اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (62)

قال ابن عباس : والمراد ب " الذين آمنوا " هم الذين آمنوا قبل [ مبعث ] محمد بعيسى عليهما الصلاة والسلام مع البراءة عن أباطيل اليهود مثل قَسّ بن سَاعِدة ، وبحيرى الراهب ، وحبيب النَّجَّار ، وزيد بن عمرو بن نُفَيل ، وَورقَة بن نَوْفَل وسلمان الفَارِسي ، وأبو ذر الغفاري ، وخَطَر بن مَالِك ، ووَفْد النجاشي ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد ، والذين كانوا على الأديان الباطلة كلّ من آمن منهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالله واليوم الآخر ومحمد ، فلهم أجرهم .

وقال سفيان الثوري : المراد من قوله : " الذين آمنوا " هم المنافقون ؛ لأنهم يؤمنون باللِّسَان دون القَلْبِ ، ثم اليهود والنصارى والصَّابئون ، فكأنه قال : هؤلاء المُبطلون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم أجرهم .

وقال المتكلمون : المراد أنَّ الذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي ، ثم قوله : " من آمَنَ بالله " يقتضي المستقبل ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا في الماضي ، وثبتوا عليه في المستقبل .

و " هَادُوا " في ألفه قولان :

أحدهما : أنه من واو ، والأصل " هَادَ يَهُود " أي : تاب ؛ قال الشاعر [ السريع ]

549- . . . *** إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ

أي : تائب ، ومنه سمي اليَهُود ، لأنهم تابوا عن عبادة العِجْلِ ، وقالوا :

{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا .

[ قاله ] ابن عباس .

وقيل : هو من التهويد ، وهو النطق في سكون ووَقَارٍ ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]

550- وَخُودٌ مِنَ اللاَّئِي تَسَمَّعْنَ بِالضُّحَى *** قَرِيضَ الرُّدَافَى بِالغِنَاءِ المُهَوِّدِ

وقيل : من " الهَوَادَة " ، وهي الخضوع .

الثاني : أنها من ياء ، والأصل : " هَادَ يَهِيد " ، أي : تَحَرَّك ، ومنه سمي اليهود ؛ لتحركهم في دراستهم ، قاله أبو عمرو بن العلاء .

وقيل : سموا يهوداً نسبة ليَهُوذَا بالذال المعجمة وهو ابن يَعْقُوب عليه الصلاة والسلام ، فغيَّرته العرب بالدّال المهملة ، جرياً على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية ، فعرب ونسب الواحد إليه ، فقيل يَهُودِيّ ، ثم حذف الياء في الجمع ، فقيل يَهُود .

وكل جمع منسوب إلى جنس ، فهو بإسقاط ياء النسب ؛ كقولهم في " زِنْجِيّ " : زَنْجٌ ، وفي " رُومِيّ " : رُوم أيضاً . وهيادا : إذا دخل في اليهودية ، وتهوَّد إذا [ نسبه إليهم ] وهوّد إذا دعا إلى اليهودية .

والنَّصَارى جمع واحده " نَصْرَان " ، و " نَصْرَانة " ك : " نَدْمَان ونَدمانة ونَدَامَى " ، قاله سيبويه ؛ وأنشد : [ الطويل ]

551- فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا *** كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ

وقال عليه الصلاة والسلام : " فأبواه يُهَوِّدَانِهِ{[1363]} " .

وقرأ أبو السمال ومجاهد : " هادَوْا " بفتح الدال ، وإسكان الواو كأنها من المفاعلة ، والأصل : هادَيُوا فأعلّ كنظائره .

وقيل : سُمُّوا يهوداً لميلهم عن دين الإسلام ، وعن دين موسى ، فعلى هذا إنما سموا يهوداً بعد أنبيائهم .

وقال ابن الأعرابي : يقال : هَادَ : إذا رجع من خير إلى شَرّ ، ومن شَرّ إلى خير ، وسمي اليهود بذلك لتخليطهم ، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم ، نقله النووي في " التهذيب " عن الوَاحِدِيّ .

وأنشد الطبري على " نَصْران " [ قول الشاعر ] : [ الطويل ]

552- يَظَلُّ إِذَا دَارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً *** وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ

قال سيبويه : إلا أنه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النَّسَب .

وقال الخليل : " واحد النصارى نَصْرِيّ ، كمَهْرِيٍّ ومَهَارَى " .

وقال الزمخشريُّ : الياء في " نَصْرانِيّ " للمبالغة كالتي في " أًحْمَرِيّ " و " نَصَارَى " نكرةٌ ، ولذلك دخلت عليه أل ، ووصف بالنكرة في قول الشاعر : [ البسيط ]

553- صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُ *** سَاقِي نَصَارَى قُبَيْلَ الفِصْحِ صُوَّامِ

وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها ، وقياسه النَّصَارنيون . وسموا بذلك نسبة إلى قرية يقال لها : " نَاصِرة " كان ينزلها عيسى عليه الصلاة والسلام ، قاله ابن عباس ، وقَتَادة ، وابن جُرَيْج . فنسب عيسى إليها ، فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب أصحابه إليه قيل : النَّصَارَى .

قال الجوهري : و " نَصْران " قرية ب " الشَّام " ينسب إليها النصارَى . أو لأنهم كانوا يتناصرون ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]

554 - لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطاً أَنْصَارَا *** شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتي الإِزَارَا

كُنْتُ لَهُمْ من النَّصَارَى جَارَا *** . . .

وقيل : لأن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين : { مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] .

و " الصَّابئين " الجمهور على همزه ، وقرأه نافع وشيبة والزهري بياء ساكنة غير مهموزة ، وعن أبي جعفر بياءين خَالِصَتَيْنِ بدل الهمزة ، فمن همزه جعله من صَبَأَ نابُ البعير أي : خرج ، وصبأت النجوم : طلعت .

وقال أبو علي : صَبَأْتُ على القوم إذا طَرَأْتُ عليهم . فالصَّابئ : التَّارك لدينه ، كالصَّابئ الطارئ على القوم ، فإنه تارك لأرضه ، ومنتقل عنها .

ومن لم يهمز فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مأخوذاً من المهموز فَأَبْدَلَ من الهمزة حرف علّة إما ياء أو واواً ، فصار من باب المنقوص مثل : " قاضٍ أو غازٍ " ، والأصل : صاب ، ثم جمع كما يجمع القاضي أو الغازي ، إلا أن سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلاَّ في الشعر ، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقاً .

الثَّاني : أنه من باب " صَبَا . . يَصْبُو " إذا مال ، ولذلك كانت العرب يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً ؛ لأنه أظهر ديناً خلاف أديانهم ، فالصَّابي كالغازي أصله : " صَابِوُا " فأعلّ كإعلال غازٍ ، وأسند أبو عبيد إلى ابن عباس : " ما الصَّابون إنا هي الصابئون ، والخَاطُون إنما هي الخاطئون " . فقد اجتمع في قراءة نافع همز " النبيين " ، وترك همز " الصابئين " . [ وقد عُلم أنّ العكس فيهما أفصح ] .

فصل في تفسير الصابئين

[ وللمفسرين في تفسير " الصَّابئين " أقوال ] :

فقال مُجَاهد والحسن : هم طائفة بين اليَهُود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم .

وقال السّدي : هم فرقة من أهل الكتاب [ وقاله إسحاق بن راهويه . قال ابن المنذر ] :

وقال إسْحَاق : لا بأس بذبائح الصابئين ؛ لأنهم طائفة من أهل الكتاب .

وقال أبو حنيفة : لا بأس بذبائحهم ، ومناكحة نسائهم .

وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النَّصَارى ، إلاَّ أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصَّلاة والسَّلام . [ نقله ] القرطبي .

وقال قَتَادَةُ : قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات .

وقال أيضاً : الأديان خمسة أربعة للشَّيطان ، وواحد للرحمن ، وهم : الصابئون وهم يعبدون الملائكة ، والمَجُوس يعبدون النَّار ، والذين أشركوا يعبدون الأوثان ، واليهود والنَّصَارى ، وقال : هم قبيلة نحو " الشام " بين اليهود والنَّصَارى ، والمجوس لا دين لهم ، وكان مجاهد لا يراهم من أهل الكِتَابِ ، وهو منقول عن أبي حنيفة .

وقال قتادة ومُقَاتل : هم قوم يقرون بالله عز وجل ، ويعبدون الملائكة ، ويقرون بالزَّبُور ، ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كلّ دين شيئاً .

وقال [ الكلبي ] : " هم قوم بين اليهود والنَّصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ، ويجبُّون مذاكيرهم " . وقال عبد العزيز بن يحيى : درجوا وانقرضوا .

وقيل : هم الكلدانيون الذين جاءهم إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام رادًّا عليهم ومبطلاً لقولهم ، وكانوا يعبدون الكواكب .

قال ابن الخطيب : وهو الأقرب ، ثم لهم قولان :

أحدهما : أنَّ الله خلق هذا العالم ، وأمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قِبْلَةَ الصلاة ، والدعاء والتعظيم .

والثاني : أن الله سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب ، وجعل الكواكب مدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر ، والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها ؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم .

قوله : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً } آمن : صدق . و " من " في قوله : " مَنْ آمَنَ " في موضع نصب بدل من " الَّذِينَ آمَنُوا " . والفاء في قوله : " فَلَهُمْ " داخلة بسبب الإبهام الذي في " مَنْ " .

وقيل : في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، و " آمن " في موضع جزم بالشرط ، و " الفاء " جواب و " لَهُمْ أَجْرُهُمْ " خبر " من " والجملة كلها خبر " إن " ، والعائد على " الذين " محذوف تقديره : من آمن منهم بالله ، وحمل الضمير على لفظ " مَنْ " فأفرد ، وعلى المعنى في قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } فجمع ؛ كقوله : [ الطويل ]

555 أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إنْ عَرَضْتُمَا *** وقُولاَ لَهَا : عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا

وقال الفرزدق : [ الطويل ]

556 - تَعَالَ فإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخْونُنِي *** نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ

[ فراعى المعنى ] وقد تقدم تحقيق ذلك [ عند ] قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا } [ البقرة : 8 ] والأجر في الأصل مصدر يقال : أجره الله يَأْجُرُه أَجْراً ، وقد يعبر به عن نفس الشيء المُجَازَى به ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين .

والمراد بهذه العِنْدِيَّةِ أن أجرهم متيقّن جارٍ مجرى الحاصل عندهم .

قوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فقيل : أراد زوال الخوف [ عنهم ] في الدنيا .

وقيل : الآخرة وهو أصح ؛ لأنه عامّ في النفي ، وكذا قوله : " وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " ، وهذه لا تحصل في الدنيا ؛ لأنّ المكلف في الدنيا لا ينفك من خوف وحزن ، إما في أسباب الدنيا ، أو في أمور الآخرة ، فكأنه سبحانه وعَدَهُمْ في الآخرة بالأجر ، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً من الخوف والحزن ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً ؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الخوف العظيم .

فإن قيل : فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا : " الصَّابِئين " منصوبة ، وفي " المائدة " : { وَالصَّابِئُونَ } [ المائدة : 69 ] مرفوعة . وقال في الحج : { وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [ الحج : 17 ] فقدم " الصَّابئين " على " النصارى " في آية ، وأخَّر " الصَّائبين " في الأخرى ، فهل في ذلك حكمة ظاهرة .

قال ابن الخَطِيب : إن أدركنا تلك الحكم فقد فُزْنَا بالكمال ، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم .


[1363]:- أخرجه البخاري في الصحيح (2/208) كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين حديث رقم (1385). وأبو داود في السنن حديث رقم (4714)، (4716). وأحمد في المسند (2/33، 275، 282، 393، 410 ،481)، (3/353)- ومالك في الموطأ (192) كتاب الجنائز والحميدي في مسنده (1113)- وأبو نعيم في الحلية (9/288)، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/155، 6/298.