العامة على قراءة{[5319]} " لا يَتَّخِذْ " نَهْياً ، وقرأ الضَّبِّيُّ{[5320]} " لا يَتَّخِذُ " برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي ، أو هو خبر بمعنى النهي نحو { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } [ البقرة : 233 ] و { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ } [ البقرة : 282 ] - فيمن رفع الراء .
قال أبو البقاء وغيره : " وأجاز الكسائيُّ فيه [ رفع الراء ] {[5321]} على الخبر ، والمعنى : لا ينبغي " .
وهذا موافق لما قاله الفرَّاء ، فإنه قال : " ولو رَفَع على الخبر- كقراءة مَنْ قرأ : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } جاز " .
قال أبو إسحاق : ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً ، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً ؛ [ لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره ، فهو كافر } {[5322]}
كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي ، أو لم تثبت عندهما .
و " يتخذ " يجوز أن يكون متعدياً لواحد ، فيكون " أوْلِيَاءَ " حالاً ، وأن يكون متعدياً لاثنين ، وأولياء هو الثاني .
قوله : { مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أن " مِن " لابتداء الغايةِ ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ .
قال علي بن عيسى : " أي : لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين " .
وقد تقدم تحقيقُ هذا ، عند قوله تعالى : { وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ } في البقرة [ الآية 23 ] .
والثاني - أجاز أبو البقاء{[5323]} - أن يكون في موضع نصب ، صفة لِ " أوْلِيَاءَ " فعلى هذا يتعلق بمحذوف .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ } أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا ، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة .
قوله : { مِنَ اللَّهِ } الظاهر أنه في محل نصب على الحال من " شَيءٍ " ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له .
" في شَيءٍ " هو خبر " لَيْسَ " ؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ ، والتقدير : فليس في شيء كائن من الله ، ولا بد من حذف مضافٍ ، أي : فليس من ولاية الله .
وقيل : من دين الله ، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ : [ الوافر ]
إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً *** فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني{[5324]}
قال أبو حيّان : " والتنظير ليس بجيِّدٍ ؛ لأن " منك " و " مني " خبر " لَيْسَ " وتستقل به الفائدةُ ، وفي الآية الخبر قوله : " فِي شَيءٍ " فليس البيتُ كالآيةِ " .
وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم ، فقال : فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا{[5325]} " وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ ، تقديره : فليس من التقرب إلى الله والثواب ، وقوله : " فِي شَيءٍ " هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله : { فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ } .
قال أبو حيّان{[5326]} : " وهو كلام مضطرب ؛ لأن تقديره : " فليس من التقرُّب إلى الله " يقتضي أن لا يكون " مِنَ اللهِ " خبراً لِ " لَيْسَ " ؛ إذْ لا يستقل ، وقوله : " فِي شَيءٍ " هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى " ليس " - على قوله - ليس لها خبر ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صلى الله عليه وسلم : " من غشنا فليس منا " ليس بجيِّد ؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة ، وبين الآية الكريمةِ " .
قال شهاب الدين{[5327]} : " وقد يجاب عن قوله : إن " مِنَ اللهِ " لا يكون خبراً ؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ ، تقديره : فليس من أولياء اللهِ ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى - ، وكذا قول ابن عطية : فليس من التقرُّب ، أي : من أهل التقرب ، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية ، والحديث ، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذكر ، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } ، [ إبراهيم : 36 ] ، أي : من أشياعي وأتباعي ، وكذا قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي }[ البقرة : 249 ] أي : من أشياعي وقول العرب : أنت مني فرسخين ، أي : من أشياعي ما سرنا فرسخين ، ويجوز أن يكون " مِنَ اللهِ " هو خبر " ليس " و " فِي شيءٍ " يكون حالاً منالضمير في " لَيْسَ " - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً ، وغيره إيماءً ، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب " .
قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله ، والعامل فيه " لا يَتَّخِذْ " أي : لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً ، أي : يكون مواليه في الظاهر ، ومعاديه في الباطن ، وعلى هذا فقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ } وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله :
{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة ، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً ، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي ، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب ، ولما كانت المجاملة{[5328]} - في الظاهر - والمحاسنة{[5329]} جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم ، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك .
قوله : { تُقَاةً } في نصبها ثلاثة أوجهٍ ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير " تُقَاةً " ما هي ؟
أحدها : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والتقدير : تتقوا منهم اتِّقَاءً ، ف " تُقَاة " واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاءً - نحو : تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ ، كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] والأصل إنباتاً .
. . . *** وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا{[5330]}
أي : اعطائك ، ومن ذلك - أيضاً - قوله : [ الوافر ]
. . . *** وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا{[5331]}
وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ *** رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا{[5332]}
وهذا عكس الآية ؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه ، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] .
وقول الآخر : [ الرجز أو السريع ]
وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ{[5333]} *** . . .
والأصل : تَطَوِّيَّا ، والأصل في " تُقَاةً " وقية مصدر على فُعَل من الوقاية . وقد تقدم تفسير هذه المادة ، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فصار اللفظ " تقاة " كما ترى بوزن " فعلة " ومجيء المصدر على " فُعَل " و " فُعَلَة " قليل ، نحو : التخمة ، والتؤدة ، والتهمة والتكأة ، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر ، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها .
قيل : وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم ، نحو : تقى يتقى .
. . . *** تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو{[5334]}
وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة .
الثاني : أنها منصوبة على المفعول به ، وذلك على أن " تَتَّقُوا " بمعنى تخافوا ، وتكون " تُقَاةً " مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به ، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ ، فإنه قال : " إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه " .
وقُرِئَ " تَقِيَّةً{[5335]} " وقيل - للمتقى - : تُقَاة ، وتقية ، كقولهم : ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ : إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى .
الثالث : أنها منصوبةٌ على الحال ، وصاحب الحال فاعل " تَتَّقُوا " وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها ، كقوله : { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] ، وقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] وهو - على هذا - جمع فاعل ، - وإن لم يُلْفَظْ ب " فاعل " من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة ، نحو : رَامٍ ورُمَاة ، وغَازٍ وغُزَاة ، لأن " فُعَلَة " يطَّرد جمعاً لِ " فاعل " الوصف ، المعتل اللام .
وقيل : بل لعله جمع ل " فَعِيل " أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي .
قال شهاب الدينِ : " جمع فعيل على " فُعَلَة " لا يجوز ، فإن " فَعِيلاً " الوصف المعتل اللام يجمع على " أفعلاء " نحو : غَنِيّ وأغنياء ، وتَقِيّ وأتقياء ، وصَفِيّ وأصفياء .
فإن قيل : قد جاء " فعيل " الوصف مجموعاً على " فُعَلَة " قالوا : كَمِيّ وكُمَاة .
فالجواب : أنه من النادر ، بحيثُ لا يُقاس عليه " .
وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ{[5336]} - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة ، يقال : اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى ، فيجيء مصدر " افْتَعَل " من هذه المادة على الافتعال ، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ ، ويقال - أيضاً - : تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى ، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق .
وأمال الأخوانِ " تُقَاةً{[5337]} " هنا ؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة ؛ لأن السبب غيرُ ظاهر ، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب ، وطالب ، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر ؛ لكن سبب الإمالة ظاهر ، وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يؤثر مع السبب الظاهر ، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى .
والجوابُ : أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء ، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة ، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء .
وأمال الكسائي{[5338]} - وحده- { حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] فخرج حمزة عن أصله ، وكأن الفرق أن " تُقَاةً " - هذه - رُسِمَتْ بالياء ، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه ، ولذلك قال بعضهم : " تَقِيَّة " - بوزن مطيّة - كما تقدم ؛ لظاهر الرسم ، بخلاف " تُقَاتِهِ " .
قال شهاب الدين{[5339]} : [ وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا ؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ ؛ لأجل حرف الاستعلاء ، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَتَُه ، نحو : رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة ، وليس هذا من ذلك ؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ .
وقوله : . . . ] {[5340]} " مِنْهُمْ " متعلق ب " تَتَّقُوا " أو بمحذوف على أنه حال من " تُقَاةً " ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها ، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً ، هذا إذا لم نجعل " تُقَاةً " حالاً ، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق " مِنْهُمْ " بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالاً من " تُقَاةً " لفساد المعنى ؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين .
أحدهما : أنه - تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللهِ - تعالى - ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس ، فقال : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } .
والثاني : أنه لما بَيَّن أنه - تعالى - مالك الدنيا والآخرة ، بيَّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه - دون أعدائه - .
أحدها : قال ابن عبّاسٍ : كان الحجاج بن عمرو وابنُ أبي الحُقَيْقِ وقيسُ بنُ زيد [ قد بطنوا ] {[5341]} بنفر من الأنصار ؛ ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين : اجتنبوا هؤلاءِ اليهودَ ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطَنَتَهُمْ ، فنزلت هذه الآية{[5342]} .
وثانيها : قال مقاتلٌ : نزلت في حاطب بن أبي بلتعةَ ، وغيره ؛ حيث كانوا يُظْهرون المودةَ لكفار مكة فنهاهم عنها{[5343]} .
ثالثها : قال الكلبيُّ - عن أبي صالح عن ابن عبّاس - : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيِّ وأصحابه - كانوا يتولَّون اليهودَ والمشركين ، ويأتونهم بالأخبار ، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية . {[5344]}
ورابعها : أنها نزلت في عُبَادةَ بن الصامتِ - وكان له حلفاء من اليهود - في يوم الأحزاب قال : يا رسول الله ، معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي ، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين . {[5345]}
وقد نزلت آيات أخَرُ في هذا المعنى ، منها قوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] ، وقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ المجادلة : 22 ] وقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] وقوله :
{ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقوله : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] .
موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسامٍ .
الأول : أن يَرْضَى بكفره ، ويُصَوِّبَه ، ويواليَه لأجْلِه ، فهذا كافر ؛ لأنه راضٍ بالكفر ومُصَوِّبٌ له .
الثاني : المعاشرةُ الجميلةُ بحَسَب الظاهر ، وذلك غير ممنوع منه .
الثالث : الموالاة ، بمعنى الركون إليهم ، والمعونة ، والنُّصْرة ، إما بسبب القرابة ، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينَه باطل - فهذا منهيٌّ عنه ، ولا يوجب الكفر ؛ لأنه -بهذا المعنى- قد يجره إلى استحسان طريقِه ، والرِّضَى بدينه ، وذلك يخرجه عن الإسلام ، ولذلك هدد الله بهذه الآية - فقال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْء } .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء - بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين- فأما إذا تولَّوْهم ، وتولَّوُا المؤمنين معهم ، فليس ذلك بمنهيٍّ عنه ، وأيضاً فقوله : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } فيه زيادة مَزِيَّةٍ ؛ لأن الرجلَ قد يوالي غيره ، ولا يتخذه موالياً له ، فالنهيُّ عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل موالاته ؟
فالجوابُ : أن هذين الاحتمالين - وإن قاما في الآية - إلا أن سائر الآيات الدالةِ على أنه لا يجوز موالاتُهم دلت على سقوطِ هذينِ الاحتمالينِ .
معنى قوله : { مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : من غير المؤمنين ، كقوله :
{ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ } [ البقرة : 23 ] ، أي : من غير الله ؛ لأن لفظة " دون " تختص بالمكان ، تقول : زيد جلس دون عمرو ، أي : في مكان أسفلَ منه ، ثم إن مَن كان مُبَايِناً لغيره في المكان ، فهو مغاير له ، فجعل لفظ " دون " مستعملاً في معنى " غير " ، ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } يقع عليه اسم الولاية أي : فليس من ولاية الله في شيءٍ ، يعني أنه مُنْسَلِخ من ولاية الله - تعالى - رأساً ، وهذا أمر معقول ؛ فإن موالاةَ الوليّ وموالاةَ عدوِّه ضدان .
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي *** صَدِيقُكَ ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ{[5346]}
وكتب الشَّعبيُّ إلى صديق له كتاباً ، من جملته : وَمَنْ وَالَى عَدُوَّكَ فَقَدْ عَادَاكَ ، وَمَنْ عَادَى عَدُوَّكَ فَقَدْ وَالاَكَ . وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون الله في شيء .
ثم قال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } أي : إلا أن تخافوا منهم مخافة ، قال الحسنُ : " أخذ مُسَيْلمةَ الكذابُ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لأحدهما : تشهد أن محمَّداً رسولُ الله ؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حَنِيفَةَ ، ومحمد رسول قُرَيْش - فتركه ، ودعا الآخر قال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : إني أصم ، ثلاثاً - فقدمه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسولَ الله ، فقال : أما هذا المقتولُ فمضى على يقينه وصدقه ، فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه{[5347]} " .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [ النحل : 106 ]
منها : أنها تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، بأن لا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان ، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة ، بشرط أن يضمر خلافَه ، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول ؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر ، لا في أحوال القلوبِ ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل ؛ لقصةِ مسيلمةَ .
ومنها : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه ، أما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتلِ ، والزنا ، وغصب الأموالِ ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين ، فلا تجوز ألبتة .
ومنها : أنها تحل مع الكفار الغالبين ، وقال بعض العلماء : إنها تحل مع المسلمين - إذا شاكلت حالُهم حال المشركين ؛ محاماةً على النفس ، وهل هي جائزة لصَوْن المال ؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِم كَحُرْمَةِ دَمهِ " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ{[5348]} " ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم ؛ دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فهاهنا أوْلَى .
قال معاذُ بن جبل ومجاهدٌ : كانت التَّقِيَّةُ في أول الإسلام - قبل استحكام الدين ، وقوة المسلمين - أما اليوم فلا ؛ لأن الله أعَزَّ الإسلامَ ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم ، وروي عن الحسنِ أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامةِ{[5349]} .
قال ابن الخطيبِ : " وهذا القول أوْلَى ؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان " .
وقال يحيى البِكَالِيّ : قلت لسعيد بن جُبَيرٍ - في أيام الحجاجِ - : إن الحسنَ كان يقول : لكم التقية باللسان ، والقلب مطمئن ، فقال سعيد بن جبيرٍ : ليس في الإسلام تَقِيَّة ، إنما التَّقِيَّة لأهل الحرب .
قوله : { وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } ، " نَفْسَهُ " مفعول ثان ل " يُحَذِّرُ " ؛ لأنه في الأصل مُتَعَدِّ لواحد ، فازداد بالتضعيف آخر ، وقدَّر بعضهم حذفَ مضاف - أي : عقاب نفسه - وصرح بعضهم بعدم الاحتياجِ إليه ، كذا نقله أبو البقاء عنهم .
قال الزّجّاج : " أي : ويحذركم الله إياه ، ثم استغنَوْا عن ذلك بذا ، وصار المستعملَ ، قال تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }
[ المائدة : 116 ] فمعناه : تعلم ما عندي ، وما في حقيقتي ، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك " .
قال شهابُ الدينِ{[5350]} : " وليس بشيءٍ ؛ إذْ لا بد من تقدير هذا المضافِ ، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه - في نحو قولك : حذرتك نفسَ زيد - أنه لا بد من شيءٍ تحذر منه - كالعقاب والسطوة ؛ لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّرُ الحذرُ منها نفسها ، إنما يتصور من أفعالِها وما يَصْدُرُ عنها " .
قال أبو مسلم : " والمعنى { وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أن تعصوه ، فتستحقوا عقابه " .
وَعَبَّر - هنا - بالنفس عن الذات ؛ جَرْياً على عادةِ العرب ، كما قال الأعشى : [ الكامل ]
يَوْماً بِأجْوَدَ نَائِلاً مِنْهُ إذَا *** نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمْتَ سُؤَّالَهَا{[5351]}
قال بعضهم : " الهاء في " نَفْسَهُ " تعود على المصدر المفهوم من قوله : " لاَ يَتَّخِذ " ، أي : ويحذركم الله نفس الاتخاذ ، والنفس : عبارة عن وجود الشيء وذاته " .
قال أبو العباس المُقْرِئُ : ورد لفظ " النفس " في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى العلم بالشيء ، والشهادة ، كقوله : { وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } ، يعني علمه فيكم ، وشهادته عليكم .
الثاني : بمعنى البدن ، قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْت } [ آل عمران : 185 ] .
الثالث : بمعنى الهَوَى ، كقوله : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] يعني الهَوَى .
الرابع : بمعنى الروحِ ، قال تعالى : { أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ } [ الأنعام : 93 ] ، أي : أرواحكم .
المعنى : يخوفكم الله عقوبته على موالاةِ الكُفَّار ، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور .
والفائدة في ذكر النفس : أنه لو قال : ويحذركم الله ، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله - تعالى - أو من غيره ، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه ، يكون أعظمَ أنواع العقابِ ؛ لكونه قادراً على ما لا نهايةَ له ، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد ، ثم قال : { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } ، أي : يحذركم اللهُ عقابه عند مصيركم إليه .