اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ} (24)

قوله : «وَجَدْتُهَا » ، هي التي بمعنى{[38672]} لقيت وأصبت ، فيتعدى لواحد ، فيكون «يَسْجُدُونَ » حالاً من مفعولها وما عطف عليه ، فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ، وأيضاً : فكيف سوَّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم ؟ .

فالجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها{[38673]} ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان - مع جلالته - مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان .

وعن الثاني : أنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، وَوَصْفُ عرشِ اللَّهِ بالعظم تعظيمٌ له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض{[38674]} .

قال المفسرون : العرش السرير الضخم كان مضروباً من الذهب مكلّلاً بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد ، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق{[38675]} .

قال ابن عباس : كان عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً{[38676]} . واعلم أن قوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم } إن قلنا : إنه من كلام الهدهد ، فالهدهد قد استدرك على نفسه ، واستقلّ عرشها بالنسبة إلى عظمة عرش الله ، وإن قلنا : إنه من كلام الله تعالى ، فالله رد عليه استعظامه لعرشها{[38677]} .

فصل :

طعنت الملاحدة في هذه القصة من وجوه :

أحدها : أَنَّ هذه الآيات اشتملت على أنَّ النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك إلاَّ عن العقلاء وذلك يجر إلى السَّفْسَطَة{[38678]} ، فإنَّا لو جوَّزنا ذلك لما أمِنّا من النملة التي نشاهدها في زماننا هذا{[38679]} أَنْ تكون أعلم بالهندسة من إقليدس{[38680]} ، وبالنحو من سيبويه ، وكذا القول في القملة والضئبان{[38681]} ، ولجوزنا أن يكون فيهم الأنبياء والمعجزات والتكاليف ، ومعلوم أنَّ مَنْ جوّزه كان إلى الجنون{[38682]} أقرب .

وثانيها : أنَّ سليمان - عليه السلام{[38683]} - كان بالشام ، فكيف طار{[38684]} الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ، ثم رجع إليه ؟ .

وثالثها : كيف خفي على سليمان ( عليه السلام ){[38685]} تلك المملكة العظيمة مع أنَّ الجن والإنس كانوا في طاعته ، وأنه - عليه السلام{[38686]} - كان ملك الدنيا كلها ، وكان تحت طاعة بلقيس - على ما يقال - اثنا عشر ألف تحت يد كل واحد منهم مائة ألف ، مع ما يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلاَّ مسيرة ثلاثة أيام ؟ .

رابعها : من أين حصل للهدهد إنكار سجودهم للشمس وإضافته للشيطان وتزيينه ؟ .

والجواب عن الأول : أنّ ذلك الاحتمال قائم في أول العقل ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع{[38687]} . وعن البواقي : أنَّ الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك{[38688]} .

فصل{[38689]} :

قالت{[38690]} المعتزلة : قوله { يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } يدل على أنَّ فعل العبد من جهته ، لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ، وأورده مورد الذم ، وبين أنهم لا يهتدون .

والجواب من جوه :

أحدها : أَنَّ هذا قول الهدهد فلا يكون حجة .

وثانيها : أنه متروك الظاهر : فإنه{[38691]} قال : { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } ، وعندكم الشيطان ، فإنه ما صدّ الكافر عن السبيل ، إذ لو صدّه الشيطان عن السبيل لكان معذوراً ممنوعاً ، فيسقط عنه التكليف فلم يبق إلاَّ التمسك بالمدح والذم ، وجوابه قد تقدم{[38692]} .


[38672]:بمعنى: سقط من ب.
[38673]:لها: سقط من ب.
[38674]:انظر الكشاف 3/139-140، الفخر الرازي 24/190.
[38675]:انظر البغوي 6/273-274.
[38676]:انظر البغوي 6/274.
[38677]:انظر البحر المحيط 7/70.
[38678]:السفسطة: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه إفحام الخم وإسكاته (من اليونانية). المعجم الوسيط (سفسط).
[38679]:هذا: سقط من ب.
[38680]:إقليدس وهو رياضي يوناني، علم في الإسكندرية، وضع مبادئ الهندسة المسطحة. المنجد في الأعلام (58).
[38681]:الضئب: من دواب الحر. الضؤبان من الجمال: السمين الشديد. المعجم الوسيط (ضأب).
[38682]:في ب: الجواب. وهو تحريف.
[38683]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38684]:في ب: صار.
[38685]:ما بين القوسين سقط من ب.
[38686]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38687]:في ب: الإجماع.
[38688]:انظر الفخر الرازي 24/190-191.
[38689]:فصل: سقط من ب.
[38690]:في ب : فإن قيل.
[38691]:في ب: كأنه.
[38692]:انظر الفخر الرازي 24/191.