اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ صَفۡرَآءُ فَاقِعٞ لَّوۡنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ} (69)

قوله : { مَا لَوْنُهَا } كقوله : " مَا هِيَ " .

وقرأ الضحاك : " لونها " بالنصب .

وقال أبو البقاء : لو قرئ : " لَوْنهَا " بالنصب لكان له وَجْهٌ ، وهو أن تكون " ما " زائدة كهي في قوله : { أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ } [ القصص : 28 ] ويكون التقدير : يبين لنا لَوْنَهَا وهذا تجديد للأمر ، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت ، وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب ، ويدل على أن الأمر على الفور ؛ لأنه تعالى ذمهم على التأخير بقوله : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] .

واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي ؛ لأنه تعالى لم يعنفهم على التأخير والمُرَاجعة في الخطاب ، قاله القرطبي عن ابن خُوَيْزِمَنْداد .

قال الثعلبي : وقرأ الضحاك : " لونَهَا " بالنصب .

وأما " ما هي " فابتداء وخبر لا غَيْرُ ، إذ لا يمكن جعل " ما " زائدة ؛ لأن " هي " لا يصح أن يكون مفعول " يبين " يعني : أنها بصيغة الرفع ، وهذا ليس من مواضع زيادة " ما " فلا حاجة إلى هذا .

واللَّوْن عبارة عن الحُمْرة والسَّوَاد ونحوهما ، واللَّوْن أيضاً - النَّوْع ، وهو الدَّقَل نوع من النخل .

قال الأَخْفَشُ : " هو جماعة واحدها لِينَة " وفلان يَتَلَوَّنُ ، أي : لا يثبتُ على حال ؛ قال الشاعر : [ الرمل ]

580 كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنْ *** غَيْرُ هَذَا بِكَ أَجْمَلْ

و " صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا " يجوز أن يكون " فاقع " صفة ، و " لونها " فاعل به ، وأن يكون خبراً مقدماً و " لونها " مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء .

وفي الوجه الأول نظر ، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال .

فإن قيل : يكون العمل ل " صفراء " لا ل " فاقع " كما تقول : " مررت برجل أبيض ناصع لونه " ف " لونه " مرفوع ب " أبيض " لا ب " ناصع " .

فالجواب : أن ذلك هاهنا ممنوع من جهة أخرى ، وهو أن " صفراء " مؤنّث اللفظ ، ولو كان رافعاً ل " لَوْنُها " لقيل : أصفر لونها ، كما تقول : مررت بامرأة أصفر لونها ، ولا يجوز : صفراء لونها ؛ لأن الصفة كالفعل ، إلاَّ أن يقال : إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث ، فعومل معاملته كما سيأتي .

ويجوز أن يكون " لونها " مبتدأ و " تَسُرُّ " خبره ، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث ؛ كقوله : [ الطويل ]

581- مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ *** أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّياحِ النَّوَاسِمِ

وقول الآخر : [ الطويل ]

582- وَتَشْرَقُ [ بَالقَوْلِ ] الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ *** كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّم

أنّث فعل المَرِّ والصَّدْرِ لما أضيفا لمؤنث ، وقرئ : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } [ يوسف : 10 ] .

وقيل : لأن المراد باللَّون هنا الصُّفرة ، وهي مؤنّثة ، فحمل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفر فاقع ، وأبيض ناصع ، ويَقِقٌ ولَهِقٌ ولِهَاقٌ ، وأخضر ناضر ، وأحمر قانئ ، وأسود حالك وحائك وَحُلْكُوك ، ودَجُوجِيٌّ وغِرْبِيبٌ ، وبَهِيم .

وقيل : " البهيم الخالص من كل لون " .

وبهذا يظهر أن " صفراء " على بابها من اللون المعروف لا سَوْدَاء كما قاله بعضهم : فإن الفُقُوع من صفة الأصفر خاصّة ، وأيضاً فإنه مجاز بعيد ، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لِقُرْبِ سوادها من الصّفرة ، كقوله تعالى : { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] وقال [ الخفيف ]

583- تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وتِلْكَ رِكَابِي *** هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ

فإن قيل : هلاّ قيل : صفراء فاقعة ؟ وأي فائدة في ذلك اللون ؟

فالجواب : فائدته التأكيد ؛ لأن اللون اسم للهَيْئَةِ ، وهي الصّفرة ، فكأنه قال : شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك : جدّ جدّه .

وعن وهب : إذا نظرت إليها خُيِّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جِلْدِهَا ، فمعنى قوله : " تَسُرُّ النَّاظِرِينَ " أي : يعجبهم حسنها وصَفَاءُ لونها ، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن .

قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : من لبس نعلاً صفراء قلّ همه ؛ لأن الله تعالى يقول : { صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } .

قال الكسائي ؛ يقال : فَقَع لونها يَفْقَعُ فُقُوعاً ، إذا خَلَصَت صفرته ، والإفْقَاع : سوء الحال ، وفَوَاقِعُ الدهر : بَوَائِقُه ، وفَقَّع بأصابعه : إذا صوَّت ، ومنه حديث ابن عباس : " نَهَى عن التَّفقيع في الصلاة " ، وهي الفرقعة ، وهي غَمْزُ الأصابع حتى تُنْقِض ، قاله القرطبي .

واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قُرونها وأظلافها ، أو الصفرة المعتادة ؟ قولان . وفي قوله : " فاقع " لطيفة ، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار . يعني : في الماضي والمستقبل .

وفي قوله : " تَسُرُّ " لطيفةٌ ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدُّد والحدوث ، بخلاف الماضي .

وفي قوله : " النَّاظرين " آية لطيفة ، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المُحَلّى بالألف واللام ، ليعمّ كلّ ناضر منفردين ومجتمعين .

وقيل : المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين ، وهو التفكر في المخلوقات .

قوله : { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } جملة في محل رفع صفة ل " بقرة " أيضاً ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبراً عن " لونها " بالتأويلين المذكورين .

و " السرور " لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه ، ومنه [ السرير ] الذي يُجْلس عليه إذا كان لأولي النعمة ، وسرير الميت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك .