اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (67)

في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه تعالى لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المَنّ والسَّلْوَى ، ورفع الطُّور ، وغير ذلك ذكر بعده هذه النعم التي بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم .

الثّاني : أنه تعالى لما حكى عنهم التَّشْديدات والتعنُّت كقولهم : { أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] ، وغير ذلك من التعنُّت ذكر بعده تعنتاً آخر ، وهو تعنتهم في صفة البقرة .

الثالث : ذكرها معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب .

هذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .

والجمهور على ضم الرَّاء في " يَأْمُرُكم " ؛ لأنه مضارع معرب مُجَرّد عن ناصب وجازم ، وروي عن{[1378]} أبي عمرو سكونها سكوناً محضاً ، واختلاس الحركة ، وذلك لتوالي الحركات ، لأن الراء حرف تكرير ، فكأنها حرفان ، وحركتها حركتان .

وقيل : شبَّهها ب " عَضْد " فَسُكِّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصل ، وهذا كما تقدم في قراءة { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النُّحَاة ، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه .

ويجوز إبدال همزة " يَأمُرُكمْ " ألفاً ، وهذا مطرد .

و " يأمركم " هذه الجُمْلة في محلّ رفع خبر ل " إن " ، و " إن " وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولاً بالقول ، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه ، والظرف معمول لفعل محذوف أي : اذكر .

قوله : { أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } أن وما حيّزها مفعول ثانٍ ل " يأمركم " ، فموضعها يجوز أن يكون نصباً ، وأن يكون جرًّا على ما مضى من الخلاف ، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تَذْبَحُوا ، ويجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب ؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه ، ولو لم تكن الباء في " أن " نحو : " أمرتك الخير " .

و " البقرة " واحدة البقر ، تقع على الذّكر والأنثى نحو : " حَمَامة " ، والصِّفة تميز الذّكر من الأنثى ، تقول : بقرة ذكر ، وبقرة أنثى .

وقيل : بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور ، نحو : نَاقَة وجَمَل ، وأَتَان وحِمَار .

وسمي هذا الجنس بذلك ، لأنه يَبْقُر الأرض ، أي : يشقّها بالحرث ، ومنه : بَقَرَ بطنه ، والباقر أبو جعفر{[1379]} ، لشقِّه العلم ، والجمع " بَقَر وَبَاقِر وَبَيْقُور وَبَقِير " .

و " البَقِيرة " : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّين .

فصل في قصة القتيل

روي عن ابن عباس وسائر المفسرين : أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له ليرثه ، وقيل : لينكح زوجته ، وقيل : إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته ، وكان امتنع من تزويجها له ، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق ، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل ، فلما لم يظهر قالوا : قل لربك " بَيِّنْه " فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [ فعجبوا ]{[1380]} من ذلك ، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النَّعت إِلاَّ عند إنسان معيّن ولم يبعها إلاَّ بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها ، وأمرهم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أن يأخذوا عُضْواً منها ، فيضربوا به القتيل ، ففعلوا فأحيا الله القتيل ، وسمى لهم قاتلهم ، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [ فوراً ]{[1381]} .

قوله : " أَتتَّخِذُنَا هُزواً " المفعول الثاني ل " أتتخذنا " هو " هُزواً " ، وفي وقوع " هزواً " مفعولاً ثانياً ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه على حَذْف مضاف ، أي : ذوي هزء .

الثاني : أنه مصدر واقع موقع المفعول به ، أي مهزوءاً بنا .

الثالث : أنهم جعلوا نفس الهزء مُبَالغة . وهذا أولى .

وقال الزمخشري{[1382]} : وبدأ ب " أَتَجْعَلُنَا " مكان هُزْءٍ ، وهو قريب من هذا . وفي " هزواً " ستّ قراءات{[1383]} ، المشهور منها ثلاث : " هُزُؤًا " بضمتين مع الهمز ، و " هُزْءًا " بسكون الزَّاي مع الهمز وصلاً ، وهي قراءة حمزة رحمه الله ، فإذا وقف أبدلها واواً ، وليس قياس تخفيفها ، وإنما قياسه إلقاء حركتها على الساكن قبلها .

وإنما اتبع رسْمَ المصحف ، فإنها رسمت فيه " واو " ، ولذلك لم يُبْدِلها في " جزءاً " واواً وقفاً لأنها لم تُرْسَم فيه واواً كما سيأتي ، وقراءته أصلها الضم كقراءة الجماعة إلاّ أنه خُفِّفَ كقولهم في عنق : عُنْق .

وقيل : بل هي أصل بنفسها ليست مخففةً من ضم .

حكى مكّي عن الأخفش عن عيس بن عمر : " كل اسم ثلاثي أوله مضموم يجوز فيه لغتان : التخفيف والتثقيل " .

و " هُزُواً " بضمتين مع الواو وصلاً ووقفاً ، وهي قراءة حفص عن عاصم ، كأنه أبدل الهمزة واواً تخفيفاً ، وهو قياس مطرد في كل همزة مفتوحة مضموم ما قبلها نحو : جُوَن في جُؤَن ، وحكم [ كُفْواً ]{[1384]} في قوله :

{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] حكم " هزواً " في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً .

و " هْزاً " بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها ، وهو أيضاً قياس مطرد .

و " هُزْواً " بسكون العين مع الواو . و " هُزًّا " بتشديد الزاي من غير همزة ، ويروى عن أبي جعفر [ وتقدم معنى " الهزء " في أول سورة ]{[1385]} .

وقال الثعلبي في تفسيره : قرئ : " هُزُؤًّا " و " كُفُؤًّا " مثقلات ومهموزات ، وهي قراءة أبي عمرو وأهل " الشام " و " الحجاز " واختار الكسائي ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم " هُزُوًّا " و " كُفُوًّا " مثقلات بغير همز قال : وكلّها لغات صحيحة فصيحة معناها : الاستهزاء .

فصل في الباعث على تعجبهم

القوم إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم لما طلبوا من موسى عليه الصلاة والسَّلام تعيين القاتل ، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام : اذبحوا بقرة فلم يفرقوا ، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة ، فظنوا أنه عليه الصَّلاَة والسَّلاَم يُدَاعبهم ؛ لأنه من المحتمل أن يكون عليه الصَّلاة والسَّلام أمرهم بذبح البقرة ، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ، وضربوا القتيل ببعضها يصير حياً ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام بيّن لهم كيفية الحال إلاّ أنهم تعجّبوا من [ أن ]{[1386]} القتيل كيف يصير حيًّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة ، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء .

نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ قال : " وإنما أمروا والله أعلم بذبح بقرة دون غيرها ؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته " .

وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة ، وليس بعلّة في جواب السَّائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حَيّ ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها .

فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك ؟

قال بعضهم : إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى عليه الصلاة والسلام : أتتخذنا هزوًا ، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر ، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى عليه الصلاة والسلام هل هو بأمر الله ، فقد جَوّزوا الخيانة على موسى عليه الصَّلاة والسِّلام في الوحي ، وذلك أيضاً كفر ، ومن الناس من [ قال ]{[1387]} : إنه لا يوجب الكفر لوجهين :

الأول : أن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يداعبهم مُدَاعبة حقّه ، وذلك لا يوجب الكفر .

والثاني : أن معنى قوله : " أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً " أي : ما أعجب هذا الجواب ، كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء .

قوله : " أَعُوذُ بِاللَّهِ " تقدم إعرابه في الاستعاذة .

وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى ، كأنه قال لا أهزأ مستعيذاً بالله من ذلك فإن الهازئ جاهل ، فلم يستعذ موسى عليه الصلاة والسلام من الشَّيء الذي نسبوه إليه ، لكنه استعاذ من السَّبب الموجب له ، كما يقول : أعوذ باللَّه من عدم العَقْل ؛ وغلبة الهَوَى ، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازاً .

ويحتمل أن يكون المراد " أعوذ باللَّه أن أَكُونَ من الجَاهِلِين " بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد ، والوعيد العظيم ، فإني متى علمت ذلك امتنع إقْدَامي على الاستهزاء .

وقال بعضهم : إن نفس الهزوّ قد يسمى جهلاً وجهالة ، فقد روي عن بعض أهل اللُّغة أن الجَهْل ضدّ الحلم ، كما قال بعضهم : إنه ضدّ العلم .

قوله : " أَنْ أَكُونَ " أي من أن{[1388]} أكون ، فيجيء فيه الخلاف المعروف .

و " مِنَ الْجَاهِلِيْنَ " خبرها ، وهو أبلغ من قولك : أن أكون جاهلاً . فإن المعنى أنْ انتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل .


[1378]:- انظر البحر المحيط: 1/414، والدر المصون: 1/253، والقرطبي: 1/301.
[1379]:- محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، لأنه بقر العلم، أي شقه وعرف ظاهره وخفيه، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، ولد سنة 56هـ، عرض على أبيه زين العابدين وروى عنه وعن جابر وابن عمر، سئل عن أبي بكر وعمر فقال: تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى. توفي سنة 118هـ، وقيل غير ذلك. ينظر غاية النهاية: 2/202.
[1380]:- في ب: فتعجبوا.
[1381]:- في أ: قودا.
[1382]:- ينظر الكشاف: 1/148.
[1383]:- انظر الكلام عن هذه القراءات في: الكشف: 1/247، والسبعة: 157، وحجة القراءات: 100، 101، والشواذ: 6، والحجة: 2/100- 104، والعنوان: 69، وشرح شعلة: 265، وشرح الطيبة: 4/33، 35، وإتحاف: 1/ 397.
[1384]:- في ب: كفئا.
[1385]:- في أ: قراءة حفص عن عاصم.
[1386]:- سقط في ب.
[1387]:- في ب: يقول.
[1388]:- في ب: بأن.