قوله : «ألاَّ يَسْجُدُوا » قرأ الكسائي بتخفيف «أَلاَ » ، والباقون بتشديدها{[38693]} ، فأمَّا قراءة الكسائي ، «أَلاَ » فيها تنبيه واستفتاح ، و «يَا » بعدها حرف نداء ، أو تنبيه أيضاً على ما سيأتي ، و «اسْجُدُوا » : فعل أمرٍ ، فكان{[38694]} حق الخط على هذه القراءة أن يكون يَا اسجُدُوا ، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يَا » وهمزة الوصل من «اسْجُدُوا » خَطاً لما سقط لَفْظاً ، ووصلوا الياء بسين «اسْجُدُوا » ، فصارت صورته «يَسْجُدُوا » كما ترى ، فاتحدت القراءتان لفظاً وخطّاً{[38695]} ، واختلفا تقديراً{[38696]} . واختلف النحويون في «يَا » هذه ، هل هي حرف تنبيه أو للنداء والمنادى محذوف ، تقديره : يَا هَؤُلاَءِ اسْجُدُوا ، وقد تقدم ذلك عند قوله في سورة النساء : «يَا لَيْتَنِي »{[38697]} والمُرَجَّحُ أَنْ تكون للتنبيه{[38698]} ، لِئَلاَّ يؤدي إلى حذفٍ كثير من غير بقاءِ ما يدلّ على المحذوف ، ألا ترى أنَّ جملة النداء حذفت ، فلو ادَّعَيْتَ حَّذْفَ المنَادى كَثُرَ الحذف ، ولم يبق{[38699]} معمولٌ يدل على عامله ؛ بخلاف ما إذا جعلتَها للتنبيه .
ولكن عَارَضنا هنا أَنَّ قبلها حرف تنبيه آخر ، وهو «أَلا » وقد اعتُذِر عن ذلك بأنه جُمِعَ بينهما تأكيداً ، وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفين عاملين للتأكيد{[38700]} ، كقوله :
3951 - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنْنِي عَنْ بِمَا{[38701]} بِهِ{[38702]} *** . . .
فغير العاملين أولى ، وأيضاً فقد جمعوا بين حرفين عاملين مُتّحدي اللفظ{[38703]} والمعنى كقوله :
3952 - فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يُلْفَى لِمَا بِي *** وَلاَ لِلما بِهِمْ أَبَداً دَوَاءُ{[38704]}
فهذا أولى ، وقد كثر مباشرة «يا » لفعل{[38705]} الأَمر ، وقبلها «أَلاَ » التي للاستفتاح ، كقوله :
3953 - أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي *** ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ{[38706]}
3954 - أَلاَ يَا اسْلَمِي يا دَارَ مَيٍّ عَلَى البِلَى *** وَلاَ زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكَ القَطْرُ{[38707]}
3955 - أَلاَ يا اسْلَمِي ذَات الدَّمَالِيجِ وَالعُقَد *** وذات اللثاث الحُمِّ والفَاحِمِ الجَعْدِ{[38708]}
3956 - أَلاَ يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ *** وَإِنْ كَانَ حَيَّانا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ{[38709]}
3957 - أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ خَيْلِ أَبِي بَكْر *** لَعَلَّ مَنَايانَا قَرُبنَ ولاَ نَدْرِي{[38710]}
3958 - أَلاَ يا اسْقِيانِي قَبْلَ غَارَةٍ سنجال{[38711]} *** . . .
3959 - فَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بخطبةٍ *** وقلتُ سمِعْنَا فَانطِقِي وأَصِيبِي{[38712]} ]{[38713]}
وقد جاء ذلك وإن لم يكن قبلها «أَلاَ » ، كقوله :
3960 - يا دَارَ هِنْدٍ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي *** بِسَمْسَمٍ أَوْ عَنْ يَمِينِ سَمْسَمِ{[38714]}
فعلم أنه قراءة الكسائي قوية ، لكثرة دَوْرِها في لغتهم ، وقد سمع ذلك في النَّثْر ، سُمِعَ بَعْضُهم يقول : أَلاَ يَا ارحَمُوني ، أَلاَ يا تصدَّقُوا علينا{[38715]} ، وأما قوله :
3961 - يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوَامِ كُلِّهِم *** والصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جِارِ{[38716]}
فيحتمل أن تكون «يَا » للنداء ، والمنادى محذوف ، وأن يكون للتنبيه ، وهو الأرجح لِمَا مَرَّ . واعلم أَنَّ الوقف عند الكسائي على «يَهْتَدُونَ » تام{[38717]} ، وله أن يقف على «أَلاَ يَا » معاً ، ويبتدئ «اسْجُدُوا » بهمزة مضمومة . وله أن يقف على «أَلاَ » وحدها{[38718]} ، وعلى «يَا » وحدها ، لأنهما حرفان منفصلان وهذان الوقفان وقفاً اخْتبارٍ لا اختيار ، لأنهما حرفان لا يتم معناهما إلاَّ بما يتصلان به ، وإنما فعله القراء امتحاناً وبياناً . فهذا{[38719]} توجيه قراءة الكسائي{[38720]} ، والخَطْبُ وفيها سهل . وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إِمْعَان{[38721]} نظرٍ ، وفيها أوجه كثيرة :
أحدها : أنَّ «أَلاَّ » أصلها : أَنْ لا ، فأَنْ ناصبة للفعل بعدها ، ولذلك سقطت نون الرفع ، و «لاَ » بعدها حرفُ نَفْي ، وأَنْ وما بعدها في موضع مفعول «يَهْتَدُونَ » على إسقاط الخافض أي : إلى أَنْ لا يسجُدُوا ، و «لاَ » مزيدة{[38722]} كزيادتها في : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] ، والمعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا .
الثاني{[38723]} : أنه بدل من «أَعْمَالَهُمْ »{[38724]} وما بينهما اعتراض{[38725]} تقديره : وزَيَّنَ لهم الشيطانُ عدم السجود لله .
الثالث : أنه بدل من «السَّبِيلِ » على زيادة «لاَ » أيضاً ، والتقدير : فَصَدَّهُمْ عن السجود لله{[38726]} .
الرابع : أَنَّ{[38727]} «أَلاَّ يَسْجُدُوا » مفعولاً له ، وفي متعلّقه وجهان :
أحدهما : أنه «زَيَّنَ » أي : زيَّنَ لهم لأجل أَلاَّ يسجدوا .
والثاني : أنها متعلق ب «صَدَّهُمْ » ، أي : صَدَّهُمْ لأجل أن لاَ يسجُدُوا ، وفي «لاَ » حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنها ليست مزيدة ( بل باقية على معناها من النفي .
والثاني : أنها مزيدة ){[38728]} والمعنى : وزيَّنَ لهم لأجل توقعه سجودهم ، أو لأجل خوفه من سُجُودهم ، وعدم الزيادة أظهر{[38729]} .
الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر ، وهذا المبتدأ إما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على «أَعْمَالَهُمْ » ، التقدير هي ألا يسجدوا{[38730]} ، فتكون{[38731]} «لاَ » على بابها من النفي ، وإما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على «السَّبِيل » ، التقدير : هو أن لا يسجدوا ، فتكون «لاَ » مزيدة - على ما تقدم - ليصح المعنى .
وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقفُ على «يَهْتَدُونَ » ، لأنَّ ما بعده إمَّا معمول له أو لِمَا قبله من «زَيَّنَ » و صَدَّ «أو{[38732]} بدل مما قبله أيضاً من «أَعْمَالَهُمْ » أو من «السَّبِيل » على ما قُرِّرَ ، بخلاف الوجه الخامس ، فإنه{[38733]} مَبنيٌّ على مبتدأ مضمر ، وإنْ كان ذلك الضمير مُفَسراً بما سبق قبله ، وقد كتبت «أَلاَّ » موصولة غير مفصولة ، فلم تُكْتَبْ «أَنْ » منفصلة من «لاَ » ، فمن ثَمَّ : امتنع أن يُوقَف هؤلاء في الابتلاء والامتحان على «أَنْ » وحدها ، لاتصالها بلا في الكتابة{[38734]} ، بل يُوقَف لهم على «أَلاَّ » بجملتها ، كذا قال القُرَّاءُ ، والنحويون متى سُئِلوا{[38735]} عن مثل ذلك{[38736]} وقفوا لأجل البيان على كل كلمةٍ على حدتها . لضرورة البيان ، كونها كُتِبَت متصلة ب «لا » غير مانعٍ من ذلك . ثُمَّ قول القُرَّاءِ : كتبت{[38737]} متصلة فيه تجوُّزٌ وتسامُح ، لأَنَّ حقيقة هذا أن يُثْبِتُوا صورة نُونٍ ويصلونها بلاء ، فيكتبونها«أَنْلاَ » ، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظاً ، وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها قالوا ذلك تسامحاً . وقد رتَّبَ أبو إسحاق على القراءتين حُكْماً ، وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه ، فَأَوْجَبَهُ مع قراءة الكسائي ، وكأنه{[38738]} لأجل الأمرِ بِهِ ، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها{[38739]} ، إِلاَّ أَنَّ الزمخشري لم يرتضه منه{[38740]} ، فإنه قال : فَإِنْ قُلْتَ : أَسَجدةُ التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أو في واحدة منهما ؟ قُلْتُ : هي واجبة فيهما{[38741]} .
وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك{[38742]} ، وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد مرجوع{[38743]} إليه .
قال شهاب الدين : وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر ، وظاهره الوجوب وهذا لو خلينا الآية لكان السُّجُودُ واجباً ، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه ، على أَنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظر آخر ، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه ، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال : يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره ، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضه دليلاً نظر{[38744]} ، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء ، لأنَّ المراد بالسجود ههنا عبادة الله لا عبادة الشمس ، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة ، وأين{[38745]} كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام{[38746]} ولم يكن ثم قرآن .
وقرأ الأعمش «هَلاَّ » و «هَلاَ » بقلب الهمزة هاء مع تشديد «لاَ » وتخفيفها ، وكذا هي في مصحف عبد الله{[38747]} ، ( وقرأ عبد الله ){[38748]} «تَسْجُدُونَ » بتاء الخطاب ونون الرفع{[38749]} ، وقرئ كذلك بالياء من تحت{[38750]} ، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع ف «أَلاَّ » بالتشديد أو التخفيف للتحضيض ، وقد تكون المخففة للعرض{[38751]} أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ ، وفي حرف عبد الله أيضاً { أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ } بالخطاب{[38752]} . قوله : { الذي يُخْرِجُ الخبء } يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً «للَّه » أو بدلاً منه أو بياناً ، و{[38753]} «منصوبة على المدح ، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر . و «الخَبْءَ » مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي : سَتَرَْتُهُ{[38754]} ، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ { هذا خَلْقُ الله }{[38755]} [ لقمان : 11 ] قال المفسرون : الخَبْء في السَّمواتِ المطر ، وفي الأرض النبات{[38756]} ، والخَابِيَةُ{[38757]} من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم{[38758]} . وقيل : الخبء الغيب أي : يعلم غيب السموات والأرض{[38759]} ، وقرأ أبيّ وعيسى«الخَبَ{[38760]} » بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو : رأيت لَبَ{[38761]} ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار «الخَبَا » بألفٍ صريحةٍ{[38762]} ، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء ، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها ، فيقول : هذا الخَبُو{[38763]} ، ورأيت الخبا ، ومررت بالخبي{[38764]} ، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ{[38765]} ، وقيل : إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم{[38766]} يحذفها بل تركها ، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة ، يقولون : المرأة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة{[38767]} . وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال{[38768]} : لا يجوز في العربية ، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى{[38769]} حركتها على الباء ، فقال الخَبَ ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي ، بسكون الباء وياء بعدها{[38770]} .
قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه{[38771]} .
قوله : «في السَّماوَاتِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب «الخَبْءَ » ، أي ؛ المَخْبُوءُ في السموات{[38772]} .
والثاني : أنه متعلق ب «يُخْرِجُ » على أنَّ معنى ( في ) بمعنى ( مِنْ ) ، أي : يخرجه من السموات ، و «مِنْ » و «فِي » يتعاقبان{[38773]} ، يقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، أي منكم - قاله الفراء{[38774]} - ، وقرأ عبد الله : { يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ }{[38775]} .
قوله : «مَا تُخْفُونَ » قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما{[38776]} ، والباقون بالياء من تحت{[38777]} ، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي ، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً ، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله : «لَهُمْ » ، و «أَعْمَالَهُمْ » و «صَدَّهُمْ » و «فَهُمْ » وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر ، فخاطبه ملتفتاً إليه{[38778]} .
وقال ابن عطية : القراءة بياء الغيبة تُعْطِي أَنَّ الآية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأُمّة محمد - صلى الله عليه وسلم{[38779]} - وقد تقدم أن الظاهر أنه{[38780]} من كلام الهدهد مطلقاً . وكذلك الخلاف في :