اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ} (23)

قوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } وهو الماء الذي يستقون منه وهو بئر ، ووروده : مجيئه ، والوصول إليه ، «وَجَدَ عليه » أي : على شفيره ( «أمَّةً » جماعة كثيفة العدد «مِنَ النَّاسِ » مختلفين «يَسْقُونَ » منها مواشيهم ){[39962]} ، { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي : سوى الجماعة ، وقيل : في مكان أسفل من مكانهم{[39963]} .

قوله : «امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ » ف «تذودان » صفة ل «امْرَأَتِيْنِ » لا مفعول ثان ، لأَنَّ «وَجَدَ » بمعنى : لقي ، والذَّودُ ، الطرد{[39964]} والدفع{[39965]} ، قال :

3985 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ{[39966]} *** . . .

وقيل : حبس{[39967]} : ومفعوله محذوف ، أي : يَذُودانِ النَّاسَ عن غَنمهما{[39968]} ، أو عن مزاحمة الناس{[39969]} ، وقال{[39970]} الزمخشري : لم ترك المفعول غير مذكور في «يَسْقُونَ » و «تَذُودَانِ » و «لاَ نَسْقِي » ، قُلتُ : لأنَّ الغرض هو الفعل لا المفعول ، وكذلك قَوْلهُمَا : { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء } المقصود منه السَّقي لا المَسْقِيّ{[39971]} .

( فصل :

واختلفوا في السبب المقتضي لذلك الحبس ، فقال الزجاج : لئلا تختلط أغنامهما{[39972]} بأغنامهم ، وقيل : لئلا يختلطن بالرجال ، وقيل : كانتا تذودان عن وجوههما نظر الرجال لتسترهما{[39973]} ، وقيل : تذودان الناس عن غنمهما{[39974]} ، وقال الفراء : يحبسانها لئلا تتفرق وتتسرب{[39975]} ، وقيل : تذودان أي : معهما قطيع من الغنم ، والقطيع من الغنم يسمى : ذوداً ، وكذلك قطيع البقر وقطيع الإبل . قال عليه السلام : «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذوْدٍ صَدَقَة »{[39976]} وقال الشاعر :

3986 - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ ، وَثَلاَثُ ذَوْدٍ *** لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي{[39977]} ) {[39978]}

قوله : «مَا خَطْبكُمَا » تقدم في طه{[39979]} ، وقال الزمخشري : هنا حقيقته : مَا مخطُوبُكما ؟ أي : ما مطلُوبُكُمَا من الذياد ؟ فسمي المخطُوب خطباً كما سمي المشئُونُ شأْناً في قولك : ما شأنُكَ ؟ يقال : شَأنْتُ شَأْنَهُ ، أي : قَصَدْتُ قَصْدَه{[39980]} . وقال ابن عطية : السؤال بالخطب{[39981]} إنما هو في مُصَاب أو مُضطهد أو مَنْ يُشْفقُ عليه أو يأتي بمنكر من الأمر{[39982]} .

وقرأ شَمِر{[39983]} «خِطْبَكُمَا » بالكسر أي : ما زوجكما ؟ أي : لِمَ تَسْقِيَانِ وَلَمْ يَسْقِ زَوْجُكُمَا ؟ وهي شاذة جداً{[39984]} .

قوله : { حتى يُصْدِرَ الرعاء } قرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صَدَرَ يَصْدُرُ وهو قاصر ، أي : حتى يرجع الرعاء : أي{[39985]} : يرجعون بمواشيهم والباقون{[39986]} بضم الياء وكسر الدال مضارع أَصدرَ{[39987]} مُعدًّى بالهمزة ، والمفعول محذوف ، أي : يُصدرُونَ مواشِيهم{[39988]} ، والعامة على كسر الراء{[39989]} من «الرِّعَاء » ، وهو جمع تكسير غير مقيس لأنَّ فاعلاً الوصف المعتل اللام كقاضٍ قياسه ( فُعَلَة ) نحو قُضَاة ورُمَاة{[39990]} .

وقال الزمخشري{[39991]} : وأما الرِّعَاء بالكسر فقياس كصِيام وقِيام{[39992]} . وليس كما ذكر ( لِمَا ذَكَرْنَاهُ ){[39993]} . وقرأ أبو عمرو - في رواية{[39994]} - بفتح الراء . قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع أو على حذف مضاف{[39995]} ، وقرئ بضمها{[39996]} ، وهو اسم جمع كرخال{[39997]} وثُنَاء{[39998]} . وقرأ ابن مصرف «لا نُسْقِي » بضم النون{[39999]} من أَسْقَى ، وتقدم الفرق بين سَقَى وأَسْقَى في النحل{[40000]} ، والمعنى لا نسقي حتى يرجع الرّعاء عن الماء ، والرّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجَار{[40001]} ، أي : نحن امرأتان لا نطيق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض ، و { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } لا يقدر أن يسقي مواشيه ولذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم{[40002]} .

فصل :

قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن : أبوهما {[40003]}هو شعيب النبي صلى الله عليه وسلم{[40004]} . ( وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام ، وتزوج بابنته ) . وقال وهب وسعيد بن جبير : هو يثرون ابن أخي شعيب ( وكان شعيب ){[40005]} قد مات بعد{[40006]} ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم{[40007]} . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب{[40008]} . قالوا : فلما سمع{[40009]} قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس{[40010]} ، وقال ابن إسحاق : إنَّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين{[40011]} . وروي أن القوم لمَّا رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشر{[40012]} نفر ، فجاء موسى فرفع الحجر وحده ، وسقى غنمهما{[40013]} ، ويقال : إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة فروي منه جميع الغنم{[40014]} .


[39962]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39963]:انظر الفخر الرازي 24/239.
[39964]:في ب: الطرف. وهو تحريف.
[39965]:انظر الكشاف 3/161.
[39966]:صدر بيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وعجزه: وقال ألا لا من سبيل إلى هند وقد تقدم.
[39967]:انظر معاني القرآن للفراء 2/305.
[39968]:وهو قول قتادة. انظر القرطبي 13/268.
[39969]:وهو قول ابن عباس. المرجع السابق.
[39970]:في الأصل: قال.
[39971]:الكشاف 3/162.
[39972]:لم أجد ما قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه وهو في الفخر الرازي غير منسوب.
[39973]:انظر الفخر الرازي 24/239.
[39974]:وهو قول قتادة. القرطبي 13/268.
[39975]:معاني القرآن 2/305.
[39976]:أخرجه البخاري (زكاة) 1/251، 254، 259، ومسلم (زكاة) 2/674-675.
[39977]:البيت من بحر الوافر، قاله الحطيئة، وتقدم تخريجه.
[39978]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39979]:يريد قوله تعالى: {قال فما خطبك يا سامري} [طه: 95]. ولم يذكر هناك معنى الخطب وإنما ذكره عند قوله تعالى: {قال ما خطبكن إذ راودتنّ يوسف عن نفسه} [يوسف: 51] وذكر هناك: والخطب الأمر والشأن الذي فيه خطر، وهو في الأصل مصدر خطب يخطب وإنما يخطب في الأمور العظام. انظر اللباب 5/42.
[39980]:الكشاف 3/161.
[39981]:في الأصل: بالخطاب.
[39982]:تفسير ابن عطية 11/285.
[39983]:هو شمر بن حمدويه الهروي، أبو عمرو اللغوي، الأديب، اخذ عن الفراء والأصمعي وأبي حاتم وغيرهم، ألف كتاباً كبيراً في اللغة لم ينسخ في حياته ففقد بعد موته إلا يسيراً. بغية الوعاة 2/4-5.
[39984]:انظر البحر المحيط 7/113.
[39985]:في ب: أو.
[39986]:في ب: والثاني. وهو تحريف.
[39987]:السبعة (492)، الكشف 2/172-173، النشر 2/341، الإتحاف(342).
[39988]:انظر البيان 2/231.
[39989]:الراء: سقط من ب.
[39990]:انظر الأشموني 4/132.
[39991]:الزمخشري: سقط من ب.
[39992]:أي: جمع صائم وقائم. الكشاف 3/161. ورد أبو حيان على الزمخشري في هذه المسألة، قال: (وليس بقياس لأنه جمع راع، وقياس (فاعل) الصفة التي للعاقل أن تكسر على (فعلة) كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس) البحر المحيط 7/113، وقد جاء في اللسان ما يوافق قول الزمخشري، قال ابن منظور: (وراعي الماشية حافظها. صفة غالبة غلبة الاسم والجمع رعاة، مثل قاضٍ وقضاة، ورعاء مثل جائع وجياع، ورعيان مثل شابٍّ وشبَّان كسَّروه تكسير الأسماء كحاجر وحجران، لأنها صفة غالبة، وليس في الكلام اسم على فاعل يعتور عليه فعلة وفعال إلا هذا، وقولهم: آسٍ وأساةٌ وإساءٌ) اللسان (رعى).
[39993]:ما بين القوسين في ب: كما ذكرنا.
[39994]:في رواية عياش. حكاها أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر البحر المحيط 7/113.
[39995]:انظر البحر المحيط 7/113.
[39996]:انظر المختصر (112)، الكشاف 3/161.
[39997]:الرِّخال: جمع رخل، الأنثى من أولاد الضأن. اللسان (رخل).
[39998]:ثناء: جمع ثنية، وهي الناقة التي ولدت بطنين. اللسان (ثنى).
[39999]:انظر المختصر (112).
[40000]:عند قوله تعالى: {وإنَّ لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم ممَّا في بطونه} من الآية (66).
[40001]:انظر القرطبي 13/269. وفي ب: وتجار أي تجار.
[40002]:انظر البغوي 6/330.
[40003]:في ب: وأبوهما.
[40004]:انظر البغوي 6/330.
[40005]:ما بين القوسين سقط من ب.
[40006]:في ب: قبل.
[40007]:انظر البغوي 6/330.
[40008]:المرجع السابق.
[40009]:في ب: أسمع.
[40010]:انظر البغوي 6/330.
[40011]:المرجع السابق.
[40012]:في ب: عشرة.
[40013]:انظر البغوي 6/330.
[40014]:المرجع السابق.