اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

هذا هو الإنعام العاشر .

والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة .

واختلفوا في ذلك الميثاق .

قال الأصَمّ : [ ما وعده الله القوم ] من الدَّلائل الدَّالة على صدق أنبيائه ورسله ، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعُهُود ؛ لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه ألبتة . وقال أبو مسلم : هو ما روى عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما رجع إلى قومه بالألواح ، قال لهم : " إن فيها كتاب الله تعالى " فقالوا : لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جَهْرَةً فيقول : هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصَّاعقة ، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، ثم قال لهم بعد ذلك : خذوا كتاب الله ، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، [ فأخذوه ] فرفع الطور هو الميثاق ؛ لأنه آية [ باهرة ] عجيبةُ تبْهِرُ العقول ، وتردّ المكذبَ إلى التصديق ، والشَّاكَّ إلى اليقين ، وأكدوا ذلك ، وعرفوا أنه من قبله تعالى وأظهروا التوبة ، وأعطوا العهد والميثاق ألاَّ يعودوا إلى ما كان منهم ، وأن يقوموا بالتوراة ، فكان هذا عهداً موثقاً . وروي عن عبد الله بن عباس : أن لله مِيثَاقَيْنِ .

الأول : حين أخرجهم من صلب آدم ، وأشهدهم على أنفسهم .

والثاني : أنه ألزم النَّاس متابعة الأنبياء ، وهو المراد من هذا العَهْدِ .

قال ابن الخَطِيبِ : " وهذا ضعيف " .

فإن قيل : لم قال : " ميثاقكم " ولم يقل : " مواثيقكم " ؟

قال القَفَّال : لوجهين :

أحدهما : أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال :

{ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي : كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره ، فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً .

والثاني : أنه لو قال : مواثيقكم لأبهم أن يكون هُنَاك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد .

قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } نظيره : { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } [ الأعراف : 171 ] . و " الواو " في قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ } واو عطف على تفسير ابن عباس ، والمعنى : أن أخذ الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قَبُول الكتاب رفعنا عليهم الجبل .

وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال ، كما يقال : " فعلت ذلك والزمان زمان " فكأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطُّور فوقكم .

وفوقكم ظرف مكان ناصبه " رفعنا " ، وحكم " فوق " مثل حكم " تحت " ، وقد تقدم الكلام عليه .

قال أبو البقاء : ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من " الطور " ؛ لأن التقدير يصير : ورفعنا الطور عالياً ، وقد استفيد من " رفعنا " . وفي هذا نظر ؛ لأن المراد به علو خاص ، وهو كونه عالياً عليهم لا مُطْلَقَ العلو حتى يصير : رفعناه عالياً كما قدره . قال : " لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع ، وإنما صار فوقهم بالرفع " .

ولقائل أن يقول : لم لا تكون حالاً مقدرة ، وقد قال هو في قوله : { بِقُوَّةٍ } إنها حال مقدرة كما سيأتي .

و " الطور " اسم [ لكلّ ] جبل ، وقيل : [ لما ] أَنْبَتَ منها خاصة دون ما لم ينبت ، وهل هو عربي أو سُرْيَانيّ قولان .

وقيل : سمي بطور بن إسماعيل عليه الصلاة والسلام ؛ وقال العَجَّاج : [ الرجز ]

557 دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرّ *** تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ

وقال الخليل : الطُّور اسم جبل معلوم ؛ لأن التعريف تقتضي حمله على جبل معهود مسمى بهذا الاسم ، وهو جبل المُنَاجاة . وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم ، فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم .

وقال ابن عباس : أمر الله جبلاً من جبال " فلسطين{[1364]} " ، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظُّلة ، وبعث ناراً من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر الملح من خلفهم ، وقيل لهم : خذوا ما آتيناكم ، أي : اقبلوا ما أعطيناكم وإلاَّ رضختكم بهذا الجبل ، وغرقتكم في هذا البحر ، وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب منه قبلوا ذلك ، وسجدوا خوفاً ، وجعلوا يلاحظون الجبل ، وهم سجود ، فصارتْ سُنّة في اليهود لا يسجدون إلاَّ على أنصاف وجوههم .

قوله : " خذوا " في محل نصب بقول مضمر ، أي : وقلنا لهم : خذوا ، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل " رفعنا " والتقدير : ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا . وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل : اؤخذ ، عند قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [ البقرة : 35 ] .

قوله : { مَا آتَيْنَاكُم } مفعول " خذوا " ، و " ما " موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أي : ما آتيناكموه .

قوله : " بقوة " في محل نَصْبٍ على الحال ، وفي صاحبها قولان :

أحدهما : أنه فاعل " خذوا " وتكون حالاً مقدرة ، والمعنى : خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به .

والثاني : أنه ذلك العائد المحذوف ، والتقدير : خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشدداً فيه أي : في العمل به ، والاجتهاد في معرفته .

قوله : " ما فيه " الضمير يعود على " ما آتيناكم " أي : اذكروا ما في الكتاب ، واحفظوه وادرسوه ، ولا تغفلوا عنه ، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان ؛ لأنه ليس من فعل العبد ، فلا يجوز الأمر به ، وفي حرف " أُبَيٍّ " " واذَّكِرُوا " بذال مشددة وكسر الكاف ، وفي حرف عبد الله " وتَذَكَّروا مَا فِيهِ " [ ومعناه ] : اتّعظوا به .

قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا ، والعذاب في العقبى .


[1364]:- (فلسطين) بالكسر، ثم الفتح؛ وسكون السين، وطاء مهملة، وآخره نون: آخر كور الشام من ناحية مصر، قصبتها بيت المقدس، ومن مشهور مدنها: عسقلان، والرملة، وغزة، وأرسوف، وقيسارية، ونابلس، وأريحا، وعمان، ويافا، وبيت جبرين، وهي أول أجناد الشام، أولها من ناحية الغرب "رفح"، وآخرها "اللجون" من ناحية الغور. وعرضه من البلقاء إلى أريحا ثلاثة أيام، و"زغر" ديار قوم لوط، وجبال الشراة إلى "أيلة" كله مضموم إلى جند فلسطين ، وأكثرها جبال؛ والسهل فيها قليل. وقيل: إنها الأرض التي قال الله- تعالى-: "الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، و"الأرض التي باركنا فيها للعالمين". وقيل: فلسطين أيضا قرية بالعراق. ينظر مراصد الاطلاع: 3/1042. والآن قد تمالأ الصهاينة والعملاء الخونة فسلبوها إسلامها، ويكيدون في الظلام لأخذ قدسها المبارك، مسرى النبي- صلى الله عليه وسلم- فرد الله كيدهم في نحورهم، وسلم الله الأرض والقدس لدينه وعباده المسلمين.