" قَدْ كَانَ " جواب قسم محذوفٍ ، و " آيَةٌ " اسم " كان " ولم يُؤنث الفعلُ ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان .
فهذا{[5152]} كقول امرئِ القيسِ : [ المتقارب ]
بَرَهْرَهَةٌ ، رُؤدَةٌ ، رَخْصَةٌ *** كَخُرُعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ{[5153]}
قال الأصمعي : " البَرَهْرَهَةُ : الممتلِئَة المُتَرَجْرِجَة ، والرُّؤدَة ، والرادة : الناعمة " .
قال أبو عمرو : وإنما قال : الْمُنْفَطِر ، ولم يقل : المنفطرة ؛ لأنه رَدٌّ على القضيب ، فكأنه قال : البان المنفطر ، والخرعوبة : القضيب ، والمنفطر : الذي ينفطر بالورق ، وهو ألين ما يكون .
قال أبو حيّان : أوَّل البانةَ بمعنى القضيب ، فلذلك ذكر المنفطر ، ولوجود الفصل ب " لَكُم " فإن الفصلَ مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيًّا ، كقوله : [ البسيط ]
[ إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنكُنَّ وَاحِدَةٌ *** بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيا لَمَغْرُورُ{[5154]}
وقال بعضهم : محمول على المعنى ، والمعنى : قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ .
أحدهما : أنه " لَكُم " و " فِي فِئَتَيْن " في محل رفع نَعْتاً لِ " آيَةٌ " .
والثاني : أنه " فِي فِئَتَيْنِ " وفي " لَكُمْ " وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من " آية " ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية ، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً .
الثاني : أنه متعلق ب " كان " ذكره أبو البقاء{[5155]} ، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل " فِي فِئَتَيْنِ " الخَبَرَ إشْكالٌ ، وهو أن حكم اسم " كان " حكم المبتدأ ، فلا يجوز ، أن يكونَ اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به ، وهنا لو جعلت " آية " مبتدأ ، وما بعدها خبراً لم يجز ؛ إذْ لا مُسَوِّغَ للابتداء بهذه النكرة ، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ " لَكُم " الخبرَ ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ .
قوله : { الْتَقَتَا } في محل جر ، صفة ل " فِئَتَيْنِ " ، أي : فئتين ملتقيتين ، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بَدر .
قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } العامة على رفع " فِئَةٌ " وفيها أوجُه :
أحدها : أن تَرْتَفِعَ على البدل من فاعل " الْتَقَتَا " ، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على " فِئَتَيْنِ " المتقدمتين في الذكر ؛ ليسوغ الوصف بالجملة ؛ إذ لو لم يقدَّر ذلك لما صَحَّ ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير ، والتقدير : في فئتين التقت فئةٌ منهما مؤمنة ، وفئة أخرى كافرة .
الثاني : أن يرتفع على خبر ابتداء مُضْمَرٍ ، تقديره : إحداهما فئةٌ تقاتل ، فقطع الكلام عن أوله ، ومِثْلُه ما أنشده الفرّاء على ذلك : [ الطويل ]
إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ شَامِتٌ *** وَآخَرُ مُثنٍ بالذي كُنْتُ أصْنَعُ{[5156]}
أي أحدهما شامت ، وآخر مُثنٍ ، ومثله في القطع قول الآخر : [ البسيط ]
حَتَّى إذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ *** وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ{[5157]}
أي : بعضه مَلْويٌّ ، وبَعْضُه مَحْصُود .
قال أبو البقاء{[5158]} : فإن قلتَ : إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة .
قيل : لمَّا عُلِم أن التفريقَ هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريفُ والتنكيرُ واحداً ، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدِّم : شامت ، وآخر مُثْنٍ ، فجاء به نكرة دون أل .
الثالث : أن يرتفع على الابتداء ، وخبره مُضْمَر ، تقديره : منهما فئةٌ تقاتل ، وكذا في البيت ، أي : منهم شامت ، ومنهم مثنٍ .
ومثله قول النابغةِ : [ الطويل ]
تَوهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا *** لِستَّةِ أعْوَامٍ ، وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْن لأياً أبِينُهُ *** نُؤيٌ كجذمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ{[5159]}
تقديره : منهنَّ - أي من الآيات - رمادٌ ، ومنهن نُؤيٌ ويحتمل البيت أن يكون - كما تقدم - من تقدير مبتدأ ، ورماد خبره ، كما تقدم في نظيره .
وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ{[5160]} : و{ فِئَةٌ تُقَاتِلُ } بالجر{[5161]} على البدل من " فِئَتَيْنِ " ، ويُسَمَّى هذا البدل بدلاً تفصيلياً كقول كُثَيِّر عَزَّةَ : [ الطويل ]
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن رِجْلٍ صَحِيحَةٍ *** وَرِجْلٍ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ{[5162]}
هو بدل بعض من كل ، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه ، تقديره : فئةٍ منهما .
وقرأ ابن السَّمَيْفَع ، وابن أبي عَبْلَة{[5163]} " فِئَةٌ " بالنصب ، وفيه أربعة أوجهٍ :
والثاني : النصب على المَدْح ، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني ، كأنه قيل : أمدح فئةٌ تقاتل في سبيل الله ، وأذمُّ أخرى كافرةً .
والثالث : أن ينتصب على الاختصاص ، جوَّزَه الزمخشريُّ .
قال أبو حيّان : " وليس بجيد ؛ لأن المنصوبَ لا يكون نكرةٌ ولا مُبْهَماً " .
قال شهابُ الدينِ{[5164]} : لا يعني الزمخشريُّ الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو : " نَحْنُ - مَعَاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ{[5165]} " ، إنما على النصب بإضمار فعلٍ لائقٍ ، وأهل البيان يُسَمُّونَ هذا النحوَ اختصاصاً .
الرابع : أن ينتصب " فِئَةٌ " على الحال من فاعل " الْتَقَتَا " ، كأنه قيل : التقتا مؤمنةً وكافرةً ، فعلى هذا يكون " فئة " و " أخرى " توطئةً للحال ؛ لأن المقصود ذكر وَصْفَيْهما ، وهذا كقولهم : زيد رجلاً صالحاً ، ومثله في باب الإخبار -
{ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ الأعراف : 81 ] ، ونحوه . قوله : { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } " أخْرَى " صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ وقرئت " كافرة " بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في " فِئَةٌ تُقَاتِلُ " ، وهذه منسوقة عليها .
وكان من حق من قرأ " فِئَةٌ " - بالنصب - أن يقرأ " وأخْرَى كَافِرَةٌ " بالنصب عطفاً على الأولى ، وفي عبارة الزَّمخشريِّ ما يوهم القراءة به ؛ فإنه قال : " وقرئ " فِئَةٍ تقاتلُ " " وأخرى كافرةٍ " بالجر على البدل من " فئتين " ، والنصب على الاختصاص أو الحال " فظاهر قوله : و " بالنصب " أي في جميع ما تقدم وهو فئةً تقاتلُ أخرى كافرةً وقد تقدم سؤال أبي البقاء ، وهو لو لم يقل : والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما ، والجواب عنه .
والعامة على " تُقَاتِلُ " – بالتأنيث - ؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث ، ومتى أسْنِد إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه ، سواء كان التأنيث حقيقةً أو مجازاً ، نحو الشمس طلعت ، وعليه جمهور الناس .
وخالف ابنُ كَيْسان ، فأجاز : الشمسُ طلع .
مستشهداً بقول الشاعر : [ المتقارب ]
فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا *** وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَِهَا{[5166]}
حيث قال : أبقل - وهو مسند لضمير الأرض - ولم يقل : أبقلت ، وغيره يخصه بالضرورة .
وقالوا : إذ كان يمكن أن يَنقلَ حركةَ الهمزةِ على تاء التأنيثِ الساكنةِ ، فيقول : ولا أرضَ أبقلتِ أبْقَالَها .
وقد رَدُّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك ، ولئن سلمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان ممن لغته النقل ، لأن النقل ليس لغةَ كلِّ العربِ .
وقرأ مجاهدٌ{[5167]} ومقاتل : " يُقَاتِلُ " - بالياء من تحت - وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابنِ كَيْسَانَ ، ومُقوِّيَةٌ له ، قالوا : والذي حسن ذلك كونُ " فِئَةٌ " في معنى القوم والناس ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكراً .
قوله : " يَرَوْنَهُمْ " ، قرأ نافع{[5168]} - وحده - من السبعة ، ويعقوب ، وسهل : " تَرَوْنَهُمْ " بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة .
فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ :
أحدها : أن الضميرَ في " لَكُمْ " والمرفوع في " تَرَوْنَهُمْ " للمؤمنين ، والضمير المنصوب في " تَرَوْنَهُمْ " والمجرور في " مِثْلَيْهِمْ " للكافرين ، والمعنى : قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد ، وهو أبلغ في القدرة ؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين ، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم ، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ ، ونحوه قوله تعالى :
{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 249 ] .
واستبعد بعضهم هذا التأويلَ ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [ الآية : 44 ]- :
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } ، فالقصة واحدة ، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين ؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم ، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم . ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين ؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [ إياهم ] {[5169]} مثلي عددهم ؛ ليمتحنهم ويبتليهم ، ثم قلَّلهم في أعينهم ؛ ليقدموا عليهم ، فالآيتان باعتبارين ، ومثله قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] ، وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] مع قوله :
{ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُون } [ المرسلات : 35 ] .
قال الفرّاء{[5170]} : المراد بالتقليل : التهوين ، كقولك - في الكلام{[5171]} - إني لأرى كثيركم قليلاً ، أي : قد هوّن عليّ ، [ لا أني أرى الثلاثة اثنين ]{[5172]} .
الثاني : أن يكون الخطاب في " تَرَوْنَهُم " للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في " تَرَوْنَهُمْ " للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في " مِثْلَيْهِمْ " للمؤمنين ، والمعنى : تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم ، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً ، والمسلمون على الثلث منهم ، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم ، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى :
{ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 65 ] .
قال الزمخشريُّ - رحمه الله - " وقراءة نافع لا تُساعِد عليه " ، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ : ترونهم مثليكم - بالخطاب في " مِثْلَيهم " لا بالغيبة .
قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ- : " قلت : بل يُساعد عليه ، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين ، وقد قيل ذلك " اه ، فلم يأت أبو عبدِ الله بجواب ؛ إذ الإشكالُ باقٍ . وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين :
أحدهما : أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة ، وأنَّ حقَّ الكلام : مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة ، ونظَّره بقوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
والثاني : أن الضمير في " مِثْلَيْهِمْ " وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين .
والمعنى : تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله ، [ فكأنه ] قيل : ترونهم{[5173]} - أيها المؤمنون - مثليكم ، وهو جواب حسن .
فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ؟
فالجواب : أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون{[5174]} أنهم يغلبونهم ؛ وذلك لأنه - تعالى - قال : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فأظهر ذلك العدد [ من المشركين ] {[5175]} للمؤمنين ؛ تقوية لقلوبهم ، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم .
الثالث : أن يكون الخطاب في " لَكُمْ " وفي " تَرَونَهُم " للكفار وهم قريش ، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي : قد كان لكم - أيها المشركون - آية ؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ ، ليجبنُوا عنهم ، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية ، وآية الأنفال ، وهي قوله تعالى : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم ؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين ، وهو أنه قللهم أولاً ، ليجترئ عليهم الكفارُ ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم ؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ .
الرابع : كالثالث ، إلا أن الضمير في " مثليهم " يعود على المشركين ، فيعودُ ذلك السؤالُ ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال : مثليكم ، ليطابق الكلام ، فيعود الجوابان .
وهما : إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وإما عوده على الفئة الكافرة ؛ لأنها عبارة عن المشركين ، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة ، ويكون التقدير : ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة . وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى ، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين ، حتى فشلوا ، وجبنوا ، فطمع المسلمون فيهم ، فانتصروا عليهم ، ويؤيده قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [ آل عمران : 13 ] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما ، ويعود السؤال ، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال - : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ؟ ويعود الجواب .
الخامس : أن الخطاب في " لَكُم " و " تَرَوْنَهُمْ " لليهود ، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين ، على معنى : ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم ، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه .
وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } - لليهود ، فجعله في " تَرَوْنَهُم " لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف ؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك ، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار ، أي : أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين{[5176]} ، ومع ذلك غلبهم المؤمنون ، وانتصروا عليهم ، فهو أبلغ في القدرة . ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين ، والمجرور على المشركين ، أي : ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين ؛ مهابةً لهم ، وتهويلاً لأمر المؤمنين ، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال - ، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين ، والمجرور على المسلمين ، والمعنى : ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم ؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين ، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين ، حَسَداً وبَغْياً .
فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع . أما قراءة الباقين ففيها أوجه :
أحدها : أنها كقراءة الخطاب ، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا ، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ .
الثاني : في أن الخطاب في " لَكُمْ " للمؤمنين ، والضمير المرفوع في " يَرَوْنَهُم " للكفار ، والمنصوب والمجرور للمسلمين ، والمعنى : يرى المشركون المؤمنين{[5177]} مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم ؛ ليهابوهم ، ويجبنوا عنهم .
الثالث : أن الخطاب في " لَكُم " للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في " يَرَوْنَهُم " للكفار ، والمنصوب للمسلمين ، والمجرور للمشركين ، أي : يرى المشركون [ المؤمنين ] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم ؛ لما تقدم في الوجه قبله .
الرابع : أن يعود الضميرُ المرفوعُ في " يَرَوْنَهُم " على الفئة الكافرةِ ؛ لأنها جمع في المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين ، أو [ على ] {[5178]} المسلمين ، أو أحدهما لأحدهم .
والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين ، وتكثير الكافرين ؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم ، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله ، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم ، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، ويؤيده قوله بعد ذلك : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } وقال في موضع آخر : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] .
وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته- : فالهاء في " يَرَوْنَهُمْ " للكفار ، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب ، والهاء في " مِثلَيْهم " للمسلمين .
فإن قلت : إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل : يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم ، فكان أبلغ في الآية ، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير ، والعدة كانت كذلك أو أكثر ؟
قلت : أخبر عن الواقع ، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر ، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه ، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين ، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا ، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى .
قال شهاب الدين{[5179]} : " وإلى هذا المعنى ذهب الفراء{[5180]} ، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال : مثليهم : ثلاثة أمثالهم ، كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها " .
وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال : مِثْل الشيء : ما ساواه ، ومثلاه [ ما ساواه ] {[5181]} مرتين . قال ابن كَيْسان : الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم ، والمعنى ليس عليه ، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين :
إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك .
والأخرى : أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم .
والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون لها محل ، وفيه - حينئذ - وجهانِ :
أحدهما : النصب على الحال من الكاف في " لَكُم " أي : قد كان لكم حال كونكم ترونهم .
والثاني : الجر ؛ نعتاً ل " فِئَتَيْنِ " ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما ، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف ، ويحتمل الرفع ؛ صفة لإحدى الفئتين ، ويحتمل الجر ؛ صفة ل " فِئَتَيْنِ " أيضاً ، على أن تكون الواو في " يرَوْنَهُمْ " ترجع{[5182]} إلى اليهود ؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين .
وقرأ ابن عباس وطلحة " تُرَوْنَهُمْ{[5183]} " - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان :
أحدهما : أنها البصرية ، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد ، وهو قوله : " رَأيَ الْعين " .
قال الزمخشريُّ : " رؤية ظاهرة مكشوفة ، لا لبس فيها " ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط ، وسلامة الحاسَّةِ ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [ بوجوه{[5184]} ] :
أحدها : أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر ، وينظر إليهم على سبيل التأمل .
وثانيها : أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض .
وثالثها : يجوز أن يقال : إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر ، [ فعلى هذا ] {[5185]} ، يتعدى لواحد ، ومثليهم نصب على الحالِ .
الثاني : أنها من رؤية القلبِ ، فعلى هذا يكون " مِثْلَيهِم " مفعولاً ثانياً ، وقد ردّه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين :
أحدهما : قوله : " رأي العين " .
الثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين .
وأجيب عن [ الوجه ] {[5186]} الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي ، أي : رأياً مثل رأي العين ، أي : يشبه رأي العين ، فليس إياه على التحقيق ، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد ، فلا يلزم المحال المذكور ، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى .
ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك ؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى ، فالمعنى : فإن اعتقدتموهن ، والاعتقاد قد يكون صحيحاً ، وقد يكون فاسداً ، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ " تُرَوْنَهُمْ " - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول - ؛ لأن قولهم : أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ ، لا يقين وعلم ، فلما كان اعتقاد التضعيفِ في جمع الكفار ، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً ؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال ، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم ، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه ، فكان المراد التخمين والظن ، لا اليقين والعلم ، كذا قيل ، وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن البصر لا يخالف المُبْصَر ؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر ، وسوء في النظر ، فيتخيل الباصر الشيءَ شيئَيْن فأكثر ، وبالعكس .
احتج من قال : إن الرائي هو المشركون بوجوه :
الأول : أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمفعول ، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله : { كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ } .
الثاني : مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله { قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ } خطاب مع الكفار ، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار ، والمعنى : تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً .
الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم ، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر .
واحتج من قال : الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود ، وهذا ليس بمحال فكان أولى ، قال ابن مسعودٍ : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم ، قال ابن مسعود : " حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعينَ ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً " . {[5187]}
وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود ، وهي قوله : { سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } ، [ آل عمران : 12 ] ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، أظهروا التمرد ، وقالوا : لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ ، وقلة المعرفة بالقتال ، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به . كل مَنْ ينازعنا ، فقال تعالى : إنكم - وإن كنتم [ أغنياء ] {[5188]} ، أقوياء ، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون ، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } يعني واقعة بدر ؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار ، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ ، ونصر المسلمين ، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه .
الفئة : الجماعة ، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله - أي : في طاعته رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين ، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيراً ، بين كل أربعة منهم بعير ، وفرسان : فرس للمقدادِ بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ، وأكثرهم رجَّالةٌ ، وكان معهم من الدروع ستة ، وثمانية سيوف ، والمراد بالأخْرَى الكافرة مُشركو مكة ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة ، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم مائةُ فرس ، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهلٍ ، وكان معهم من الإبل سبعمائةُ بعيرٍ ، وأهل الخيل كلُّهم كانوا دارعين وهم مائة نفرٍ ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك .
ذكر العلماءُ في كَوْنِ هذه الواقعةِ آية وجوهاً :
أحدها : أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور ، منها : قِلَّةٌ العَدَد .
ومنها : أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا .
ومنها : قِلَّةُ السلاح والخيل .
ومنها : أن ذلك أول غزواتهم ، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد ، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة ، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية ، وإذْ كان الأمر كذلك فكان غَلَبُ هؤلاء الضعفاء خارجاً عن العادة ، فيكون مُعْجزاً .
وثانيها : أنه - عليه السلام - كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش ، بقوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] ، يعني جمع قريش ، وكان قد أخبر - قبل الحرب - بأن هذا مصرع فلان ، فلما وُجِدَ مَخْبَرُ خَبَرهِ في المستقبل على وَفقِ خَبَرِه ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب ؛ فكان مُعْجِزاً .
وثالثها : قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } ، والصحيح أن الرائين هم المشركون ، والمرئيين هم المؤمنون ، وعلى كلا التقديرين يكون مُعْجِزاً .
ورابعها : قال الحسنُ : إن الله - تعالى - أمدَّ رسولَه في تلك الغزوة بخمسةِ آلافِ من الملائكة ، لقوله تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] ، وقال : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] قيل : إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوفٌ أبيض ، وهو المراد من قوله : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } .
قوله : { رَأْيَ الْعَيْنِ } في انتصابه ثلاثة أوجهٍ ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي ، أو النصب على المصدر التشبيهيّ .
الثالث : أنه منصوب على ظرف المكانِ ، قال الواحديُّ : " . . . كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب ، وَمَناطَ [ الْعُنق ] {[5189]} ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً .
و " رأى " مشترك بين " رأى " معنى أبصر ، ومصدره : الرَّأي ، والرؤية ، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم ، وله الرؤيا كالدنيا ، فوقع الفرق بالمصدر ، فالرؤية للبصر خاصةً ، والرؤيا للحلم فقط ، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية ، يقال : هذا رأي فلان ، أي : اعتقاده .
رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ *** خَوَارِجَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ
قوله : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } التأييد : تفعيل ، من الأَيْد ، وهو القوَّة ، والباء سببية أي : سبب تأييده ، ومفعول " يَشَاءُ " محذوف ، أي : من يشاء تأييده {[5190]} .
وقرأ ورش{[5191]} " يُويِّدُ " ، بإبدال الهمزة واواً مَحْضَةً ، وهو تسهيل قياسيٌّ ؛ قال أبو البقاء وغيره : " ولا يجوز أن يُجْعَل بَيْنَ بَيْنَ ؛ لقربها من الألف ، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً ، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بَيْنَ بَيْنَ لاستحالة الابتداء بالألف " .
وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة ، وبعد الضمة قَلْبُها واواً محضة للعلة المذكورة وهي قُرْب الهمزة التي بَيْنَ بَيْنَ من الألف ، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة .
و " عبرة " : فِعْلَة - من العبور كالركبة وكالجِلْسة ، والعبور : التجاوز ، ومنه عبرتُ النهر ، والمعبر السفينة ؛ لأن بها يُعْبَر إلى الجانب الآخر ، وعَبْرَةُ العين : دَمْعُهَا ؛ لأنها تجاوزها ، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتعاظ والاستيقاظ ؛ لأن المتَّعِظَ يَعْبُر من الجَهْل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة ، والاعتبار : افتعال منه ، والعبارة : الكلام الموصل إلى الغرض ، لأن فيه مجاوزةً ، وعبرت الرؤيا وعبَّرتها ، - مخفَّفاً ومثقلاً - لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها .
و " لأولي أبصار " صفة ل " عبرة " ، أي : عبرة كائنة لأولي الأبصار - لذوي العقول يقال : لفلان بصر بهذا الأمر .