اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (25)

قوله «فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا » قرأ ابن محيصن : «فَجَاءَتْهُ حُدَاهمَا » بحذف الهمزة تخفيفاً{[40037]} على غير قياس ، كقوله : يا با فلان ، وقوله :

3987 - يَا بَا المُغيرة رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ *** فَرَّجْتهُ بِالنُّكْرِ عَنِّي وَالدَّهَا{[40038]}

وَوَيْلُمِّه أي : ويلٌ لأُمِّهِ . قال :

3988 - وَيْلُمِّهَا حَالُه{[40039]} لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ{[40040]} *** . . .

و «تَمْشِي » حال ، و «اسْتِحْيَاءٍ » حال أخرى ، إما من «جَاءَتْ » وإما من «تَمْشِي »{[40041]} .

فصل :

قال عمر بن الخطاب : ليست بسلفع{[40042]} من النساء خرَّاجة ولاَّجة ، ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على وجهها استحياء{[40043]} . { قالت{[40044]} إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } صرحت{[40045]} بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة ، وهذا من تمام حيائها وصيانتها ، وقيل : ماشية على بُعْد ، مائلة عن الرجال{[40046]} . وقال عبد العزيز بن أبي حازم{[40047]} : على إجلال له{[40048]} ، ومنهم من يقف على قوله «تَمْشِي » ، ثم يبتدئ { عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ }{[40049]} أي : إنها على استحياء قالت هذا القول ، لأن الكريم إذا دعا{[40050]} غيره إلى الضيافة يستحي لا سيما المرأة{[40051]} . قال ابن إسحاق : اسم الكبرى صَفورا والصغرى لبنا ، وقيل ليا{[40052]} ، وقال غيره : صَفُورا وصَفِيرا{[40053]} . وقال الضحاك : صافُورا{[40054]} ، قال الأكثرون : التي جاءت إلى موسى الكبرى{[40055]} . وقال الكلبي : هي الصغرى{[40056]} . قال ابن الخطيب : وفي الآية إشكالات .

أحدها : كيف ساغ لموسى عليه السلام{[40057]} أن يعمل بقول امرأة ، ( وَأَنْ يَمْشِي مَعَهَا ){[40058]} وهي أجنبية ، فإذن ذلك يورث التهمة العظيمة ؟ وقال{[40059]} صلى الله عليه وسلم : «اتَّقُوا مَوَاضِع التُّهَم » .

وثانيها{[40060]} : أنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى{[40061]} ، فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه ، وذلك غير جائز في الشريعة ؟ .

وثالثها : أنه عرف فقرَهُنَّ ، وفَقْرَ أبيهنّ ، وأنه عليه السلام{[40062]} كان في نهاية القوة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي ، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ؟ .

ورابعها : كيف يليق بالنبي شُعَيب عليه السلام{[40063]} أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شابٍّ قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً ؟ .

والجواب عن الأول : أما{[40064]} العمل بقول امرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى ، وهي ما كانت إلاَّ مخبرة عن أبيها .

وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع .

وعن الثاني : أن المرأة لما قالت ذلك ، فموسى عليه السلام{[40065]} ما ذهب إليهم طالباً للأجرة ، بل للتبرك بذلك الشيخ ، لِما رُوِي أنه لما دخل على شعيب إذا هو بالعَشاء تهيَّأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذُ بالله ، فقال شُعَيْب : ولم ذلك ؟ ألست بجائع ؟ فقال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما ، وأنا من أهل بيت لا نطلبُ على عملٍ من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا ، وفي رواية : لا نبيع ديننا بالدُّنيا ، ولا نأخذ بالمعروف ثمناً . فقال شُعيب : لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى{[40066]} ، فأكل . وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله ، فقبل ذلك اضطراراً{[40067]} ، وهو الجواب عن الثالث ، فإن الضرورات تبيح المحظورات .

وعن الرابع : لعله عليه السلام{[40068]} كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها ، فكان يعتمد عليها{[40069]} .

فصل :

قال عمر بن الخطاب : فقام يمشي{[40070]} والجارية أمامه ، فعبثت الريح ، فوصفت{[40071]} ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال موسى عليه السلام{[40072]} : إني من عنصر إبراهيم ، فكوني خَلْفي حتى لا ترفع الريح ثيابك ، فأرى ما لا يَحِل{[40073]} ، وفي رواية : كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحَصَى ، لأن صوت المرأة عورة .

فإن قيل : لِمَ خشي موسى - عليه السلام{[40074]} - أن يكون ذلك أجرة له عن عمله ، ولم يكره مع الخضر ذلك حين قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] ؟ .

فالجواب : أن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز ، وأما الاستئجار ابتداء ( ف ){[40075]} غير مكروه{[40076]} . قوله : { فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص }{[40077]} مصدر كالعلل سمي به المقصوص ، قال الضَّحاك : قال له : مَنْ أنت يا عبد الله ؟ قال له : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب ، وذكر له جميع أمره من لدن{[40078]} ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي ، وأنهم يطلبوه فيقتلوه ، فقال شعيب عليه السلام{[40079]} : { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } أي : لا سلطان له بأرضنا{[40080]} ، فإن قيل إن المفسرين قالوا : إن فرعون يوم ركب خلف موسى ، ركب في ألف ألف وستمائه{[40081]} ، والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل ألا يكون في ملكه قرية على بُعْد ثمانية أيام من دار مملكته ؟ فالجواب : هذا وإن كان نادراً إلا أنَّه ليس بمحال{[40082]} .


[40037]:انظر المحتسب 2/150، البحر المحيط 7/114.
[40038]:البيت من بحر الكامل، ونسبه في التصريف الملوكي(38) إلى أبي الأسود الدؤلي، وليس في ديوانه. والشاهد فيه حذف الهمزة في قوله (يا با)، وهذا الحذف للتخفيف وليس بقياس. وفيه أيضاً قصر (الدها) والأصل فيه المد.
[40039]:في ب: حال.
[40040]:لم أعثر على تتمة لهذا البيت، ولا قائله، والشاهد فيه قوله (ويلمها) الأصل: ويل لأمها فحذفت الهمزة من الأم تخفيفاً، ثم تبعتها لام الجر المعدية للمصدر حتى لا تلتقي مع اللام قبلها.
[40041]:انظر البيان 2/231.
[40042]:السلفع من النساء: الجريئة على الرجال.
[40043]:انظر البغوي 6/331، الفخر الرازي 24/240.
[40044]:في ب: وقالت.
[40045]:في ب: خرجت.
[40046]:انظر الفخر الرازي 24/240.
[40047]:هو عبد العزيز بن أبي حازم، يكنى أبا تمام. مات بالمدينة فجأة سنة 184 هـ. المعارف لابن قتيبة 479.
[40048]:انظر الفخر الرازي 24/240.
[40049]:لعله جعل قوله "على استحياء" حالاً مقدمة من "قالت"، أي: قالت مستحيية، لأنها كانت تريد أن تدعوه إلى ضيافتها، وما تدري أيجيبها أم لا، وهو وقف جيد، والأجود وصله. انظر منار الهدى في الوقف والابتدا (290).
[40050]:في الأصل: دعاه.
[40051]:انظر الفخر الرازي 24/240.
[40052]:انظر الفخر الرازي 24/240.
[40053]:المرجع السابق.
[40054]:المرجع السابق.
[40055]:انظر الفخر الرازي 24/240-241.
[40056]:انظر الفخر الرازي 24/241.
[40057]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40058]:ما بين القوسين سقط من ب.
[40059]:في ب: قال.
[40060]:في ب: وثالثها. وهو تحريف.
[40061]:تعالى: سقط من ب.
[40062]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40063]:أما: سقط من ب.
[40064]:أما: سقط من ب.
[40065]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40066]:في ب: موسى عليه الصلاة والسلام.
[40067]:في ب: يقبل ذلك أضرار.
[40068]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40069]:الفخر الرازي 24/241.
[40070]:في ب: موسى.
[40071]:في ب: وصفت.
[40072]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40073]:انظر الفخر الرازي 24/241.
[40074]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40075]:فـ: تكملة ليست في المخطوط.
[40076]:انظر الفخر الرازي 24/241.
[40077]:القصص: سقط من الأصل.
[40078]:في ب: من ولد.
[40079]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40080]:انظر الفخر الرازي 24/242.
[40081]:في ب: وثمانمائة.
[40082]:انظر الفخر الرازي 24/242.