اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدٗى مُّسۡتَقِيمٖ} (67)

قوله تعالى{[31822]} : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ } لما عدد نعمه وأنه لرؤوف{[31823]} رحيم بعباده ، وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر ، أتبعه بذكر نعمه بما كلَّف ، فقال : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } . وحذف الواو من قوله : «لِكُلِّ أُمَّةٍ » لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فحذف العاطف {[31824]} .

قال الزمخشري : لأن تلك{[31825]} وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن{[31826]} معناها فلم تجد معطفاً {[31827]} .

قوله : «هم ناسكوه » هذه الجملة صفة ل «مَنْسَكاً » . وقد تقدم أنه يقرأ بالفتح والكسر ، وتقدم الخلاف فيه هل هو مصدر أو مكان{[31828]} . وقال ابن عطية : «نَاسِكُوه » يعطي أن المنسك المصدر ، ولو كان مكاناً لقال : ناسكون فيه{[31829]} . يعني أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير الظرف إلا بواسطة ( في ) . وما قاله غير لازم ، لأنه قد يتسع في الظرف فيجري مجرى المفعول فيصل الفعل إلى ضميره بنفسه ، وكذا ما عمل عمل الفعل{[31830]} .

ومن الاتساع في ظرف الزمان قوله :

وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً *** قَلِيْلٍ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُه{[31831]}

ومن الاتساع في ظرف المكان قوله :

وَمَشْرَبٍ أشْرَبُه وشيلٍ{[31832]} *** لاَ آجِنُ المَاءِ وَلاَ وَبِيْلُ{[31833]}

يريد أشرب فيْه .

فصل

روي عن ابن عباس : المَنْسَك شريعة عاملون بها{[31834]} ، ويؤيده قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً }{[31835]} [ المائدة : 48 ] . وروي عنه{[31836]} أنه قال : عيداً يذبحون فيه . وقال مجاهد وقتادة : قربان يذبحون . وقيل : موضع عبادة . وقيل : مألفاً يألفونه{[31837]} والأول أولى لأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة ، وإذا وقع الاسم على عبادة فلا وجه للتخصيص{[31838]} .

فإن قيل : هلا حملتموه على الذبح ، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة وعلى وقتها ؟

فالجواب عن الأول : لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح ، لأن سائر أفعال الحج تسمى مناسك قال عليه السلام{[31839]} : «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم » {[31840]} .

وعن الثاني : أن قوله : «هُمْ نَاسِكُوه » أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان{[31841]} . «فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ » قرأ الجمهور بتشديد النون ، وقرئ بالنون الخفيفة{[31842]} وقرأ أبو مجلز «فَلاَ يَنْزِعُنَّكَ »{[31843]} من نَزَعتهُ من كذا أي قلعته منه . وقال الزجاج : هو من نَازعتُه فَنَزَعْتُه أَنْزِعُه أي : غلبته في المنازعة{[31844]} . ومجيء هذه الآية كقوله تعالى : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا }{[31845]} [ طه : 16 ] وقولهم : لا أَرَيَّنَكَ ههنا {[31846]} .

فصل

معنى الكلام على قراءة أبي مجلز : أي اثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه{[31847]} وعلى قراءة : «يُنَازِعُنَّكَ » فيه قولان :

الأول : قال الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربك فلان أي{[31848]} : لا تضاربه{[31849]} . قال بعض المفسرين : { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر } في أمر الذبائح ، نزلت في بُدَيْل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن حُبَيش قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : مَا لَكُمْ تَأْكُلُونَ مَا تَقْتُلون بأَيْدِيْكُمْ وَلاَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّه{[31850]} . {[31851]}

والثاني{[31852]} : أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك ، وقد استقر الآن الأمر على شرعك ، وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه ، فكأنه قال : كل{[31853]} أمة بقيت منها بقية يلزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول - عليه السلام{[31854]} - فلذلك قال : { وادع إلى رَبِّكَ } أي : لا تخص بالدعاء أمة دون أمة{[31855]} ، فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك ، فإنك على هدى مستقيم والهدى{[31856]} يحتمل أن يكون نفس الدين ، وأن يكون أدلة الدين ، وهو أولى . كأنه قال : ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ، ولهذا قال : «وَإِنْ{[31857]} جَادَلُوْك » .


[31822]:تعالى: سقط من ب.
[31823]:في ب: رؤوف.
[31824]:انظر الفخر الرازي 23/ 65.
[31825]:يريد قوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [34 من السورة نفسها].
[31826]:في ب: من.
[31827]:الكشاف 3/39.
[31828]:عند قوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكا} [34 من السورة نفسها].
[31829]:تفسير ابن عطية 10/316.
[31830]:وفائدة هذا الاتساع تظهر في موضعين: أحدهما: أنك إذا كنيت عنه وهو ظرف لم يكن بد من ظهور (في) مع مضمره تقول اليوم قمت فيه، لأن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها، وإن اعتقدت أنه مفعول به على السعة لم تظهر (في) معه، لأنها لم تكن منوية مع الظاهر فتقول اليوم قمته. والثاني: أنك إذا جعلته مفعولا به على السعة جازت الإضافة إليه من ذلك قولهم يا سارق الليلة أهل الدار. أضافوا اسم الفاعل إلى الليلة كما تقول: يا ضارب زيد فإذا أضفت لا يكون إلا مفعولا على السعة. ابن يعيش 2/46.
[31831]:البيت من بحر الطويل قاله رجل من بني عامر، وهو في الكتاب 1/178، المقتضب 3/105، والكامل 1/49، أمالي ابن الشجري 1/6، 186، ابن يعيش 21/45، 46، المقرب 164، المغني 2/503 الهمع 1/203، الدرر 1/172.
[31832]:في المخطوط: ذميل. وفي البحر المحيط: رسيل.
[31833]:البيت من الرجز وهو في البحر المحيط 6/387 الهمع 1/203.
[31834]:انظر البغوي 5/609.
[31835]:[المائدة: 48].
[31836]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/609.
[31837]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/609.
[31838]:انظر الفخر الرازي 23/65.
[31839]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31840]:أخرجه مسلم (حج) 2/943، برواية: (لتأخذوا مناسككم)، أحمد 3/318، 337، 378.
[31841]:انظر الفخر الرازي 23/65.
[31842]:البحر المحيط 6/387.
[31843]:المختصر (96)، المحتسب 2/84، البحر المحيط 6/388.
[31844]:معاني القرآن وإعرابه 3/437.
[31845]:[طه: 16].
[31846]:فلفظ النهي لهم ومعناه له صلى الله عليه وسلم، أي فاثبت علي يقينك في صحة دينك ولا تلتفت إلى فساد أقوالهم، حتى إذا رأوك كذلك أمسكوا عنك ولم ينازعوك فالنهي إنما يراد به معنى من غير اللفظ، كما يراد في قولهم: لا أرينك ههنا، أي: لا تكن هنا فأراك، فالنهي في اللفظ لنفسه ومحصول معناه للمخاطب. المحتسب 2/86.
[31847]:انظر الفخر الرازي 23/65.
[31848]:في ب: و.
[31849]:معاني القرآن وإعرابه 3/437. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا من اثنين، لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا قلت: لا يجادلنك فلان فهو بمنزلة لا تجادلنه، ولا يجوز هذا في قوله: لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه، ولكن لو قلت: لا يضاربنك فلان لكان كقولك: لا تضاربن فلانا.
[31850]:في ب: ما قتله.
[31851]:انظر البغوي 5/610.
[31852]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/65 – 66.
[31853]:في ب: لكل.
[31854]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[31855]:أمة: سقط من ب.
[31856]:في ب: أو لهدى.
[31857]:في النسختين: فإن. وهو تحريف.