَّى إليه الفعلُ ، فضميرُهُ بطريق الأولى ؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره ؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب " في " وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه ، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } أي : فإنْ قاتلُوكُم فيه ، فاقتلوهم فيه ، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه .
وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة ، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم ؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجئ إلى الحرم ، وقالوا : لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام ؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى .
قوله : " كَذَلِكَ جَزَاءُ " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و " جَزَاءُ الكَافِرِينَ " خبرُه ، أي : مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً ، وهو مذهبُ الأخفش .
والثاني : أن يكونَ " كَذَلَكَ " خبراً مقدَّماً ، و " جَزَاءٌ " مبتدأً مؤخَّراً ، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ ، وهو القتلُ ، و " جَزَاءُ " مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، أي : جزاءُ اللَّهِ الكافرين ، وأجاز أبو البقاء{[17]} أان يكونَ " الكَافِرِينَ " مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول ، تقديرُه : كذلك يُجْزَى الكافِرُون ، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.