اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّهُۥ لَفِي زُبُرِ ٱلۡأَوَّلِينَ} (196)

قوله : { على قَلْبِكَ لِتَكُونَ } . قال أبو حيان : الظاهر تعلُّق «عَلَى قَلْبِكَ » و «لِتَكُونَ » ب «نَزَل »{[37866]} . ولم يذكر ما يقابل هذا الظاهر . وأكثر ما يتخيَّل أنه يجوز أن يتعلقا ب «تنزيل » أي : وإنه لتنزيل ربِّ العالمين على قلبك لتكون ، ولكن فيه ضعفٌ من حيث الفصل بين المصدر ومعموله بجملة : «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ » .

وقد يجاب عنه بوجهين :

أحدهما : أنَّ هذه الجملة اعتراضية ، وفيها تأكيد وتشديد ، فليست بأجنبية .

والثاني : الاغتفار في الظرف وعديله . وعلى هذا فلا يبعد أن يجيء في المسألة باب{[37867]} الإعمال{[37868]} ، فإن كلاًّ من «تَنْزِيل » و «نَزَل » يطلب هذين الجارين .

فصل :

لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام{[37869]} - أتبعه بما يدل على نبوته فقال : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } لأنه{[37870]} لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين . وأيضاً فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة ، وذلك إلاَّ بوحي من الله تعالى . وأيضاً فقوله : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين } مؤكد لما ذكرنا ، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله{[37871]} ، { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين }{[37872]} عَلَى قَلْبِكَ يا محمد ، أي{[37873]} : فهمك إياه وأثبته في قلبك كي لا تنساه كقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } : المخوِّفين . وسمي جبريل روحاً ، لأنه خلق من الروح . وقيل : لأنه نجاة الخلق في باب الدين ، فهو كالروح التي تستتبع الحياة . وقيل : لأنه روح كله ، لا كالناس في أبدانهم روح{[37874]} . وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه للأنبياء - ( عليهم السلام{[37875]} ){[37876]} - .

فصل :

روي أنَّ جبريل - عليه السلام- نزل على آدم - عليه السلام{[37877]} - اثنتا عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مرات ، وعلى نوح خمسين مرة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة ، وعلى موسى أربعمائة مرة ، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد - عليه السلام - أربع عشرة ألف مرة .

فإن قيل : لم قال : «عَلَى قَلْبِكَ » وهو إنما أنزل عليه ؟ .

فالجواب : ليؤكد أنّ ذلك المنزل محفوظ للرسول{[37878]} متمكن من قبله لا يجوز عليه التغيير ، ولأنَّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار ، وأما سائر الأعضاء فمسخّرة له ، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : { نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } [ البقرة : 97 ] ، { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] واستحقاق الجزاء ليس إلاَّ على ما في القلب ، قال تعالى{[37879]} : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] والتقوى في القلب لقوله تعالى : { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } [ الحجرات : 3 ] وقوله : { وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور } [ العاديات : 10 ] . وحكى عن أهل النار قولهم : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } [ الملك : 10 ] والعقل في القلب ، والسمع منفذٌ إليه ، وقال : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] والسمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب ، وقال : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب إلى غير ذلك من الآيات .

وأما الحديث فقوله - عليه السلام{[37880]} - : «أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فسد الجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »{[37881]} .

وأما المعقول فإنَّ القلب إذا غشي عليه ، فإذا قطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور ، وإذا أفاق{[37882]} القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات .

وأيضاً فإذا فرح القلب أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك . وأيضاً فإن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادرة عن سائر الأعضاء{[37883]} .

قوله : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين } . أي : وإن القرآن . وقيل : وإن{[37890]} محمداً ونعته { لَفِي زُبُرِ الأولين } أي : كتب الأولين . وقيل : المراد وجوه{[37891]} التخويف ، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم{[37892]} ، وفيه التفات{[37893]} ، إذ لو جرى على ما تقدم لقيل : «وإنك لفي زبر » . وقرأ الأعمش : «زُبْرِ » بسكون الباء ، وهي مخففة من المشهور{[37894]} .


[37866]:البحر المحيط 7/40.
[37867]:في الأصل: من باب.
[37868]:وهو التنازع.
[37869]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[37870]:في ب: لأن.
[37871]:انظر الفخر الرازي 24/165.
[37872]:الأمين: سقط من ب.
[37873]:أي: سقط من ب.
[37874]:انظر الفخر الرازي 24/166.
[37875]:المرجع السابق.
[37876]:ما بين القوسين في ب: عليهم الصلاة والسلام.
[37877]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[37878]:كذا في الفخر الرازي، وفي الأصل: والمرسل، وفي ب: والرسول.
[37879]:في ب: قال الله تعالى.
[37880]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[37881]:أخرجه البخاري (إيمان) 1/19-20، ومسلم (مساقاة) 3/1219، وابن ماجه (فتن) 2/1318-1319، الدارمي (بيوع) 2/245، أحمد 4/270.
[37882]:في ب: فاق.
[37883]:انظر الفخر الرازي 24/166-167.

[37890]:في ب: إن.
[37891]:في الأصل: وجود.
[37892]:انظر الكشاف 3/126، الفخر الرازي 24/169.
[37893]:انظر البحر المحيط 7/41.
[37894]:أي أنها مخففة من (زُبُر) جمع (زبور). انظر تفسير ابن عطية 11/149، البحر المحيط 7/41.