والعامة على بناء " زُيِّنَ " للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى ؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء ، وقيل : هو الشيطان ، فالأوّل قول أهلِ السنة ؛ قالوا : لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زَيَّن الكفرَ والبدعةَ للشيطان ؟ فإن كان ذلك شيطاناً آخرَ لزم التسلسل ، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك ، وإن كان من الله وهو الحق - فليكن في حَقِّ الإنسان أيضاً كذلك ، ويؤيده قوله تعالى :
{ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [ القصص : 63 ] يعني إن اعتقد أحد أنَّا أغويناهم ، فمَن الذي أغوانا ؟ وهذا ظاهر جداً ، وقال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } [ الكهف : 7 ] ونُقِل عن المعتزلة ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أن الشيطان زَيَّن لهم ، حكي عن الحسن أنه [ كان ] {[5192]}- يحلف بالله على ذلك - ويقول : من زينها ؟ إنما زيَّنها الشيطانُ ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها .
الأول : أنه تعالى أطلق حبَّ الشهواتِ ، فيدخل فيه حُبُّ الشهواتِ المحرمةِ ، ومُزَينُ الشهواتِ المحرمة هو الشيطانُ .
الثاني : أنه - تعالى - ذكر القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضةِ ، وحُبُّ هذا المالِ الكثيرِ لا يليق إلا بمَنْ جعل الدنيا قِبْلَةَ طلبه ، ومُنتَهَى مقصودِه ؛ لأن أهْلَ الآخرةِ يكتفون بالبُلْغَةِ .
الثالث : قوله تعالى : { ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، فذكره في مَعْرض ذَمِّ الدنيا ، والذامُّ للشيء لا يزينُهُ .
الرابع : قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ } [ آل عمران : 15 ] والمقصود من هذا الكلامِ صرفُ العبدِ عن الدنيا وتقبيحُها له ، وذلك لا يليق بمن يزيِّنُ الدنيا في عينه .
القول الثاني : أن المزين هو الله تعالى ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أنه تعالى كما رغَّب في منافِع الآخرةِ فقد خلق مَلاَذَّ الدنيا ، وأباحها لعبيده ؛ فإنه إذا خلق الشهوةَ والمُشْتَهَى ، وخلق للمشتهى عِلْماً بما في تناوُل المشتَهَى من اللذةِ ، ثم أباح له ذلك التناولَ ؛ يقال : إنه زيَّنَها له .
وثانيها : أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ ، والله تعالى نَدَب إليها ، فكان تزييناً لها ، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها ، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاتشغال بالشكر .
قال صاحب بن عبَّادٍ : " شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ " وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة ، وتحمل ما في ذلك من المشقة كان أكثرَ ثواباً .
وثالثها : قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ، وقوله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ }
[ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } [ الكهف : 7 ] وقال : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ] ، وقال : { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [ البقرة : 22 ] ، وقال : { كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } [ البقرة : 168 ] ، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى .
القول الثالث - وهو اختيار الجبائي والقاضي - : وهو التفصيل ، فإن كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان ، وإن كان واجباً ، أو مندوباً ، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسمٌ ثالث ، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب ، ولا في تركه عقابٌ ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره . ويُبَيِّنَ التزيين فيه ، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان ؟
وقرأ مجاهد{[5193]} : " زَيَّنَ " مبنيًّا للفاعل ، و " حُبَّ " مفعول به نصاً ، والفاعل إما ضمير الله تعالى ؛ المتقدم ذكره في قوله : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [ آل عمران : 13 ] ، وإما ضمير الشيطان ، أضمر - وإنْ لم يجر له ذكر - لأنه أصل ذلك ، فذكرُ هذه الأشياءِ مُؤذِنٌ بذِكْرِه ، وأضافَ المصدر لمفعوله في { حُبُّ الشَّهَوَاتِ } .
والشهوات جمع شَهْوَة - بسكون العين - فحُرِّكت في الجمع ، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة ، كقوله : [ الطويل ]
وَحُمِّلتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأطَقْتُهَا *** وَمَا لِي بِوَفْرَاتِ العَشِيِّ يَدَانِ{[5194]}
بتسكين الفاء . والشهوةُ مصدر يُراد به اسم المفعول ، أي : المشتهيات ، فهو من باب : رَجُل عَدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغةً . والشهوة : مَيْل النفس ، وتُجْمَع على شهوات - كالآية الكريمة - وعلى شُهًى - كغُرَفٍ - .
قالت امرأة من بني نصر بن معاوية : [ الطويل ]
فَلَوْلاَ الشُّهَى - وَاللهِ - كُنْتُ جَدِيرَةٌ *** بِأنْ أتركَ اللَّذَاتِ في كُلِّ مشْهَدِ{[5195]}
قال النحويون : لا تُجْمَع فَعْلَة - المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فُعَل إلا ثلاثة ألفاظٍ : قرية وقُرًى ، ونَزْوَة ونُزًى ، وكَوَّة - عند من فتح الكاف - وكُوًى .
واستدرك أبو حيّان : " واستدركت - أنا - شُهًى ، وأنشد البيت .
وقال الراغب{[5196]} : " . . . . وقد يُسَمَّى المشتهى ، شهوةً ، وقد يقال للقوَّة التي بها يُشْتَهَى الشيء : شهوة ، وقوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } يحتمل الشهوتين .
قال الزمخشريُّ : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان :
إحداهما : أنه جعل الأعيانَ التي ذكرها شهواتٍ ؛ مبالغةً في كونها مشتهاةٌ ، محروصاً على الاستمتاع بها .
الثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية ، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها .
وَجهُ النظم : أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه : إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به ، إلا أنه لا يُقرُّ بذلك ؛ خوفاً من أن يأخذ ملكُ الروم منه المالَ والجاهَ ، وأيضاً روينا أن النبي - عليه السلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام - بعد غزوة بدر - أظهروا من أنفسهم القوةَ والشدةَ ، والاستظهارَ والسلاحَ ، فبين - تعالى - في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها - من متاع الدنيا - زائلة ، باطلة ، وأن الآخرة خير وأبقى .
قال المتكلمون : دلت هذه الآية على أن الحبَّ غيرُ الشهوةِ ؛ لأنه أضافهُ إليها ، والمضاف غيرُ المضافِ إليه ، والشهوة فعل الله تعالى ، والمحبة فعل العبد .
قالت الحكماءُ : الإنسان قد يحب شيئاً ، ولكنه يحب ألا يحبه ، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات ، لكنه يحب ألا يحبه ، وأما من أحب شيئاً ، وأحب أن يحبه ، فذلك هو كمال المحبة ، فإن كان ذلك في جانب الخير ، فهو كمال السعادة ، كقول سليمان : { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } [ ص : 32 ] ، ومعناه : أحب الخير ، وأحب أن أكون محباً للخير ، وإن كان ذلك في جانب الشرِّ فهو كما قال في هذه الآية ؛ فإن قوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَات } يدل على ثلاثةِ أمور مترتبة :
أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات .
ثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة .
ولما اجتمعت هذه الدرجاتُ الثلاثُ في هذه القضية بلغت الغايةَ القصوى في الشدة ، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيمٍ من الله تعالى ، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس ، ولفظ " النَّاس " عام ، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق ، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس ، والعقل - أيضاً - يدل عليه ؛ لأن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ، ومطلوب لذاته ، والمنافع قسمان : جسماني ، وروحاني ، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر ، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب ، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية ، فلهذا السبب عم الله هذا الحكمَ في الكل .
قوله تعالى : { مِنَ النِّسَاءِ } في محل نَصْب على الحال من الشهوات ، والتقدير : حال كون الشهوات من كذا وكذا ، فهي مفسرة لها في المعنى .
ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس ، لقول الزمخشريِّ : " ثم يفسره بهذه الأجناس " .
كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، والمعنى : فاجتنبوا الأوثان التي هي رِجْسٌ .
وقدم النساءَ على الكل ، قال القرطبيُّ : لكثرة تشوُّق النفوس إليهن ؛ لأنهن حبائلُ الشيطان ، وفتنة الرجالِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ " أخرجه البخاري ومسلم لأن الالتذاذ{[5197]} منهن أكثرُ ، والاستئناسَ بهن أتَمُّ ، ولذلك قال تعالى :
{ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } ، [ الروم : 21 ] ، ثم ثَنَّى بالولد الذَّكَر ؛ لأن حُبَّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى ، واعلم أن الله تعالى - في إيجاد حُبِّ الزوجة والولد في قلب الإنسان - حكمةً بالغةً ؛ إذْ لولا هذا الحُبُّ لَمَا حصل التوالُدُ والتناسُل ، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان ، والبنين : جمع ابن ، قال نوح : { رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] ويُصَغَّر " ابن " على بُنَيّ ، قال لقمان : { يبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ } [ لقمان : 13 ] ، وقال نوح : { يبُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا } [ هود : 42 ] .
قوله تعالى : { وَالْقَنَاطِيرِ } هي جمع قِنْطار ، وفي نونه قولان :
أحدهما : أنها أصلية ، وأن وَزْنَه فِعْلاَل ، كحِمْلاق ، وقِرْطاس .
والثاني : أنها زائدة ، وأن وزنه فِنْعال كفِنْعاس ، وهو الجمل الشديد ، واشتقاقه من قطر يقطر - إذا سال ؛ لأن الذهب والفضة يُشَبَّهَان بالماء في سرعة الانقلابِ ، وكثرة التقلُّب .
وقال الزَّجَّاج : هو مأخوذ من قَنْطَرتُ الشيء - إذا عقدته وأحكمته - ومنه القنطرة ؛ لإحْكام عقدها .
حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : القنطار وزن لا يُحَدُّ .
قال ابن الخطيب : " وهذا هو الصحيح " .
وقال الربيع بن أنس : القنطار : المال الكثير بعضه على بعض{[5198]} .
وقال القرطبي : " والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار " .
وقال معاذ بن جبل - ورواه أبَيّ بنُ كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " القنطارُ ألفٌ ومئتا أوقية " {[5199]} .
وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقالٍ{[5200]} ، وعنهما - في رواية أخرى - اثنا عشر ألفَ درْهمٍ أو ألف دينار دية أحدكم ، وبه قال الحسن{[5201]} .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْفَ أوْقيةٍ " {[5202]} .
وروى أنس - أيضاً - عنه أن القنطار ألف دينار {[5203]} .
وروى سعيد بن المسيب وقتادة : ثمانون ألفاً . {[5204]}
وقال مجاهدٌ : سبعون ألفاً . {[5205]}
وقال السُّدِّيُّ : أربعة آلاف مثقالٍ{[5206]} .
وقال الكلبيُّ أبو نضرة : القنطار - بلسان الروم - ملء مسك الثور من ذهب ، أو فضة{[5207]} .
وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال .
وقال سعيد بن جبير وعكرمة : مائة ألفٍ ، ومائة مَنّ ، ومائة رَطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم ، وقد جاء الإسلام - يوم جاء - وبمكة مائة رجل قد قَنْطروا .
قوله : " الْمُقَنطَرَة " مُنَفْعَلَة من القنطار وهو للتأكيد ، كقولهم : ألف مؤلَّفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مُؤبَّلة ، ودراهم مُدَرْهمة .
وقال الكلبي : القناطير الثلاثة ، والمقنطرة المضاعفة ، فكان المجموع ستة .
وقال الضحاك : معنى " الْمُقَنْطَرَة " : المحَصَّنة المُحْكمة . {[5208]}
وقال قتادة : هي الكثير بعضها فوق بعض . {[5209]}
وقال السُّدِّي : المضروبة ، المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير . {[5210]}
وقال الفراء : المضعّفة ، والقناطير الثلاثة ، فالمقنطرة تسعة وجاء في الحديث أن القنطار ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض .
وقال أبو عبيدة : القناطير أحدها قنطار ، ولا نجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه .
وقال ثعلب : المعوَّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار ، فإذا قالوا : قَنَاطير مقنطرةٌ ، فهي اثنا عشر ديناراً وقيل : إن القنطار ملء جلد ثور ذهباً .
وقيل : ثمانون ألفاً وقيل : هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير .
قوله : { مِنَ الذَّهَبِ } كقوله : { مِنَ النِّسَاءِ } ، [ والذَّهَب ] مؤنث ، ولذلك يُصَغَّر على ذهيبة ، ويُجْمَع على أذهاب وذُهوب ، واشتقاقه من الذهاب ، ويقال : رجل ذَهِب بكسر الهاء - رأى معدن الذهب فدُهِش و[ " الفضة " تجمع على فضض ، واشتقاقها من انفض إذا تفرق ]{[5211]} .
قال القرطبيُّ : والذهب مكيالٌ لأهل اليَمَن ، قال : واشتقاق الذهب والفضة ، يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بعضهم : [ البسيط ]
النَّارُ آخِرُ دِينَارٍ نَطَقْتَ بِهِ *** وَالهَمُّ آخِرُ هَذَا الدِّرْهَمِ الجَارِي
وَالمَرْءُ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ ذَا وَرَعٍ *** مُعَذَّبُ القَلْبِ بَيْنَ الهَمِّ وَالنَّارِ{[5212]}
والذهب والفضة : إنما كانا محبوبَيْن لأنهما جُعِلا ثَمَن جميع الأشياء ، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء .
قوله : " وَالْخَيْلِ " عطف على النساء ، قال أبو البقاء : [ معطوف على النساء ] {[5213]} ، لا على الذهب والفضة ، لأنها لا تسمى قنطاراً وتوهم مثل هذا بعيد جداً ، والخيل فيه قولان :
أحدهما : قال الواحديُّ : " إنه جمع لا واحد له من لفظه ، كالقَوْم ، والنساء والرهط " .
الثاني : أن واحده خائل ، فهو نظير راكب وركب ، وتاجر وتجر ، وطائر وطير .
وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش ، فسيبويه يجعله اسم جمع ، والأخفش يجعله جمع تكسير .
أحدهما : من الاختيال - وهو العجب{[5214]} - سُمِّيت بذلك ؛ لاختيالها في مِشيتها
بطول أذنابها قال امرؤ القيس : [ المتقارب ]
لَهَا ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ الْعَرُوسِ *** تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ{[5215]}
الثاني : من التخيل ، قيل : لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها .
وقيل : أصل الاختيال من التخيل ، وهو التشبيه بالشيء ؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كِبْراً . والأخيل : الشَّقِرَّاق ؛ لأنه يتغير لونهُ ، فمرة أحمر ، ومرة أصفر وعليه قوله : [ مجزوء الكامل ]
كَأبِي بَرَاقِشَ كُلُّ لَوْ *** نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ{[5216]}
وجوز بعضهم : أن يكون مخفَّفاً من " خَيَّل " - بتشديد الياء - نحو مَيْت - في ميِّت - وهيْن في هَيِّن ، وفيه نظر ؛ لأن كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع فيه التثقيل ، وهذا لم يُسْمع إلا مخفَّفاً ؛ وهذا تقدم .
وقال الراغب{[5217]} : " الخيل - في الأصل - اسم للأفراس والفرسان جميعاً ، قال تعالى : { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } [ الأنفال : 60 ] في الأصل للأفراس ، ويستعمل في كل واحد منهما منفرداً ، نحو ما رُوِي " يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي{[5218]} " ، فهذا للفرسان ، وقوله - عليه السلام - : " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ{[5219]} " ، يعني الأفراس ، وفيه نظر ؛ لأن أهل اللغة نَصُّوا على أن قوله - عليه السلام - " يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي " إما مجاز إضمار أو مجاز علاقة ، ولو كان للفرسان حقيقة لما ساغ قولهم .
قوله : " الْمُسَوَّمَة " أصل التسويم : التعليم ، ومعنى مسومة : مُعَلَّمة .
قال أبو مسلم : مأخوذ من السيما - بالمد والقصر - ومعناه واحد ، وهو الهيئة الحسنة ، قال تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] واختلفوا في تلك العلامة .
فقال أبو مسلم : هي الأوضاح والغُرَر التي تكون في الخيل وهي أن تكون غُرًّا محجلة .
وقال قتادة : الشِّية{[5220]} . وقال المؤرج : الكَيّ ، والأول أحسن ؛ لأن الإشارة في الآية إلى أشرف أحوالها وقال : بل هي من سوم الماشية ، أي : مرعية ، يقال : أسَمْتُ ماشيتي ، فسامت ، قال تعالى : { فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] ، وسومتها فاستامت ، أي : مرعية ، فيتعدى - تارة - بالهمزة ، وتارة بالتضعيف .
وقيل : بل هو من السيمياء - وهي الحسن - فمعنى مُسَومة : أي : ذات حُسن{[5221]} ، قاله عكرمة ، واختاره النحاس ؛ قال لأنه من الوَسْم ، ورد عليه بعضهم : باختلاف المادتين ، وأجاب بعضهم بأنه من باب المقلوب ، فيصح ما قاله وتقدم تحقيق ذلك في " يسومونكم " وقوله " بسيماهم " .
قال القرطبيُّ : جاء في الخبر عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل خلق الفرس من الريح ، ولذلك جعلها تطير بلا جناح . {[5222]}
قال وهب بن منبه : خلقها من ريح الجنوب . وفي الخبر : أن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب ، فقال له : اختر منها واحدة ، فاختار الفرس ، فقيل له : اخترتَ عِزَّك ، فصار اسمه الخيل من هذا الوجه ، وسُمِّي خَيْلاً ؛ لأن من ركبها اختال على أعداء الله ، وسُمِّي فرساً ؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس السبع ، ويقطعها كالالتهام بيديه على الشيء خَطْفاً وتَنَاولاً ، وسمي عَربيًّا ؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل ؛ جزاء على رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي ، فصارت له نحلةً من الله ، وسمي عربياً ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَدْخُلُ الشَّيْطَان دَاراً فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ " {[5223]} ، وإنما سمي عتيقاً ؛ لأنه تخلص من الهجانة ، وقال - عليه السلام - : " خَيْرُ الْخَيْلِ الأدْهَمُ ، الأقرعُ ، الأرْثم ثم الأقرح المحجل طَلْقُ اليَمينِ " {[5224]} .
قوله : { وَالأَنْعَامِ } جمع نَعَمٍ ، والنعم مختصة بالإبل ، والبقر ، والغنم .
وقال الهروي : النعم يذكر ويؤنث ، فإذا جُمِع أطلق على الإبل والبقر والغنم ، وظاهر هذا أنه - قبل جمعه على أنعام - لا يطلق على الثلاثة ، بل يختص بواحد منها ، وقد صرَّح الفراء بهذا ، فقال النعم : الإبل فقط قال بعضهم لكونها تشبه النعام في جزاء الصبر . وقال ابن كيسان : إذا قلت : نعم لم يكن إلا للإبل وإذا قلت : أنعام وقعت على الإبل وكل ما يرعى ؛ قال حسان : [ الوافر ]
وَكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيْسٌ *** خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ{[5225]}
وهو مذكر ولا يؤنث ، تقول : هذا نعم وارد ، وهو جمعٌ ، لا واحد له من لفظه .
وقال ابن قتيبة : " الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحده : نَعَمٌ وهو جمع لا واحد له من لفظه " ، سميت بذلك ؛ لنعومة مشيها ولينها ، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدًّا .
قوله : " وَالْحَرْثِ " ، الحرث تقدم تفسيره وهو - هنا - مصدر واقع موقع المفعول به ، فلذلك وُحِّد ، ولم يُجْمع كما جُمِعت أخواته ، ويجوز إدغام الثاء في الذال ، وإن كان بعض الناس ضعفه : بأنه يلزم الجمع بين ساكنين ، والأول ليس حرف لين ، قال : بخلاف " يَلْهَثْ ذلك " حيث أدغم الثاء في الذال ؛ لانتفاء التقاء الساكنين ، إذ الهاء قبل الثاء متحركة .
الحرث هنا اسم لكل ما يحرث . تقول : حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض بمعنى الفلاحة ، ويقال : حرث وفي الحديث : " احرثوا هذا القرآن أي : فتشوه " قال ابن الأعرابي الحرث : التفتيش ، وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث ، لأن الحارث هو الكاسب ، واحترس المال كسبه ، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس ، والجمع : أحْرِثَة ، وأحرث الرجل ناقته أهزلها . وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبلاغة ، منها : الإتيان بها مجملة ، ومنها جعله لها نفس الشهوات ؛ مبالغة في التنفير عنها ، ومنها : البداءة بالأهم ، فالأهم ، فذكر - أولاً - النساء لأنهن أكثر امتزاجاً ، ومخالطة بالإنسان ، وهن حبائل الشيطان ، قال - عليه السلام - : " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتنَةً أضَرَّ عَلَى الرَّجَالِ مِنَ النسَاءِ " ، وقال : " مَا رَأيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الْحَلِيمِ مِنكُنَّ ، ويُرْوَى : الحازم منكن .
وقيل : فيهن فتنتان ، وفي البنين فتنة واحدة ؛ لأنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل - غالباً - ، وهن سبب في جَمْع المال من حلال وحرام - غالباً - ، والأولاد يُجْمَع لأجلهم المال ، فلذلك ثنى بالبنين ، وفي الحديث : " الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ{[5226]} " ، ولأنهم فروع منهن ، وثمراتٌ نشأت عنهن ، وفي كلامهم : " المرء مفتون بولده " ، وقُدِّمت على الأموال ؛ لأنها أحَبُّ إلى المرء من ماله .
وأما تقديمُ المال على الولد - في بعض المواضع - فإنما ذلك في سياق امتنان ، وإنعام أو نُصْرة ، ومعاونة ؛ لأن الرجالَ تُستمال بالأموال - ثم ذكر تمامَ اللذةِ ، وهو المركوب البهيمي من بينِ سائر الحيوانات ، ثم أتى بما يَحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون ، كما تشهد به الآية الأخرى ثم ذكر ما به قوامهم ، وحياة بنيتهم ، وهو الزروع والثمار .
ومنها الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء ، بقوله : " زين " والزينة محبوبة في الطباع .
ومنها : بناء الفعل للمفعول ؛ لأن الغرضَ الإعلام بحصول ذلك .
ومنها : إضافة الحبِّ للشهوات ، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء .
ومنها التجنيس : القناطير المقنطرة .
ومنها : الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله : { الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } ؛ لأنهما صارا متقابلَيْن في غالبِ العُرْف .
ومنها : وصف " الْقَنَاطِيرِ " ب " الْمُقَنْطَرَةِ " الدالة على تكثيرها مع كَثْرتها في ذاتها .
ومنها : ذكر هذا الجنس بمادة " الْخَيْلِ " لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه ، ولم يقل : الأفراس ، وكذا قوله " الأنْعَامِ " ، ولم يَقُل : الإبل والبقر والغنم ؛ لأنه أخصر .
قال القرطبيُّ : قال العلماء : ذكر الله - تعالى - أربعة أصناف من المال ، كل نوع منها يتموَّل به صِنْفٌ من الناس ، أمَّا الذهب والفضة فيتموَّل به التُّجَّارُ ، وأما الخيل المسومة فيتموّل بها الملوكُ ، وأما الأنعامُ فيتموَّل بها أهلُ البوادِي ، وأما الْحَرْثُ فيتموَّل به أهل البساتين ، فتكون فتنة كل صنفٍ في النوع الذي يتموَّل به ، وأما النساء والبنون ففتنة للجميع .
قوله : { ذلِكَ مَتَاعُ } الإشارة بذلك للمذكور المتقدم ، فلذلك وَحَّدَ اسم الإشارة والمشارُ إليه متعدد ، كقوله :
{ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ } [ البقرة : 68 ] . وقد تقدم .
قال القاضي : وهذا يدل على أن هذا التزيين مضافٌ إلى الله تعالى ؛ لأن متاعَ الدنيا إنما خُلِقَ ليُسْتَمْتَعَ بها ، والاستمتاعُ بمتاع الدنيا على وجوه :
منها : أن ينفرد به من خَصَّه الله تعالى بهذه النعم ، فيكون مذموماً .
ومنها : أن يتركَ الانتفاع به - مع الحاجة إليه - فيكون مذموماً .
ومنها : أن ينتفع به في وجه مباحٍ ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالحِ الآخرةِ ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم .
ومنها : أن ينتفع به على وَجْهٍ يتوصل به إلى مصالحِ الآخرةِ ، وذلك هو الممدوحُ .
قوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } ، أي : الْمَرْجع ، فالمآب : مَفْعَل ، من آب ، يئوب ، إياباً ، وأوْبَةً وأيبةً ، ومآباً ، أي : رجع ، والأصل : مَأوَب ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى الهمزةِ الساكنة قبلَها ، فقلبت الواوُ ألفاً ، وهو - هنا - اسم مصدر ، أي : حسن الرجوع ، وقد يقع اسم مكانٍ ، أو زمان ، تقول : آب يَئُوبُ أواباً وإياباً كقوله تعالى : { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } [ الغاشية : 25 ] وقوله : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَآباً } [ النبأ : 21-22 ] . فإن قيل : المآب قسمان : الجنة ، وهي في غاية الحُسْن ، والنار ، وهي خالية عن الحُسْن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن ؟
فالجواب : أنَّ المقصود - بالذات - هو الجنة ، وأما النار فمقصودة بالعرض ، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة ؛ لأن قوله : { ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : ما يتَمتع به فيها ، ثم يذهب ولا يَبقَى ، قال - عليه السلام - : " إنما الدُّنْيا مَتَاعٌ ، وَلَيْسَ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا شَيءٌ أفْضَلُ مِنَ المَرْأةِ الصَّالِحَةِ{[5227]} " وقال - عليه السلام - : " ازهد فِي الدُّنيا يحِبَّك اللهُ " أي : في متاعِها من الجاهِ والمالِ الزائدِ على الضَّرورِيِّ والله تعالى - أعلم .