اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا فَارِضٞ وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَۖ فَٱفۡعَلُواْ مَا تُؤۡمَرُونَ} (68)

قوله : " قَالُوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ " ف " يبيّن " مجزوم على جواب الأمر كقوله : { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا } [ البقرة : 61 ] .

قوله : " مَا هِيَ " ، " ما " استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، تقديره : أي شيء هي ؟ وما [ الاستفهامية ]{[12]} يطلب بها شرح الاسم تارة ، نحو : ما العَنْقَاء ؟ وماهية المسمى أخرى ، نحو : ما الحركة ؟ .

وقال السكاكي{[13]} : " يسأل ب " ما " عن الجنس ، تقول : ما عندك ؟ أي : أيّ أجناس الأشياء عندك ؟ وجوابه " كتاب " ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيد ؟ وجوابه : " كريم " ، وهذا هو المراد في الآية .

و " هي " ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبراً ل " ما " والجملة في محلّ نصب ب " يبيّن " ؛ لأنه معلّق عن الجملة بعده ، وجاز ذلك ، لأنه شبيه بأفعال القلوب .

قوله : " لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ " لا " نافية " ، و " فارض " صفة ل " بقرة " .

واعترض ب " لا " بين الصفة والموصوف ، نحو : " مررت برجل لا طويل ولا قصير " .

وأجاز أبو البقاء : أن يكون خبر المبتدأ محذوف ، أي : لا هي فَارِضٌ .

وقوله : " ولا بِكْر " مثل ما تقدّم .

وتكررت " لا " لأنها متى وقعت قبل خبر ، أو نعت ، أَو حال وجب تكريرها تقول : " زيد لا قائم ولا قاعد " ، و " مررت به لا ضحاكاً ولا باكياً " .

ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلافاً للمبرِّد وابن كَيْسَان ؛ فمن ذلك : [ الطويل ]

568 وَأَنْتَ امْرُؤٌ مِنَّا خُلِقُتَ لِغَيْرنا *** حَيَاتُكَ لاَ نَفْعٌ ومَوْتُكَ فَاجِعُ

وقوله : [ الطويل ]

569 قَهَرْتُ الْعِدَا لاَ مُسْتَعِيناً بِعُصْبَةٍ *** وَلَكِنْ بَأَنْواعِ الْخَدائِعِ وَالمَكْرِ

فلم يكررها في الخبر ، ولا في الحال .

و " الفارض " : المُسِنّة الهَرِمَة ، قال الزمخشريُّ : كأنها سميْت بذلك ؛ لأنها فَرَضَتْ سِنَّها ، أي : قَطَعَتْهَا وبلغت آخرها ؛ قال : [ الطويل ]

570 لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضاً *** تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ

ويقال لكل ما قَدُمَ : فارض ؛ قال [ الرجز ]

571 شَيَّبَ أَصْدَاعِيْ فَرَأْسِي أَبْيَضُ *** مَحَامِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ

أي : كبار قدماء .

وقال آخر : [ الرجز ]

572 يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ *** لَهُ قُرُوءٌ كَقُروءِ الْحَائِضِ

وقال الرَّاغب : سميت فارضاً ؛ لأنها تقطع الأرض ، والْفَرْضُ في الأصل القطع ، وقيل : لأنها تحمل الأعمال الشاقة .

وقيل : لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ ، قال : فعلى هذا تكون الفارض اسماً إسلاميّاً .

وقيل : " الفَارِضُ " : التي ولدت بطوناً كثيرة فيتسّع جوفها لذلك ؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع ، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين . ويقال : فَرَضَتْ تَفْرِضُ بالفتح فُرُوضاً .

وقيل : فَرُضَتْ بالضم أيضاً .

وقال المفضَّل بن سَلَمَةَ : الفارض : المُسِنَّة . و " البِكْر " : ما لم تحمل .

وقيل : ما ولَدَتْ بطناً واحداً ، وذلك الولد بِكْرٌ أيضاً . قال : الرجز ]

573 يَا بِكْرَ بَكْرَين وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ *** أَصْبَحْتَ مِنِّي كِذِرَاع مِنْ عَضُدْ

و " البِكْر " من الحيوان : من لم يطرقه فحل ، و " البَكْر " - بالفتح - الْفَتِيُّ من الإِبِل ، والبَكَارة بالفتح المصدر .

وقال المفضَّل بن سلمة : البِكْر : الشابة .

قال القفال - رحمه الله تعالى : اشتقاق البكر يدل على الأول ، ومنه الباكورة لأول الثمرة ، ومنه : بُكْرَة النهار ، ويقال : بكرت عليه البارحة ، إذا جاء في أول الليل .

والأظهر أنها هي التي لم تلد ؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم : ما لم يَنْزُ عليها الفحل .

قوله : عَوَانٌ صفة ل " بقرة " ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي : هي عَوانٌ كما تقدم في { لاَّ فَارِضٌ } [ البقرة : 68 ] والعوان : النَّصَف ، وهو التوسُّط بين الشيئين ، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه ؛ قال : [ الوافر ]

574- . . . *** نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارِ وَعُون

وقال الشاعر يصف فرساً : [ الطويل ]

575 كُمَيْتِ بَهِيمِ اللَّونِ لَيْسَ بِفَارِضٍ *** وَلاَ بِعَوانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ

" فرس أخصف " إذا ارتفعَ الْبَلَق من بطنه إلى جنبه ، ويقال للنخلة الطويلة : عوان ، وهي فيما زعموا لغة عَانِيَة ، حكاه القرطبي .

وقيل : هي التي ولدت مرة بعد أخرى ومنه " الحرب العوان " أي التي جاءت بعد حرب أخرى ؛ قال زهير : [ الطويل ]

576 إِذَا لَحِقَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ *** ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ

والعُوْن بسكون الواو الجمع ، وقد بضم ضرورة كقوله : [ السريع ]

577- . . . *** في الأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ

بضم الواو . ونظيره في الصحيح " قَذال وقُذُل " و " حِمَار وحُمُر " .

قوله : " بين ذلك " صفة ل " عوان " [ فهي ] في محلّ رفع ، ويتعلق بمحذوف ، أي : كائن بين ذلك ، و " بين " إنما تضاف لشيئين فصاعداً ، وجاز أن تضاف هنا إلى مفرد ؛ لأنه يشار به إلى المُثَنَّى والمجموع ؛ كقوله : [ الرمل ]

578- إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى *** وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ

كأنه قيل : بين ما ذكر من الفارض والبكر . قال الزمخشري :

فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين ، وإنما هو لإشارة المذكر ؟

قلت : لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم ، وقال : وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله : [ الرجز ]

579- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ *** كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَولِيعُ الْبَهَقْ

إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، وإن أردت السواد والبَلَق فقل : كأنهما ، فقال : أردتُ : ذَاكَ وذَلِكَ . والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها ، وجمعها ، وتأنيثها ليست على الحقيقة ، وكذلك الموصولات ، ولذلك جاء " الذي " بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله : " عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ " على جواز الاجتهاد ، واستعمال غلبة النَّص في الأحكام ، إذ لا يعلم أنها بين الفَارِض والبِكْر إلا من طريق الاجتهاد .

قوله : { مَا تُؤْمَرونَ } " ما " موصولة بمعنى " الذي " ، والعائد محذوف تقديره : تؤمرون به ، فحذفت الباء ، وهو حذف مطرد ، فاتصل الضمير فحذفت " الهاء " ، وليس هو نظير : { كَالَّذِي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] فإن الحذف هناك غير مقيس .

ويضعف أن تكون " ما " نكرة موصوفة .

قال أبو البقاء : لأن المعنى على العموم ، وهو ب " الذي " أشبه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : أمركم بمعنى مأموركم ، تسمية للمفعول بالمصدر ك " ضَرْب الأمير " قاله الزمخشري .

و " تؤمرون " مبني للمفعول ، و " الواو " قائم مقام الفاعل ، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة .

فصل في الغاية من وصف البقرة

والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها ، وذلك لأن الصَّغيرة تكون ناقصة ؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال ، والمُسِنّة صارت ناقصةً ؛ لتجاوزها حَدّ الكمال ، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال . قاله الثعلبي .


[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.