البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ صَفۡرَآءُ فَاقِعٞ لَّوۡنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ} (69)

اللون : معروف ، وجمعه على القياس ألوان .

واللون : النوع ، ومنه ألوان الطعام : أنواعه .

وقالوا : فلان متلوّن : إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد ، ومنه : يتلوّن تلوّن الحرباء ، وذلك أن الحرباء ، لصفاء جسمها ، أي لون قابلته ظهر عليها ، فتنقلب من لون إلى لون .

الصفرة : لون معروف ، وقياس الفعل من هذا المصدر : صفر ، فهو أصفر ، وهي صفراء ، كقولهم : شهب : فهو أشهب ، وهي شهباء .

الفقوع : أشدّ ما يكون من الصفرة وأبلغه ، يقال : أصفر فاقع ووارس ، وأسود حالك وحايك ، وأبيض نقق ولمق ، وأحمر قاني وزنجي ، وأخضر ناضر ومدهام ، وأزرق خطباني وأرمك رداني .

السرور : لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق .

وقال قوم : السرور والفرح والحبور والجذل نظائر ، ونقيض السرور : الغم .

والقول في : { ادع لنا ربك } ، وفي جزم : { يبين } ، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله ، فأغنى عن ذكره .

{ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء } : قال الجمهور : هو اللون المعروف : ولذلك أكد بالفقوع والسرور ، فهي صفراء حتى القرن والظلف ، وقال الحسن وأبو عبيدة : عنى به هنا السواد ، قال الشاعر :

وصفراء ليست بمصفرّة *** ولكن سوداء مثل الحمم

وقال سعيد بن جبير : صفراء القرن والظلف خاصة .

{ فاقع } : أي شديد الصفرة ، قاله ابن عباس والحسن ؛ أو الخالص الصفرة ، قاله قطرب ، أو الصافي ، قاله أبو العالية وقتادة .

{ لونها } : ذكروا في إعرابه وجوهاً : أحدها : أنا فاعل مرفوع بفاقع ، وفاقع صفة للبقرة .

الثاني : أنه مبتدأ وخبره فاقع .

والثالث : أنه مبتدأ ، و { تسرّ الناظرين } خبر .

وأنث على أحد معنيين : أحدهما : لكونه أضيف إلى مؤنث ، كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه .

والثاني : أنه يراد به المؤنث ، إذ هو الصفرة ، فكأنه قال : صفرتها تسر الناظرين ، فحمل على المعنى كقولهم : جاءته كتابي فاحتقرها ، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأوّل ، لأن إعراب لونها مبتدأ ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه الكوفيون ، أو تسرّ الناظرين خبره ، فيه تأنيث الخبر ، ويحتاج إلى تأويل ، كما قررناه .

وكون لونها فاعلاً بفاقع جار على نظم الكلام ، ولا يحتاج إلى تقديم ، ولا تأخير ، ولا تأويل ، ولم يؤنث فاقعاً وإن كان صفة لمؤنث ، لأنه رفع السبى ، وهو مذكر فصار نحو : جاءتني امرأة حسن أبوها ، ولا يصح هنا أن يكون تابعاً لصفراء على سبيل التوكيد ، لأنه يلزم المطابقة ، إذ ذاك للمتبوع .

ألا ترى أنك تقول أسود حالك ، وسوداء حالكة ، ولا يجوز سوداء حالك ؟ فأمّا قوله :

وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً *** كأن ذكي المسك فيها يفتق

فبابه الشعر ، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة ، وجاء { صفراء فاقع لونها } ، ولم يكتف بقوله : صفراء فاقعة ، لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة ، فحكم عليها أنها صفراء ، ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة ، فابتدأ أوّلاً بوصف البقرة بالصفرة ، ثم أكد ذلك بوصف اللون بها ، فكأنه قال : هي صفراء ، ولونها شديد الصفرة .

فقد اختلفت جهتا تعلق الصفرة لفظاً ، إذ تعلقت أوّلاً بالذات ، ثم ثانياً بالعرض الذي هو اللون ، واختلف المتعلق أيضاً ، لأن مطلق الصفرة مخالف لشديد الصفرة ، ومع هذا الاختلاف الظاهر فلا يحتاج ذلك إلى التوكيد .

قال الزمخشري : فإن قلت ، فهلا قيل : صفراء فاقعة ؟ وأي فائدة في ذلك اللون ؟ قلت : الفائدة فيه التوكيد ، لأن اللون اسم للهيئة ، وهي الصفرة ، فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها ، فهو من قولك : جد جده ، وجنونك جنون .

اه كلامه .

وقال وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها .

{ تسرّ الناظرين } : أي تبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها .

وهذه الجملة صفة للبقرة ، وقد تقدّم قول من جعلها خبراً ، كقوله : لونها ، وفيه تكلف قد ذكرناه .

وجاء هذا الوصف بالفعل ، ولم يجيء باسم الفاعل ، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد .

ولما كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدّد ، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل ، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله ، لأنه ناشىء عن الوصف قبله ، أو كالناشىء ، لأن اللون إذا كان بهجاً جميلاً ، دهشت فيه الأبصار ، وعجبت من حسنه البصائر ، وجاء بوصف الجمع في الناظرين ، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها ، متلذذة فيها بالنظر .

فليست مما تعجب شخصاً دون شخص ، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق ، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ بها ، وإن كان النظر هنا من نظر القلب ، وهو الفكر ، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله ، من تحسين لونها وتكميل خلقها .

والضمير في تسرّ عائد على البقرة ، على تقدير أن تسرّ صفة ، وإن كان خبراً ، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه .

وقد تقدّم توجيه التأنيث ، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء ، فهو عائد على اللون ، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ ، ويسر خبراً ، ويكون فاقعاً صفة تابعة لصفراء ، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو :

وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً***

على قلة ذلك ، ويحتمل أن يكون لونها فاعلاً بفاقع ، ويسر إخبار مستأنف .

وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ، ولهذا كان علي كرم الله وجهه ، يرغب في النعال الصفر .

وقال ابن عباس : الصفرة تبسط النفس وتذهب الهم ، وكان ابن عباس أيضاً يحض على لبس النعال الصفر .

ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود ، لأنها تهم .

/خ74