قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } : في " كان " هذه وجهان :
أحدهما : - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث ، ووجد ، أي : وإن حدث ذو عسرةٍ ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال ، قيل : وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ ، نحو : " قد كان مِنْ مَطَرٍ " .
والثاني : أنها الناقصة والخبر محذوفٌ . قال أبو البقاء{[4752]} : " تقديره : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ ، أو نحو ذلك " وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية ، وقدَّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ . وقدَّره بعضهم : وإن كان ذو عسرةٍ غريماً .
قال أبو حيَّان{[4753]} : " وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا ؛ لا اختصاراً ؛ ولا اقتصاراً ، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم . وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين :
أحدهما : كونه خبراً عن مخبر عنه .
والثاني : كونه معمولاً للفعل قبله ، فلما تأكدت مطلوبيته ، امتنع حذفه .
فإن قيل : أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ " ليس " تكون عاطفةً بقوله : [ الرمل ]
. . . *** إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ{[4754]}
تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه : [ الكامل ]
. . . *** يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ{[4755]}
وإذا ثبت هذا ، ثبت في سائر الباب .
فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس ؛ لأنها تشبه لا النافية ، و " لا " يجوز حذف خبرها ، فكذا ما أشبهها " .
وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله ، وأُبيّ{[4756]} ؛ وعثمان : " وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ " أي : وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ . قال أبو عليّ : في " كان " اسمها ضميراً تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام ؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه .
وقرأ{[4757]} الأعمش : " وإِنْ كان مُعْسِراً " قال الدَّاني ، عن أحمد بن موسى : " إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك " .
ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة . قال مكي{[4758]} : وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس ، ولو نصبت " ذا " على خبر " كان " ، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم ؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع " ذو " .
وقد أوضح الواحديُّ هذا ، فقال : " أي : وإنْ وقع ذو عسرةٍ ، والمعنى على هذا يصحُّ ، وذلك أنه لو نصب ، فقيل : وإن كان ذا عسرة ، لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ ، فنظرةٌ ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن المشتري ، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ ، فله النظرة إلى الميسرة " .
وقال أبو حيَّان{[4759]} : مَنْ نصب " ذَا عُسْرَةٍ " ، أو قرأ " مُعْسِراً " فقيل : يختصُّ بأهل الرِّبا ، ومن رفع ، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ ، قال : " وليس بلازمٍ ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا ، وفيهم نزلت " قال شهاب الدين : وهذا الجواب لا يجدي ؛ لأنه وإن كان السياق كذا ، فالحكم ليس خاصاً بهم .
وقرئ {[4760]} " وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ " ، وقرأ{[4761]} أبو جعفرٍ " عُسُرَةٍ " بضم السين .
قال ابن الخطيب{[4762]} : لما كنتُ ب " خَوَارِزْم " ، وكان هناك جمعٌ من أكابر الأدباء ، فأوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب ؛ فقلت : إنكم تقولون : إنَّ " كان " إذا كانت ناقصةً ، أنها تكون فعلاً ؛ وهذا محالٌ ؛ لأن الفعل ما دلَّ على اقتران حدثٍ بزمان ، فقولك " كان " يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى ، كانت تامةً ، لا ناقصةً ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً ، كانت تامةً لا ناقصة ، وإن لم تكن تامةً لم تكن فعلاً البتة ؛ بل كانت حرفاً ، وأنتم تنكرون ذلك ؛ فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً ، وصنَّفوا في الجواب عنه كتباً ، وما أفلحوا فيه ، ثم انكشف لي فيه سرٌّ أذكره - هاهنا - وهو : أنَّ " كانَ " لا معنى له إلاَّ أنه حدث ، ووقع ، ووجد إلاَّ أن قولك وجد ، وحدث على قسمين :
أحدهما : أن يكون المعنى وجد ، وحدث الشيء ؛ كقولك : وجد الجوهر ، وحدث العرض .
والثاني : أن يكون المعنى وجد ، وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيدٌ عالماً ، فمعناه : حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم .
والقسم الأول هو المسمَّى ب " كان " التامة .
والقسم الثاني : هو المسمَّى ب " الناقصة " وفي الحقيقة : فالمفهوم من " كان " في الموضعين هو الحدوث ، والوقوع إلاَّ أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً ، بل لا بدَّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث .
فأما إن قلنا إنه فعل ، كان دالاًّ على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذٍ تكون تامةً لا ناقصةً ، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرفٌ ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل ، والأمر ، وجميع خواصِّ الأفعال ؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه ، تبيَّن أنه فعلٌ وزال الإشكال بالكلية .
المفهوم الثالث ل " كان " أن تكون بمعنى " صَارَ " ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأَنَّهَا *** قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا{[4763]}
وعندي أنَّ هذا اللفظ - هاهنا - محمولٌ على ما ذكرناه ، فإنَّ معنى " صار " أنَّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك ؛ فتكون " كان " هنا أيضاً بمعنى حدث ، ووقع ؛ إلاَّ أنه حدوثٌ مخصوصٌ وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى .
المفهوم الرابع : أن تكون زائدة ؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى *** عَلَى كَانَ المُسَوَّمَةِ الجِيَادِ{[4764]}
و " العُسْرَةِ " اسم من الإعسار ، ومن العسر ، وهو تعذُّر الموجود من المال ؛ يقال : أعسر الرجل ، إذا صار إلى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسَّر فيها وجود المال .
قوله : " فَنَظِرَةٌ " الفاء جواب الشرط ، و " نَظِرَةٌ " خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالأمر أو فالواجب ، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ ، أي : فعليكم نظرةٌ .
وقرأ العامَّة : " نَظِرَةٌ " بزنة " نَبِقَة " . وقرأ الحسن{[4765]} ، ومجاهدٌ ، وأبو رجاء : " فَنَظْرةٌ " بتسكين العين ، وهي لغةٌ تميمةٌ يقولون : " كَبْد " في " كَبِد " و " كَتْف " في " كَتِف{[4766]} " .
وقرأ عطاء " فَنَاظِرَةٌ " على فاعلة ، وقد خرَّجها أبو إسحاق{[4767]} على أنها مصدر نحو : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة :2 ] { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ } [ غافر :19 ] { أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة :25 ] . وقال الزمخشري : " فناظِرُهُ ، أي : فصاحب الحقّ ناظره ، أي : منتظره ، أو صاحب نظرته على طريقة النسب ؛ كقولهم : مَكَانٌ عَاشِبٌ ، وبَاقِلٌ ؛ بمعنى ذو عشبٍ ، وذو بقلٍ ، وعنه : " فناظِرْهُ " على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها " فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته " ناظِر " اسم فاعل مضافاً لضمير ذي العسرة ، بخلاف القراءة التي قدمها عن عطاء ، فإنها " نَاظِرَةٌ " بتاء التأنيث ، ولذلك خرَّجها الزَّجَّاج على المصدر . وقرأ{[4768]} عبد الله : " فناظِرُوه " أمراً للجماعة بالنظرة ، فهذه ستُّ قراءات مشهورها واحدةٌ .
وهذه الجملة لفظها خبرٌ ، ومعناها الأمر ؛ كقوله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة :233 ] وقد تقدَّم . والنظرة : من الانتظار ، وهو الصبر والإمهال .
تقول : بعته الشيء بنظرة ، وبإنظار . قال : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف :14-15 ] { إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ الحجر :38 ] .
قوله : { إِلَى مَيْسَرَةٍ } قرأ نافع وحده : " مَيْسُرَة " بضمِّ السِّين ، والباقون بفتحها . والفتح هو المشهور ؛ إذ مفعل ، ومفعلة بالفتح كثيرٌ ، ومفعُلٌ بالضم ، معدومٌ ؛ إلا عند الكسائي ، فإنه أورد منه ألفاظاً ، وأمَّا مفعلةٌ ، فقالوا : قليلٌ جدّاً وهي لغة الحجاز ، وقد جاءت منها ألفاظٌ ، نحو : المسرُقة ، والمقبرة ، والمشربة ، والمسربة ، والمقدرة ، والمأدبة ، والمفخرة ، والمزرعة ، ومعربة ، ومكرمة ، ومألكة .
وقد ردَّ النحاس{[4769]} الضمَّ ؛ تجرؤاً منه ، وقال : " لم تَأْتِ مَفْعُلَةٌ إِلاَّ في حُرُوفٍ معدودةٍ ليس هذه منها ، وأيضاً فإنَّ الهاء زائدةٌ ، ولم يَأْتِ في كلامِهِم مَفْعُل الْبتةَ " انتهى .
وقال سيبويه{[4770]} : " لَيْسَ في الكَلاَمِ مَفْعُل " قال أبو عليّ : " يَعْنِي في الآحاد " . وقد حكى سيبويه " مَهْلك " مثلَّث اللاَّم ، وقال الكسائيُّ : " مَفْعُل " في الآحاد ، وأورد منه مكرُماً في قول الشاعر : [ الرجز ]
لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فَعَالِ مَكْرُمِ{[4771]} *** . . .
ومَعْوُن في قول الآخر - هو جميلٌ - : [ الطويل ]
بُثَيْنُ ، الْزَمِي " لاَ " ؛ إنَّ " لاَ " إِنْ لَزِمْتِهِ *** عَلَى كَثْرَةِ الوَاشِينَ أَيُّ مَعْوُنِ{[4772]}
ومألكاً في قول عديّ : [ الرمل ]
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً *** أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي{[4773]}
وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين :
أحدهما : أنَّ هذا جمعٌ لمكرمةٍ ، ومعونة ، ومألكة ، وإليه ذهب البصريون ، والكوفيون خلا الكسائي ، ونقل عن الفراء أيضاً .
والثاني : أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل ، فيقول : " لم يَرِدْ كذا " وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان ، لعدم اعتداده بالنادر القليل .
وإذا تقرَّر هذا ، فقد خطَّأ النحويون مجاهداً ، وعطاءً في قراءتهما : " إلى مَيْسُرِهِ " بإضافة " مَيْسُر " مضموم السين إلى ضمير الغريم ؛ لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل ، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأً ؛ لأنه على تقدير تسليم أنَّ مفعلاً ليس في الآحاد ، فميسر هنا ليس واحداً ، إنما هو جمع ميسرة ، كما قلتم أنتم : إنَّ مكرماً جمع مكرمةٍ ، ونحوه ، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة ؛ كقوله : [ البسيط ]
إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا *** وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا{[4774]}
أي : عدة الأمر ؛ ويدلُّ على ذلك أنهم نقلوا عنهما ، أنهما قرآ أيضاً : " إِلَى مَيْسَرِهِ " بفتح السين ، مضافاً لضمير الغريم ، وهذه القراءة نصٌّ فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة ؛ لتوافق قراءة العامَّة : " إلى مَيْسَرَةٍ " بتاء التأنيث .
وقد خرَّجها أبو البقاء{[4775]} على وجهٍ آخر ، وهو أن يكون الأصل : " مَيْسُورِه " فخفِّف بحذف الواو ؛ اكتفاءً بدلالة الضمة عليها ، وقد يتأيَّد ما ذكره على ضعفه ، بقراءة عبد الله ، فإنه قرأ : إلى " مَيْسُورِه " بإضافة " مَيْسورٍ " للضمير ، وهو مصدرٌ على مفعول ؛ كالمجلود والمعقول ، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش ؛ إذ أثبت من المصادر زنة مفعول ، ولم يثبته سيبويه .
" والمَيْسَرَةُ " : مفعلةٌ من اليسر ، واليسار الذي هو ضدُّ الإعسار ، وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل ، فهو موسرٌ ، أي : صار إلى حالة وجود المال فالميسرة ، واليسر ، والميسور : الغنى .
فصل في سبب نزول " وإن كان ذو عسرة "
لما نزل قوله : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة :279 ] قال بنو عمرو الثَّقفي : بل نتوب إلى الله ، فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال ، فشكى بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخِّرونا إلى أن تدرك الغلاَّت ، فأبوا أن يؤخروا ؛ فأنزل الله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } يعني وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً ، { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } ، يعن : أَنْظِرُوه إلى اليسار ، والسَّعة .
اختلفوا في حكم الإنظار : هل هو مختصٌّ بالربا ، أو عامٌّ في كل دين ؟ فقال ابن عباس ، وشريح ، والضحاك ، والسدي ، وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن شريح أنَّه أمر بحبس الخصم ، فقيل له : إنه معسرٌ ، فقال شريح إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه العزيز { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء :58 ] .
وقال جماعة منهم مجاهد : إنها عامَّة في كل دين{[4776]} ؛ لعموم قوله تعالى : { ذُو عُسْرَةٍ } ولم يقل ذا عسرة .
والإعسار : هو ألاَّ يجد في ملكه ما يؤدِّيه بعينه ، ولا يكون له ما لو باعه ، لأمكنه أداء الدَّين من ثمنه خارجاً عن مسكنه وثيابه ، ولا يجوز أن يحبس من لم يجد إلاَّ قوت يوم لنفسه وعياله ، وما لا بدَّ لهم من كسوةٍ لصلاتهم ودفع البرد والحرِّ عنهم .
واختلفوا : إذا كان قويّاً ، هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدَّين ، أو غيره ؟
فقال بعضهم : يلزمه ذلك ، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ، أو لعياله .
وقال بعضهم : لا يلزمه ذلك ، واختلفوا أيضاً إذا بذل للمعسر ما يؤدِّي به الدَّين ، هل يلزمه قبوله والأداء ، أو لا يلزمه ؟ فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجبٌ عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلاَّ ذلك ، ويؤدِّيه في الدَّين .
إذا علم الإنسان أنَّ غريمة معسرٌ - حرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ووجب عليه إنظاره إلى يساره ، فإن ارتاب في إعساره ، جاز له حبسه إلى أن يظهر إعساره ، فإذا ادَّعى الإعسار وكذَّبه الغريم ، فإن كان الدَّين عن عوضٍ ، كالبيع ، والقرض ، فلا بدَّ له من إقامة البيِّنة على أنَّ ذلك العوض قد هلك ، وإن كان الدَّين عن غير عوض كالإتلاف ، والصَّداق ، والضَّمان ؛ فالقول قول المعسر ؛ لأن الأصل الفقر وعلى الغريم إقامة البينة .
قال المهدويُّ{[4777]} : قال بعض العلماء : هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر .
قال القرطبيُّ{[4778]} : وحكى مكيٌّ : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به في صدر الإسلام .
قال ابنُ عطية : فإن ثبت فِعْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو نسخٌ ، وإلاَّ فليس بنسخ .
قال الطَّحاوي{[4779]} : كان الحرُّ يباع في الدَّين أول الإسلام ، إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه ؛ حتى نسخ الله ذلك بقوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } .
واحتجُّوا بما رواه الدَّارقطنيُّ من حديث مسلم بن خالد الزَّنجي ، قال : حدثنا زيد ابن أسلم عن ابن البيلمانيّ ، عن سرَّقٍ ، قال : كان لرجلٍ عليّ مالٌ - أو قال - دينٌ فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصب لي مالاً ، فباعني منه ، أو باعني له ؛ أخرجه البزَّار بإسناد طويل ، ومسلم بن خالد الزنجي ، وعبد الرحمن البيلماني لا يحتجُّ بهما .
قوله : { وَأَن تَصَدَّقُوا } مبتدأ وخبره " خير " وقرأ عاصم{[4780]} : بتخفيف الصاد ، والباقون : بتثقيلها . وأصل القراءتين واحدٌ ؛ إذ الأصل : تتصدَّقوا ، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين : إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية ، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه ، وغيره أدغم التاء في الصاد ، وبهذا الأصل قرأ عبد الله{[4781]} : " تَتَصَدَّقوا " . وحذف مفعول التصدُّق للعلم به ، أي : بالإنظار ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم ، فيؤخره ؛ إلاَّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ{[4782]} " وهذا ضعيفٌ ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ ، ولأن قوله " خَيْرٌ لكُمْ " إنما يليق بالمندوب ، لا بالواجب . وقيل : برأس المال على الغريم ، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره ؛ كقوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ البقرة :237 ] .
قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابه محذوفٌ ، و " أَنْ تَصَدَّقُوا " بتأويل مصدرٍ مبتدأ ، و " خيرٌ لكم " خبره .
فصل في تقدير مفعول " تعلمون " ونصب " يوماً "
وتقدير مفعول " تَعْلَمُونَ " فيه وجوه :
أحدها : إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه .