الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ صَفۡرَآءُ فَاقِعٞ لَّوۡنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ} (69)

قوله تعالى : { مَا لَوْنُهَا } : كقولِه " هي " ؟ وقال أبو البقاء : " ولو قُرئ " لونَها " بالنصب لكان له وجهٌ ، وهو أن تكونَ " ما " زائدة كهي في قوله :

{ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ } [ القصص : 28 ] ويكون التقديرُ : يبين لنا لونَها ، وأمَّا " ما هي " فابتداءٌ وخبرٌ لا غيرُ إذ لا يُمْكِنُ جَعْلُ " ما " زائدةً لأنَّ " هي " لا يَصِحُّ أن تكونَ مفعولَ يبيِّن " يعني أنها بصيغةِ الرفع ، وهذا ليس من مواضعِ زيادةِ " ما " فلا حاجةَ إلى هذا . واللونُ عبارةٌ عن الحمرةِ والسوادِ ونحوِهما . واللونُ أيضاً النوعُ وهو الدَّقَل نوعٌ من النحل ، قال الأخفش : " هو جَماعةٌ واحدها : لِينة " وسيأتي . وفلان يَتَلَوَّن أي : لا يثبُتُ على حالٍ ، قال الشاعر :

كلَّ يومٍ تتلوَّنْ *** غيرُ هذا بك أَجْمَلْ

قوله : { صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } بجوز أن يكونَ " فاقعٌ " صفةً و " لونُها " فاعلٌ به ، وأن يكونَ خبراً مقدماً ، و " لونُها " مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ ، ذكرها أبو البقاء . وفي الوجهِ الأول نظرٌ ، وذلك أن بعضَهم نقلَ أن هذه التوابعَ للألوانِ لا تعملُ عَمَلَ الأفعال . فإنْ قيل : يكونُ العملُ لصفراء لا لفاقع كما تقول : مررتُ برجلٍ أبيضَ ناصعٍ لونُه ، فلونُه مرفوعٌ بأبيض لا بناصع ، فالجوابُ : أنَّ ذلك ههنا ممنوعٌ من جهةٍ أخرى ، وهو أنَّ صفراء مؤنثٌ اللفظِ ، ولو كانَ رافعاً ل " لونُها " لقيل : أصفرُ لونُها ، كما تقول : مررت بامرأةٍ أصفرَ لونُها ، ولا يجوز : صفراءَ لونُها ، لأنَّ الصفةَ كالفِعْل ، إلا أن يُقال : إنه لمَّا أُضيف إلى مؤنثٍ اكتسَب منه التأنيثَ فعُومِل معاملتَه كما سيأتي ذِكْرُه . ويجوز أن يكونَ " لونُها " مبتدأً ، و " تَسُرُّ " خبرَه ، وإنما أَنَّث الفعلَ لاكتسابِه بالإِضافةِ معنى التأنيث : كقوله :

مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ *** أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسِمِ

وقول الآخر :

وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَه *** كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ

أنَّث فعلَ المَرِّ والصدرِ لَمَّا أُضيفا لمؤنثٍ ، وقُرئ { تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } [ يوسف : 10 ] وقيل : لأنَّ المرادَ باللونِ هنا الصفرةُ ، وهي مؤنثةٌ فَحُمِل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفرُ فاقعٌ ، وأبيضُ ناصعٌ وَيَقِقٌ ولَهِقٌ ، ولِهاقٌ وأخضرُ ناصعٌ ، وأحمرُ قانئٌ وأسودُ حالِكٌ وحائِك وحَلَكُوك وحُلْكُوك ودَجُوجيّ وغِرْبيب وبهيم ، وقيل : " البهيم الخالصُ من كل لون " . وبهذا يَظْهر أن صفراء على بابها من اللون المعروفِ لا سوداء كما قاله بعضهم ، فإنَّ المفقوعَ من صفةِ الأصفرِ خاصةً ، وأيضاً فإنه مجازٌ بعيدٌ ، ولا يُسْتَعمل ذلك إلا في الإِبِلِ لقُرْب سوادها من الصفرةِ كقوله تعالى : { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] . وقال :

تلك خَيْلِيْ منه وتلكَ رِكابي *** هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزَّبيبِ

قوله : { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً ل " بقرة " أيضاً ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ خبراً عن " لونها " بالتأويلين المذكورين . والسرورُ لَذَّةٌ في القلب عند حصولِ نَفْعِ أو توقُّعِه ، ومنه " السريرُ " الذي يُجْلَسُ عليه إذا كان لأولي النِّعمةِ ، وسريرُ الميِّت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك .