قوله : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ } العامة على كسر الهمزتين على الاستئناف جواباً لسؤال قومها ، كأنهم قالوا : ممن الكتاب ؟ وما فيه ؟ فأجابتهم بالجوابين{[38821]} . وقرأ عبد الله : { وَإِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } بزيادة واو عاطفة { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } على قوله : { إني أُلْقِيَ إِلَيَّ }{[38822]} . وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتح الهمزتين ، صرح بذلك الزمخشري{[38823]} وغيره{[38824]} . ولم يذكر أبو البقاء إلا الكسر في { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } وكأنه سكت عن الثانية ، لأنها معطوفة على الأولى{[38825]} ، وفي تخريج الفتح فيهما أوجه :
أحدهما : أنه بدل من «كِتَاب »{[38826]} بدل اشتمال ، أو بدل كلٍّ من كلّ ، كأنه قيل : ألقي إليَّ أنه من سليمان{[38827]} ، وأنه كذا وكذا ، وهذا هو الأصح .
والثاني : أنه مرفوع ب «كَرِيم » ذكره أبو البقاء{[38828]} .
الثالث : أنه على إسقاط حرف العلة .
قال الزمخشري : ويجوز أن يريد لأنه من سليمان ولأنه ، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره باسم الله{[38829]} . وقال مكي : وأجاز الفراء الفتح فيهما في الكلام ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة{[38830]} وقرأ أُبيّ : أنْ من سليمان وأنْ بسم الله بسكون النون فيهما{[38831]} ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنها «أن » المفسرة ، لتقدم ما هو بمعنى القول{[38832]} .
والثاني : أنها المخففة{[38833]} واسمها محذوف ، وهذا لا يتمشى على أصول البصريين ؛ لأن اسمها لا يكون إلا ضمير شأن وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها{[38834]} .
قال المفسرون : أخذ الهدهد هذا الكتاب ، وأتى به إلى{[38835]} بلقيس ، وكان بأرض يقال لها : «مأرب » من صنعاء ، فرمى بالكتاب{[38836]} إليها ، فأخذته بلقيس ، وكانت قارئة ، ومن ثم اتخذ{[38837]} الناس البطائق ، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت ، لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها ، لطاعة الطير وهيبة الخاتم ، فقرأت{[38838]} الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد ، فقعدت على سرير ملكها ، وجمعت الملأ من قومها ، وقالت لهم : { إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }{[38839]} . قال عطاء والضحاك : سمته كريماً ، لأنه كان مختوماً{[38840]} .
وروى{[38841]} ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «كرمه ختمه »{[38842]} وقال مقاتل والزجاج : كريم أي : حسن ما فيه{[38843]} ، وروي عن ابن عباس أي : شريف لشرف صاحبه{[38844]} .
وقيل سمته كريماً ، لأنه مصدر ب «بسم الله الرحمن الرحيم »{[38845]} ، ثم بينت ممن الكتاب ، فقالت : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } ، وبينت المكتوب فقالت : { وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } . فإن قيل : لم قد سليمان اسمه على قوله : { بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ؟ .
فالجواب : حاشاه من ذلك ، بل ابتدأ الكتاب ب { بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ، وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه ، لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود ، ولذلك قالت{[38846]} : { إِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ، أي : إنّ{[38847]} الكتاب . . .
فالتقديم واقع في حكاية الحال{[38848]} . واعلم أن قوله : { بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } مشتمل على إثبات الصانع سبحانه ، وإثبات كونه عالماً قادراً{[38849]} حياً مريداً حكيماً{[38850]} رحيماً{[38851]} .
فصل{[38852]} :
وقد استنبط الشيخ الإمام العالم شرف الدين محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري{[38853]} من أسرار البسملة ما أبطل به مذهب النصارى ، فقال : بلغني أن بعض النصارى انتصر لدينه ، وانتزع من البسملة الشريفة دليلاً على تقوية اعتقاده في المسيح وصحة يقينه فقلب حروفها ونكر{[38854]} معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكّر وقدر فقتل كيف قدر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال : قد انتظم من البسملة : «المسيح ابن الله المحرر » . وظن{[38855]} ذلك سراً في قلب البسملة مضمراً ، وعلى جبين الكتاب العزيز مسطراً ، فنظرت إلى ما عزاه إلى البسملة واستخرجه من حروفها المستعملة والمهملة فإذا هو : «لا ما المسيح ابن الله محرر » ، فأسقط في يده{[38856]} ، ونكص على عقبيه ، وقامت حجته من لسانه عليه ، ثم عاد إليّ رسوله يخبر أن الذي صح له نظمه وتمت{[38857]} عنده منها حكمه : «ألم المسيح ابن الله محرراً » ، فقلت : ورسل الله كلهم ألموا وأنبياؤه ، فأي خصوصية لربك بالنبوة ، وأي رتبة زدته بها على النبوة ، فقال : أردت بالألم إثبات ما أنكرته من الصلب ، ونفيته عنه من ألم الطعن والضرب ، وقد شهدت به كتب الله المنزلة ، وشافهتك به حروف البسملة ، فقلت : وهل شهدت لك إلا بالنقيض ، ورحت منها بأخيب قداح المفيض{[38858]} ، وحيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكماً وجوزت منها أحكاماً عليك وحكماً ، فلتنصرن البسملة الأخيار منا على الأشرار ، ولتفضلن أصحاب الجن على أصحاب النار ، وحيث كان مقصودك من ذكر الألم الإفصاح عما أردته من الصلب والطعن والضرب والثلب وسقيه من الخل الممزوج بالمرار بئس الشراب فخذ الجواب عنه ، والله الموفق{[38859]} للصواب : أما دعواك النبوة فقد قالت لك البسملة بلسان حالها : لا ما المسيح ابن الله محرر ، وألحقته بقولها : الحلم ربح رأس المال ، لحملة الإيمان ، الحلم{[38860]} ربح رأس مال{[38861]} الإيمان ، ليس برّاً من أَحَلَّ ما حرم الله ، المسلم له نبي حرم الراح لنبيه{[38862]} ، سلم بالله من يحرم الراح ، لله نبي مسلم حرم الراح ، المسلم للرحمانية رابح ، لا مرحمة للئام أبناء السحرة{[38863]} ، رحم حر مسلم أناب إلى الله ، إنما الله رب للمسيح راحم . وزعمت أنه ربك ، فقالت : حرم من لا رب له إلا المسيح ، وقالت أيضاً : النحر لأمم لها المسيح رب ، وقلت : إنه حمل الله ، فقالت : أسمي لله{[38864]} ابن المحرر حملاً ، وقالت ما أسلم الرب حمله يسخر ، وقالت : ألا يحرس الرب حمله من ألم ؟ وقلت{[38865]} : إنه ألم ، فقالت المحرر من ربه حل الألم ، وقالت : سل حمرنا أربهم يحل الألم ؟ وقالت : حرم حمار ينسب لله الألم ، وقلت : إنه طعن بالحربة مسمراً ، فقالت : من رأى المسيح ألم للحربة ، وقالت : إن ربّاً حلل مسمره لحليم ، وقالت : أحالل ربنا الحليم مسمره ؟ وقالت : أمحالل الرب الحي من سمره ، وقلت : إنه{[38866]} إله يحلل ويحرم ، فقالت : ابن سليل رحم لا إله محرم ، وقالت : سل ابن مريم أحل الحرام ، وقالت : أمحلل{[38867]} لم حرمه رب الناس ، وإن قلت : إنه رسول صدقتك ، وقالت : أيل أرسل الرحمة من بلحم ويرحمه ؛ أيل اسم من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم «بيت لحم » الذي ولد في المسيح .
وقلت : إنه ركب الحمار ، فقالت : سلم أن الرب لا يحمله حمار ، وقالت للناس : رب لم يحمله حمار وباهيتها ببسملتك التي لفقها الفلاسفة للأساقفة ، فقالت لم نر أحبار الملة المسيح ، وقالت : أحبار الملة{[38868]} محل مرسلين ، وقال : ما حرر إلا{[38869]} المسيح الأمانة وقلت : إن النصارى لا تمسهم النار ، فقالت : حر لهب النار لأمم المسيح ، وكرهت الإسلام ، فقالت للإسلام بحر ما أحلى نميره ، الإسلام بحر حلالي منهمر ، حلا الإسلام لمحرره بإيمان ، وقالت : من حرم الإسلام لا ربح له ، وقالت : إن المسلم لحري بالرحمة ، وقالت : ما برح الله راحم المسلمين ، وقالت : إن ملة الإسلام لحرم رحيب ، وقالت : لا راحة لمحارب المسلمين ، وقالت : الإسلام حرم لا رأي لمحاربه . وقالت : المسلم حرب للنار الحامية ، وقالت : حن المسلم إلى رحمة الرب ، وقالت : الأحبار رحمة للمسلمين ، وقالت : المحراب راحة للمسلمين ، ونَقِمْتَ قيام الدين بالسيف ، فقالت : أم الحسام للنبي الرحمة ، وأثنت البسملة على نفسها فقالت : البسملة لأرحم الراحمين ، وقالت : الحرُّ ينال الرحمة{[38870]} ما بسمل . فانظر{[38871]} إلى البسملة قد لاحت لك بارقة من أنوارها وحلت لك عقدة من إزار أسرارها تخبر أن من وراء رجلها خيولاً وليوثاً ، ومن دون طلبها سيولاً وغيوثاً ، وأما بسملتك فلو كان على أصل ثابت ، أو لم تغرس من الكفر على أخبث المنابت ، لهززت إليك بجذعها ، واستدللت عل طيب أصلها بخير فروعها ، لكنّي وجدتها شجرة خبيثة ، وثمرة لا تسوغها القديمة ولا الحديثة ، ألفاظها تصم الأسماع ومعانيها تحلّ عقود الإجماع ، والنظر فيها يصدئ الأفهام والعقول ، ويعلم كل غائب ما يقول ، ولذلك{[38872]} ضربت عن ذكرها صفْحاً ، وعددت الإعراض عنها غنيمةً وربحاً ، فكفرها قائم وقاعد ، والمعترف بها سواء والجاحد ، والثلاثة الآلهة فيها يوصفون بالواحد ، وأما بسملة المسلمين : فإنّ الله أودعها من العلوم والحكم ما فضلهم به على سائر الأمم ، وأعلم أنّ منها ألفات اختصرت ، وبين الهجاء مواضعها غابت أو حضرت ، وقد استعملت بعضها في بعض المواضع ؛ لأبين حكمها وأحيي رسمها ، وصرفتها للمسألتين ، وصارت كعبة فضلها للقبلتين ، وتارة توافق حروفها في العدد والعادة ، وتارة تقضي على ألفات الوصل بالزيادة ، وما أخطأت - بحمد الله - منها واحدة{[38873]} صواباً ، ولا عييت جواباً ولا خرجت عن حدها{[38874]} كتابة ولا حساباً ، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة{[38875]} ، فنسجت على منوالها ، وقابلت الواحدة منها بعشر أمثالها ، وما كان ذلك الهذيان مما يُجاب ، لولا ما يداخلك من التيه والإعجاب ، فتظن أنّك جِئْتَ بشيء عُجاب ، أو حكمة كلمك الله بها وحياً أو من وراء حجابٍ ، وتقول لإخوانك الذين يمدُّونك في الغَيّ ويحسبون أنك{[38876]} على شيء : قد أفحمت بكلمتي المسلمين ، وأسكت بمسألتي فُضلاء المتكلمين ، فتذر قومك في طغيانهم ، وتقرهم على فساد إيمانهم ، ولا أنت ممن يجري بمحاكاة كفرك قلمي{[38877]} ، ولا أحرّك به لساني ، ولا أفغر به فمي ، وقد أتيتك بما يتعبك فيبهتك ويسمعك ما يصمّك عن الإجابة ، ويصمتك على أسلوب رأيته في كتب أنبيائك ، وتفاسير علمائك تعلم به أنّ هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ، ومستودع لجوهر سرِّها المكنون ، أَلاَ ترى أَنَّ البسملة إذا حصلت جُمَلها{[38878]} كان عدده{[38879]} سبعمائة وستة وثمانين ب ، س ، م ، ا ، ل ، ل ، ه ، ا ، ل ، ر ، ح ، م ، ن ، ا ، ل ، ر ، ح ، ي ، م ، 2 ، 60 ، 40 ، 1 ، 30 ، 30 ، 5 ، 1 ، 30 ، 200 ، 8 ، 40 ، 50 ، 1 ، 30 ، 200 ، 8 ، 10 ، 40 وإذا قُلتَ إِنّ مثل عيسى كآدم{[38880]} وافق جملها{[38881]} سبعمائة وستّة وثمانين ، وإنْ باهيتها ببسملتك التي ترعد من كفرها الفرائص ، وتجوز بالبهتان ما لا يجوز على الله من النقائص ، ردت عليه وقالت : ليس لله من شريك ، جملها{[38882]} سبعمائة وستة وثمانين ، بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ، وقالت : و{[38883]}لا أشرك بربّي أحداً سبعمائة وستة وثمانين ، وقالت : ما لِعُلُومِ{[38884]} الفلسفة أنوار هداية ، سبعمائة وستة وثمانين ، وقالت : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ : سبعمائة وستة وثمانين ، بإسقاط ألف الجلالة .
ولو استشهدت ببسملتك لشهدت لي بالحقّ عليك ، وشكت إلى الله وإلى النّاس مما نسبت من الإفك والبهتان إليك ، إذا ألفاظها - وحاكي الكفر ليس بكافر - تنافي المعقول والمنقول ، وتنافر : «بسم الأب والابن وروح القدس ، إله واحد » ، وباطنها يقول : «ما سبح إلاّ بنور ، الإله القدوس واحد » ، وتقول : بسملوا بالقرآن ، ووحّدُوا الله بلا جسد ، فهي كافرة الظاهر مؤمنة الباطن ، كَسُورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ونظرت في محصلها من العدد ، فإذا جملته ستمائة وستة وتسعون ، فإذا قلت : أُفٍّ لها بسملة ما نزّل اللَّه بها من سُلطَانٍ ، وافقت المعنى وطابقت العدد ، وكانت ستمائة وستة وتسعون ، وكذلك ما عطفته عليها من الكلام ، وهو : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } [ الحجرات : 11 ] موافق للمعنى مطابق للعدد : ستمائة وستة وتسعون ، وكذلك قولك : «لا بسملة بحقّ كبسملةِ المسلمين » ستمائة وستة وتسعون ، وقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خُبراً ، وجاءتك بما لم تستطع عليه صبراً ، على الأسلوب الذي تضمنته شريعتكم{[38885]} ، فإنّي رأيت في إنجيلك وقد سَأَلَتْ بنو إسرائيل المسيح أن يُرِيهم آية ، ليؤمنوا به وهو في بيت المقدس ، فقال : تهدمون هذا الهيكل ، وأنا أٌقِيمُه في ثلاثة أيام ، فقالوا : بيت بني في خمسة وأربعين سنة ، يقيمه في ثلاثة أيام ! ! وعلله في الإنجيل أنه أشار إلى هيكل نفسه الذي هو هيكل آدم ، وحمله خمسة وأربعون وفي هذا ردّ عليهم ليس هذا موضعه .
ورأيتُ في التوراة في البشارة بإسماعيل بعد قوله : «وأكبره{[38886]} وأنميه بماد ماد » ومعناه بحد جدلها بل أشار بها إلى اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بطريق الحمل ، إذ هو اثنان وتسعون في الموضعين ، وفي قصة يعقوب إذ قال لبنيه { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } [ البقرة : 133 ] ، فقالوا له : أعلم إسرائيل ( الله أحد ){[38887]} فطابت نفسه ، وعلم أن بنيه الاثني عشر سبطاً يعبدون الله وحده ، لأنّهم عَدَلُوا عن قولهم : «اللَّه واحدٌ » إلى قولهم{[38888]} : «اللَّهُ أَحَدٌ » ، إذ جملها{[38889]} ثلاثة عشر ، وهي إشارة إلى أنّ الاثني عشر سبطاً يعبدون الله الواحد . وفيه أنّ المصلّي إذا دخل في الصلاة تكون على رأسه طيلسان يسمى : «صيصيت » ، وفي طرفه خمسة خيوط وثمان عقد ليجتمع له من جمع صيصيت وهو ستمائة ومن خمسة خيوط وثمان عقد ثلاثة عشر لتتمة ما عليهم من الفرائض ، وهي ستمائة ، وثلاث عشرة فريضة ، ليذكروا{[38890]} بها ما كتب الله عليهم من الفرائض ، والتزموا ( بها ){[38891]} {[38892]} . ولنرجع إلى الإعراب والتفسير .