اللام في " ليذر " تُسمَّى لامَ الجحودِ{[6224]} ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار " أن " ولا يجوز إظهارها . والفرق بينها وبين لام " كي " أن هذه - على المشهور - شرطها أن تكون بعد كون منفي ، ومنهم من يشترط مضي الكونِ ، ومنهم من لم يشترط الكون .
وفي خبر " كان " - هنا - وما أشبهه قولان :
أحدهما : قولُ البصريينَ - أنه محذوفٌ ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه ، والتقدير : ما كان اللَّهُ مُريداً لأن يَذَر ، و " أن يذر " هو مفعول " مريداً " والتقديرُ : ما كان اللَّهُ مُريداً ترك المؤمنين .
الثاني : - قول الكوفيين - أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي ، وأن الفعل بعدها هو خبرُ كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها ، لا بإضمار " أن " والتقدير عندهم : ما كان الله ليذرَ المؤمنين .
وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً ، وإن كانَ النصبُ بإضمار " أن " فسَد من جهة المعنى لأن " أن " وما في حيزها بتأويل مصدر ، والخبر في باب " كان " هو الاسم في المعنى ، فيلزم أن يكون المصدر - الذي هو معنى من المعاني - صادقاً على اسمها ، وهو مُحَالٌ .
وجوابه : أما قوله : إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع ؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ ، ألا ترى أنَّ حروف الجَرِّ تُزاد ، وهي عاملة وكذلك " أن " عند الأخفشِ ، و " كان " في قول الشاعر : [ الوافر ]
. . . *** وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام{[6225]}
كما تقدم تحقيقه و " يذر " فعل لا يتصرف - كَيَدَعُ - استغناء عنه بتصرُّف [ مرادفه ]{[6226]} - وحُذِفت الواو من " يذر " من غير موجب تصريفي ، وإنما حُمِلَت على " يدع " لأنها بمعناها ، و " يدع " حُذِفت منه الواوُ لموجب ، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في " يذر " فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } [ البقرة : 278 ] .
وجه النظم : أن هذه الآية من بقية قصة أحُد ، فأخبر - تعالى - أن الأحوالَ التي وقعتْ في تلك الحادثةِ - من القتل والهزيمة ، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى العدو مع ما كان بهم من الجراحاتِ ، ثم دعاهم مرة أخْرَى إلى بدرٍ الصُّغْرَى ، لموعد أبي سفيانَ - دليلٌ على امتيازِ المؤمنين من المنافقين ، فأخبر - تعالى - بأنه لا يجوزُ - في حكمته - أن يترككم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم ، وإظهارهم أنهم منكم - بل يجب في حكمته أن يُمَيِّز الخبيث - وهو المنافق - من الطيب - وهو المؤمن - .
قال الكلبيُّ : قالت قريشُ : يا محمدُ ، تزعم أن من خالفك ، فهو في النَّارِ ، واللَّهُ عليه غَضْبَانُ ، وأن من اتبعك ، وهو على دينك ، فهو في الجَنَّةِ ، واللَّهُ عَنْهُ راضٍ . فأخْبِرْنا بمن يُؤمنُ بك ، ومَن لا يُؤمنُ ؛ فأنزل الله هذه الآية{[6227]} .
وقال السُّديُّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عُرِضَتْ عليَّ أمَّتِي فِي صُورَتِهَا في العِلِّيِّينَ ، كَمَا عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ وأعْلِمتُ مَنْ يُؤْمِنُ ومَنْ يَكْفُرُ " فبلغ ذلك المنافقين ، فقالوا : استهزاءً - : زعم محمدٌ أنه يعلم من يؤمن به ، ومَنْ يكفرُ ، ممن لم يُخْلَقْ بَعْدُ ، ونحن معه ، وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد اللَّهَ ، وأَثْنَى عليه ، ثم قال : " مَا بَالُ أقْوامٍ طَعَنُوا فِي عِلمي ، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ - فِيمَا بَيْنَكُم وبَيْنَ السَّاعَةِ - إلاَّ نَبَّأتُكمُ بِهِ " فقام عبد الله بن حذافة السهميّ ، وقال : مَنْ أبي ، يا رسولَ اللَّهِ ؟ فقال : " حُذَافة " فقام عُمَرُ ، فقال : يا رسول الله ، رضينا بالله رَبَّاً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبك نبيًّا ، فاعفُ عنا ، عفا الله عنك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فَهَل أنْتُمْ مُنْتَهٌونَ " - مرتين - ثم نزل عن المِنْبَرِ " فأنزل اللَّهُ هذه الآية{[6228]} .
قوله : { حَتَّى يَمِيزَ } حتى - هنا - قيل : هي الغائية المجرَّدة ، بمعنى " إلى " والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " وقد تقدم تحقيقه في " البقرة " .
فإن قيل الغاية - هنا - مشكلة - على ظاهر اللفظ - لأنه يصير المعنى : أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية - وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ - ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه .
هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قَطْعاً ، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ : لا أكَلِّم زيداً حتى يقدم عمرو ، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو .
فالجوابُ عنه : " حَتّى " غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام ، ومعناه : أنه - تعالى - يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ .
وقرأ حمزة [ والكسائي ]{[6229]} - هنا وفي الأنفال - " يُمَيِّزَ " بالتشديد - والباقون بالتخفيف ، وعن ابن كثيرٍ - أيضاً - " يُميز " من " أماز " فهذه ثلاث لغاتٍ ، يقال : مَازَه وميَّزه وأمازه . والتشديد والهمزة ليسا للنقل ؛ لأنّ الفِعْلَ - قبلهما - مُتَعَد ، وإنما " فعّل " - بالتشديد - و " أفعل " بمعنى : المجرد .
وهل " ماز " و " مَيَّز " بمعنًى واحدٍ ، أو بمعنيين مختلفين ؟ قولان . ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال : ماز ، إلا في كثير ، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت ، ولذلك قال أبو مُعاذٍ : يقال ميزَّتُ بين الشيئين تَمْييزاً ، ومِزْت بين الأشياء مَيْزاً . وقال بعضُهُمْ عكس هذا - مزت بين الشيئين مَيْزاً ، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً - وهذا هو القياس ، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير ، وهو لائقٌ بالمتعددات ، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت : فَرَقْت - بالتخفيف - ومنه : فرق الشعر ، وإن جعلته أشياء ، قلت : فرَّقْتها تَفْرِيقاً .
ورجَّح بعضُهم " مَيَّز " - بالتشديد - بأنه أكثر استعمالاً ، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه ، قالوا : التمييز ، ولم يقولوا : المَيْز - يعني لم يقولوه سماعاً ، وإلا فهو جائز قياساً .
ومعنى الآية : حتى يميز المنافق من المخلصِ ، وقد ميَّزهم يَوْمَ أحُدٍ ؛ حيث أظهروا النفاق ، وتخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : إنَّ التمييزَ إنْ ظَهَرَ وانكشفَ ، فقد ظهر كُفْرُ المنافقينَ ، وظهور كُفْرِهم ينفي كونهم منافقين ، وإن لم يظهرْ لم يحصل الوَعْدُ .
فالجوابُ : أنه ظهر بحيث يُفيد{[6230]} الامتيازَ الظنِّيّ ، لا الامتيازَ القَطْعِيّ .
قال قتادة : حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهادِ{[6231]} .
قال الضَّحَّاك : " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ " في أصلاب الرَِّجَالِ ، وأرحام النِّساءِ ، يا معشرَ المنافقينَ ، حتّى يفرق بينكم وبين مَنْ في أصْلابكم ، وأرحام نسائكم من المؤمنينَ{[6232]} .
وقيل : " حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ " وهو الذنب " مِنَ الطَّيِّبِ " وهو المؤمنُ ، يعني يَحُطُّ الأوزار عن المؤمنين بما يُصيبهم من نكبةٍ ومحنةٍ ومصيبةٍ .
وقيل : الخبيث : هو الكُفْر : أذلَّه اللَّهُ وأخْمَدَه ، وأعلى الإسلامَ وأظهره ، فهذا هو التمييزُ .
قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } ومعناه : أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييزِ ، فيقول : إنَّ فلاناً منافق ، وإن فلاناً مؤمنٌ ؛ فإن سُنَّة اللَّهِ جارية بأنه لا يُطْلِع عوامَّ الناس على غَيْبه ، ولا سبيلَ لَكُمْ إلى معرفة ذَلِكَ الامتيازِ إلا بالامتحاناتِ ووقوع المِحَن والآفاتِ - كما ذكرنا - وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاعِ على الغيب ، فذلك من خواصِّ الأنبياء ، فلهذا قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن ، وهذا منافق ، نظيره قوله تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 ، 27 ] .
ويحتمل أن يكون المعنى : وما كان اللَّهُ ليجعَلَكم كلَّكم عالمينَ بالغيب كعلم الرسول ، فتنشغلوا عن الرسول ، بل اللَّهُ يخص من يشاءُ من عبادِهِ ، ثم يُكلِّف الباقينَ طاعة هذا الرسولِ .
قوله : " وَلكِنَّ " هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ ؛ لأنه تعالى - لما قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ } أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه ؛ لعموم الخطابِ - فاستدرك الرُّسُلَ .
والمعنى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي } أي يصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى ، وقد تقدم أنها تقع بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن ، وفي الخلافين خلافٌ .
يَجْتَبِي : يصطفي ويختار ، من : جَبَوْت المال والماء ، وجبيتهما - لغتان - فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها ، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ ؛ لانكسارِ ما قبلها . ومفعول " يَشَاءُ " محذوفٌ ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى ، والتقدير : يشاءُ إطلاعه على الغيب .
قوله : { فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } يعني أن هذه الشبهة الذي ذكرتموها في الطعن في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من وقوع الحوادث المكروهة في قصة أُحُد ، قد أجبْنا عنها ، فلم يَبْقَ إلا أن تُؤمِنوا بالله ورُسُله . وإنما قال : " وَرُسُلِهِ " ولم يَقُلْ : ورسوله ؛ لأن الطريقةَ الموصلةَ إلى الإقرار بنبوَّة الأنبياء ليس إلا المُعْجِز ، وهو حاصل في حقِّ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فوجب الإقرار بنبوة الأنبياء ، فلهذا قال : " وَرُسُلِهِ " لأن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياءِ واحدٌ ، فمن أقر بنبوة واحدٍ لزمه الإقرار بنبوَّة الكُلِّ ، ثم لمَّا أمرهم بذلك وعدهم بالثواب فقال : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .