اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا جَآءَ سُلَيۡمَٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ} (36)

قوله : { فَلَمَّا جاء سُلَيْمَانَ } أي : فلما جاء الرسول ، أضمره لدلالة قولها «مرسِلة » فإنه يستلزم رسولاً ، والمراد به الجنس لا حقيقة رسول واحد ، بدليل خطابه لهم بالجمع في قوله : «أَتُمِدُّونَنِي . . » إلى آخره{[38928]} ، وكذلك قرأ عبد الله : فلما جاءوا ، وقرأ{[38929]} : «فارجعوا إليهم »{[38930]} ، اعتباراً بالأصل المشار إليه .

قوله : «أَتُمِدُونَنِي » استفهام إنكار ، وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وأما الياء فإنه يحذفها وقفاً ، ويثبتها وصلاً على قاعدته في الزوائد{[38931]} ، والباقون بنونين - على الأصل - وأما الياء فإن نافعاً وأبا عمرو كحمزة يثبتانها وصلاً ويحذفانها وقفاً ، وابن كثير يثبتها في الحالين ، والباقون يحذفونها في الحالين .

وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة ، فتكملت ثلاثة قراءات{[38932]} كما في : { تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] .

قال الزمخشري : ما الفرق بين قولك : أتمدونني{[38933]} بمال وأنا أغنى منكم{[38934]} ، وبين أن تقوله بالفاء ؟ قلت : إذا قلته بالواو فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى ، وهو - مع ذلك - يمدني بالمال ، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفي عليه حالي ، وإنما أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده ، كأني أقول له{[38935]} : أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه ، وعليه ورد قوله : { فما آتَانِي الله خَيْرٌ }{[38936]} انتهى .

وفي هذا الفرق نظر ، إذ لا يفهم ذلك بمجرد الواو والفاء ، ثم إنه لم يجب عن السؤال الأول ، وهو أنه : لم عدل عن قوله : وأنا أغنى منكم{[38937]} إلى قوله : { فما آتَانِي الله } ؟ .

وجوابه : أنه أسند إيتاء الغنى إلى الله ، إظهاراً لنعمته عليه ، ولو قال : وأنا{[38938]} أغنَى منكم ، كان فيه افتخار{[38939]} من غير ذكر لنعمة الله عليه ، فأظهر - بهذا الكلام - قلة الاكتراث بذلك المال . قوله : «بَلْ أَنْتُم » إضراب انتقال ، قال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه الإضراب ؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد ، وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه ، وهو أنهم لا يعرفوهم سبب رضى إلا مما يهدى إليهم من حظوظ الدنيا التي لا يعرفون غيرها ، والهدية : يجوز إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه ، وهي هنا محتملة للأمرين{[38940]} . قال أبو حيان : وهي هنا مضافة للمهدى إليه ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي ، أي : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار{[38941]} .

قال شهاب الدين : كيف يجعل الأول هو الظاهر ، ولم ينقل أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليهم هدية في هذه الحالة ، حتى يضيفها إليهم ، بل الذي يتعين إضافتها إلى المهدي{[38942]} . ومعنى الآية : { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } ، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها تفرحون بإهداء بعضكم لبعض ، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله تعالى{[38943]} قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً ، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة{[38944]} .


[38928]:المرجع السابق.
[38929]:في ب: فاقرأ.
[38930]:انظر تفسير ابن عطية 11/204، البحر المحيط 7/74.
[38931]:في الأصل: الرواية، وفي ب: الرواب. والصواب ما أثبته.
[38932]:السبعة (481-482)، الكشف 2/160، الإتحاف (336-337).
[38933]:في الكشاف: أتمدني.
[38934]:في ب: عنكم.
[38935]:له: تكملة من الكشاف.
[38936]:الكشاف 3/143.
[38937]:في ب: عنكم.
[38938]:في ب: أنا.
[38939]:في ب: إنكار. وهو تحريف.
[38940]:الكشاف 3/143. بتصرف.
[38941]:البحر المحيط 7/74.
[38942]:الدر المصون 5/194-195.
[38943]:تعالى: سقط من ب.
[38944]:انظر البغوي 6/281.