اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

وهذه الآية زيادة في تَسْلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه بَيَّن له أنّ الكفار بعد أن آذَوُا الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمسلمين يومَ أحُدٍ ، فسيؤذونهم - أيضاً - في المستقبل في النفسِ والمالِ .

والمرادُ منه أن يُوَطِّنوا أنفسَهم على الصْبر ؛ فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وَقْعه في قَلْبِهِ بخلاف غيرِ العالم فإنه يعظم عنده ويَشُقُّ عَلَيْهِ .

قوله : { لَتُبْلَوُنَّ } هذا جوابُ قَسَم محذوف ، تقديره : والله لَتُبْلَوُنَّ ، وهذه الواو هي واو الضمير ، والواو التي هي لام الكلمة حُذِفَتْ لأمر تصريفيِّ ، وذلك أن أصله : لَتُبْلَوُونَنَّ ، فالنون الأولى للرفع ، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد ، وتحرَّكَت الواوُ [ الأولى ]{[6263]} - التي هي لامُ الكلمةِ - وانفتح ما قبلَهَا ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان - الألف وواو الضمير - فحُذِفَتْ الألف ؛ لئلا يلتقيا ، وضُمَّتْ الواو ؛ دلالةً على المحذوف .

وإنْ شئت قلتَ : استُثْقِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى ، فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانيةُ بحركة مجانسةٍ ، دلالةً على المحذوف . ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً ؛ [ لأن حركتها عارضةٌ ]{[6264]} ولذلك لم [ تُقلَب ]{[6265]} ألِفاً ، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها .

ويقال للواحدِ من المذكَّر : لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين : لتبليانِّ يا رجلانِ ، ولجماعة الرجال : لتبلوُنَّ .

وأصل " لَتسْمعنَّ " : لَتَسْمَعُونَنَّ ، ففعل فيه ما تقدم ، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير ؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفاً صحيحاً .

فصل في المراد بالابتلاء

معنى الابتلاء : الاختبار وطلب المعرفةِ ، ومعناه في وَصْف الله تعالى به معاملةُ العبد معاملةَ المختبر ، واختلفوا في هذا الابتلاء ، فقيل : المراد ما نالهم من الشدة والفَقْرِ والقتل والجرح من الكفار ، ومن حيثُ أُلزموا الصبر في الجهاد .

وقيل : الابتلاء في الأموال بالمصائب ، وبالإنفاق في سبيل اللَّهِ وسائر تكاليف الشَّرْع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفَقْد الأحْباب . وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها .

وقال الحسنُ : التكاليفُ الشديدَةُ المتعلقة بالدينِ والمالِ ، كالصلاة والزكاة والجهاد .

وقال القاضي : والظاهرُ يحتمل الكُلَّ .

قوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } المرادُ منه أنواع الأذى الحاصلة من اليهود والنصارَى والمشركين للمسلمين ، وذلك أنهم كانوا يقولون : { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } و{ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } و " ثالث ثلاثة " وكانوا يطعنون في الرسول بكل ما يقدرون عليه ، وهجاه كعبُ بن الأشرفِ ، وكانوا يُحَرِّضون النَاس على مخالفة الرسول ، ويجمعون الناس لمحاربته ، ويُثَبّطون المسلمين عن نُصْرَتِه ، ثم قال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } .

قال المفسّرونَ : " بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى فنحاص اليهوديِّ ، يستمده ، فقال فنحاصٌ : قد احتاج ربكم إلى أن نمده فَهَمَّ أبو بكر أن يَضْرِبَه بالسيف ، وكان صلى الله عليه وسلم قال له - حين أرسله{[6266]} - : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إليَّ ، فتذكَّر أبو بكر ذلك ، وكفَّ عن الضرب "

فنزلت الآية .

فصل

في الآية تأويلان :

أحدهما : أن المرادَ منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفسِ والمالِ ، وتحمُّلِ الأذَى ، وتَرك المعارضة والمقابلة ، وذلك لأنه أقرب إلى دخول المُخالف في الدين ، كقوله تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }

[ طه : 44 ] وقوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ } [ الجاثية : 14 ] وقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } وقوله : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] وقوله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] .

قال الواحديُّ : كان هذا قَبلَ نزولِ آية السيف .

قال القفّالُ : والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ ، والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحُدٍ ، والمعنى : أنهم أمِرُوا بالصَّبر على ما يؤذون به الرسولَ صلى الله عليه وسلم على طريقِ الأقوالِ الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوالِ ، والأمر بالقتالِ لا ينافي الأمر بالمُصابرة .

التأويل الثاني : أن يكونَ المرادُ من الصَّبرِ والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم . فالصبرُ عبارة عن احتمال الأذى والمكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي . وقوله : { فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } أي : من صواب التدبير والرشدِ الذي ينبغي لكل عاقلٍ أن يُقْدِمَ عليه .

وقيل : { مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } أي : من حق الأمورِ وخَيرها .

وقال عطاءٌ : من حقيقة الإيمان .


[6263]:سقط في أ.
[6264]:في أ: لأنها حركة عارضة.
[6265]:في أ: تثبت.
[6266]:في أ: بعثه.