قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو{[5228]} بتحقيق الأولى ، وتسهيل الثانية ، والباقون بالتحقيق فيهما ، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل .
وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام " قُلْ " .
ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها ، وتحرير مذاهبهم ؛ فإنه موضع عسير الضبط ، فنقول : الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين ، أولاهُمَا مفتوحة ، والثانية مضمومة - الأول : هذا الموضع .
والثاني : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ، والثالث :{ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] ، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب :
أحدها : مرتبة قالون ، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع .
الثانية : مرتبة وَرْش وابن كثير ، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين ، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع .
الثالثة : مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر ، وهي تحقيق الثانيةِ ، من غير إدخال ألف بلا خلاف- ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر .
الرابعة : مرتبة هشام ، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه :
الأول : التحقيق ، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ .
الثاني : التحقيق ، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة .
الثالث : التفرقة بين السور ، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة ، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن .
الخامسة : مرتبة أبي عمرو ، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه . وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة .
ونقل أبو البقاء{[5229]} أنه قُرِئَ : أَوُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه .
وفي قوله : { أَؤُنَبِّئُكُم } التفاتٌ من الغيبة - في قوله : " للنَّاسِ " - إلى الخطاب ، تشريفاً لهم .
" بِخَيْرٍ " متعلق بالفعل ، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى " أعلم " تعدى لاثنين ، الأول تعدى إليه بنفسه ، وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة .
و " مِنْ ذَلِكُمْ " متعلق ب " خَيْر " ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل ، والإشارة ب " ذَلِكُمْ " إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع ، ولا يجوز أن تكون " خير " ليست للتفضيل ، ويكون المراد به خيراً من الخيور ، ويكون " مِنْ " صفة لقوله : " خَيْرٍ " .
قال أبو البقاء{[5230]} : " من " في موضع نَصْب بخير ، تقديره [ بما يفضل من ذلك ، ولا يجوز أن يكون صلة لخير ؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها ] {[5231]}مما رغبا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها ، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان .
كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى : { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 17 ] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد ، فانيةٌ ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ ، باقيةٌ .
قوله : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } يجوز فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلّق بخَيْرٍ ، ويكون الكلام تم هنا ، وتُرْفَع " جَنَّاتٌ " على خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره هو جنات ، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات ، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة ، ومثله قوله تعالى :
{ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ } [ الحج : 72 ] ، ثم قال : { النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] ويؤيد ذلك قراءة " جَنَّاتٍ{[5232]} " - بكسر التاء - على أنها بدل من " بِخَيْرٍ " فهي بيان للخير .
والثاني : أن الجارَّ خبر مقدم ، و " جَنَّاتٌ " مبتدأ مؤخر ، أو يكون " جَنَّاتٌ " فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك ، وعلى هذين التقديرين ، فالكلام تم عند قوله : { مِّن ذلِكُمْ } ، ثم ابتدأ بهذه الجملة ، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية .
وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ " جَنَّات " - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت " جنات " بدلاً من " خَيْر " .
الوجه الأول : أنه متعلق ب " أؤُنَبِّئُكُمْ " .
الوجه الثاني : أنه صفة ل " خَيْر " .
ولا بد من إيراد نصه ؛ فإن فيه إشكالاً ، قال - رحمه الله - بعد أن ذكر أن " لِلَّذِينَ " خبر مقدَّم ، و " جنات " مبتدأ - : " ويجوز الخفض في " جناتٍ " على البدل من " خَيْر " على أن تجعل اللام في " لِلَّذِينَ " متعلقةً ب " أؤُنَبِّئُكُمْ " ، أو تجعلها صفة ل " خَيْر " ، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض " جنات " ؛ لأن حروف الجر ، والظروف إذا تعلقت بمحذوف ، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع ، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير ، كقولك : لزيد مال ، في الدار زيد ، خلفك عمرو ، فلا بد من رفع " جَنَّات " ، إذا تعلقت اللام بمحذوف ، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت " جَنَّات " بفعلها ، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار ، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف ، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها ، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار ، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة ؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً " .
فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام ب " أؤُنَبِّئُكُمْ " أو بمحذوف على أنها صفة لخير ، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ " جنات " على البدل من " خَيْر " وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع " جَنَّات " وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف ، يحمل الضمير ، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو " جَنَّات " وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم ؛ إذ لقائل أن يقول : أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع " جَنَّات " على أنها خبر مبتدأ محذوف ، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى ، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة ب " أؤُنَبِّئُكُمْ " ؛ إذ لا معنى له ، وقوله - في الظروف وحروف الجر - : إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات . . وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور ؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع :
منها : الموضعان اللذان ذكرهما .
ورابعها : أن يقعا خبراً لمبتدأ .
وسادسها : أن تعتمد على استفهام . وقد تقدم تحرير هذا .
قد بيَّنا في قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] معنى التقوى ، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات ، المحترز عن المحظورات .
وقيل : التقوى عبارة عن اتقاء الشرك ؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان . قال تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } [ الفتح : 26 ] ، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى ، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك ، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفرَ :
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه في محل نصب على الحال من " جَنَّات " ؛ لأنه - في الأصل - صفة لها ، فلما قُدِّم نصب حالاً .
الثاني : أنه متعلق بما تعلق به " لِلَّذِينَ " من الاستقرار ، إذَا جعلناه خبراً ، أو رافعاً " جَنَّاتٌ " بالفاعلية ، أما إذا علقته ب " خَيْر " أو " أؤنَبَّئُكُمْ " فلا ؛ لعدم تضمينه الاستقرار .
الثالث : أن يكون معمولاً ل " تَجْرِي " ، وهذا لا يساعد عليه المعنى .
الرابع : أنه متعلق ب " خَيْر " ، كما تعلق به " لِلَّذِينَ " ، كما تقدم .
ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } ثم يُبْتَدَأ بقوله : { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية ، كما تقدم في غيرها . وقرأ يعقوب{[5233]} " جَنَّاتٍ " بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها بدل من لفظ " بِخَيْر " فتكون مجرورة ، وهي بيان له - كما تقدم .
الثاني : أنها بدل من محل " بِخَيْر " - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول .
الثالث : أنه منصوب بإضمار " أعني " ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر .
قوله : " تَجْرِي " صفة لِ " جَنَّات " ، فهو في محل رفع ، أو نصب ، أو جر - على حسب القراءتين ، والتخاريج فيهما - و " مِنْ تَحْتِهَا " متعلق ب " تَجْرِي " وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من " الأنهار " قال : أي : تجري الأنهار كائنةً تحتها ، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه .
قوله : { خَالِدِينَ } حال ، وصاحبها الضمير المستكن في " لِلَّذِينَ " والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر .
وقال أبو البقاء{[5234]} : " إن شئت من الهاء في : تَحْتِهَا " ، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين ، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى ؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز ، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو : زيد هند ضاربها هو ، والكوفيون يقولون : إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير ، وإلا يجب ، والبصريون لا يفرقون . وتقدم البحث في ذلك .
قوله : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ } من رفع " جَنَّاتٌ " - كما هو المشهور - كان عطف " أزْواجٌ " و " رِضْوانٌ " سَهْلاً ، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم أزواجٌ ، ولهم رضوان ، وتقدم الكلام على " أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ " في البقرة .
اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب ، فقال : " مُطَهَّرَةٌ " فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة ، والقُبْح ، وتشويه الخِلْقة ، وسوء العِشرة ، وسائر ما ينفر عنه الطبع .
قوله : " وَرِضْوَان " فيه لغتان :
ضم الراء ، وهي لغة تميم وقيس ، وبها قرأ عاصم{[5235]} في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي { مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [ المائدة : 16 ] ، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها ، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة .
والكسر ، وهو لغة الحجاز ، وبها قرأ الباقون{[5236]} - وهل هما بمعنى واحد ، أو بَينهما فرقٌ ؟
أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان .
قال الفرّاء : " رَضِيتُ رِضاً ، ورِضْوَاناً ورُضْواناً ، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان ، وبالضم الطُّغْيَان ، والرُّجحان ، والكُفْران ، والشُّكْران " .
الثاني : أن المكسور اسم ، ومنه رِضوان : خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته .
والمضموم هو المصدر ، و " مِنَ اللهِ " صفة لِ " رِضْوَان " .
روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ ؟ فَيَقُولُ : ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً " . {[5237]}
ثم قال : { وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ } ، أي : عالم بمصالحهم ، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم .