لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ ، وصحة دينِ الإسلام ، وذكر صفاتِ المخالفين ، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم ، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة ، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين .
قوله : " اللَّهُمَّ " اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ .
قال البصريون : الأصل : يا الله ، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة ، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف ، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره ، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من " يا " بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر ، كقوله : [ الرجز ]
وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا *** سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا
أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا *** فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا{[5299]}
إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا *** أقُولُ : يَا اللَّهُمَّ ، يَا اللَّهُمَّا{[5300]}
وقال الكوفيون : الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ ، تقديره : أمَّنَا بخير ، أي : اقْصِدنا به ، من قولك : أمَمْتُ زيداً ، أي : قصدته ، ومنه : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] أي : قاصديه ، وعلى هذا فالجمع بين " يا " والميم ليس بضرورةٍ عندهم ، وليست عوضاً منها .
وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ : اللهمَّ أمَّنا بخير ، وقال تعالى : { اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفالِ : 32 ] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به ، فلو كانت الميمُ بقيةَ " أمَّنَا " لفسد المعنى ، فبان بُطْلانهُ .
وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ ، فلا يجوز أن يقع في غيره ، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً ، أنشد الفرّاء : [ مخلّع البسيط ]
كَحَلْفَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ *** يَسْمَعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ{[5301]}
استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله : يسمعها .
ولا يجوز تخفيفُ الميم ، وجوَّزه الفراء ، وأنشد البيت : بتخفيف الميم ؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك .
قال بعضهم : هذا خطأ فاحشٌ ، وذلك لأن الميم بقية " أمَّنَا " - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء ؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك ، بل الرواية : [ مخلّع البسيط ]
. . . *** يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ
قال شهابُ الدينِ{[5302]} : " وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى ؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك " .
ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل ، كما قالوا - في وَيلمِّهِ - : وَيْلٌ لأمِّهِ .
وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول : يا اللهم ، ولما لم يَجُزْ ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ ، بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً ، كما يقال : يا الله اغفر لي ، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال : يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك - ؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل ، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن " ما أكرمه " معناه : شيء أكرمه ، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب ، فكذا هنا .
وأجاب عن الرد الثاني بقوله : مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز أن يقال : يا اللهمَّ ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللّهمّ ، وقول البصريين : هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن .
وقولهم : كان يلزم ذكر حرف النداء ، فقد يُحْذَف حرف النداءِ ، كقوله : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [ يوسف : 46 ] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف .
واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه :
أحدها : أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء ، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال : الله يا ، وهذا لا يجوز البتة .
ثانيها : لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ ، فيقال : زيدُمَّ ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد ، يا بَكر .
ثالثها : لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه .
ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها ، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم : لا هُمَّ - أي : اللهم .
لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ *** أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ{[5303]}
لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا *** النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا{[5304]}
قوله : { مَالِكَ الْمُلْكِ } فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من " اللَّهُمَّ " .
الثالث : أنه منادًى ثانٍ ، حُذِف منه حرف النداء ، أي : يا مالكَ الملك ، وهذا هو البدل في الحقيقة ؛ إذ البدل على نية تكرار العامل ؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ .
الرابع : أنه نعت ل " اللَّهُمَّ " على الموضع ، فلذلك نُصِبَ ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه ؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة ؛ لوجود الميم في آخرها ؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء ، وأجاز المبرّدُ ذلك ، واختارَه الزّجّاج ، قالا : لأن الميم بدل من " يا " والمنادى مع " يا " لا يمتنع وصفه ، فكذا مع ما هو عوضٌ منها ، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه ؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع " يا " .
وانتصر الفارسيّ لسيبويه ، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد " اللَّهُمَّ " ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة ، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات ، وجب أن لا يُوصف . والأسماء المناداة ، المفردة ، المعرفة ، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب ، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف ، فأما قوله : [ الرجز ]
يا حَكَمُ الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ *** . . . {[5305]}
يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ *** سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ{[5306]}
فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى *** بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا{[5307]}
فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف ؛ لما ذكرنا ، كان " اللهم " أولى أن لا يوصَف ، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصَف ، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصْوات ، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ ، فحقه أن لا يوصَف ، كما لا يوصَف حيَّهَلْ .
قال شهابُ الدينِ{[5308]} : " هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه ، وإن كان لا ينتهض مانعاً " .
قوله : " تُؤتِي " هذه الجملة ، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً ، مبينة لقوله : { مَالِكَ الْمُلْكِ } ويجوز أن تكون حالاً من المنادى .
وفي انتصاب الحال من المنادى خلاف ، الصحيح جوازه ؛ لأنه مفعول به ، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول ، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة : [ البسيط ]
يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ *** أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ{[5309]}
" بالعلياء " حالاً من " دار مية " ، وكذلك " أقوت " .
والثالث من وجوه " تُؤتِي " : أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر ، أي : أنت تؤتي ، فتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً ، وأن تكون حالية .
قوله : " تشاء " أي : تشاء إيتاءَه ، وتشاء انتزاعه ، فحذف المفعول بعد المشيئة ؛ للعلم به ، والنزع : الجذب ، يقال : نَزَعَه ، ينزعه ، نزعاً - إذا جذَبَهُ - ويُعَبَّر به عن المَيْل ، ومنه : نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذباً جذبها ، ويعبر به عن الإزالة ، يقال نزع الله عنك الشر - أي : أزاله - ومنه قوله تعالى : { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } [ الأعراف : 27 ] ومثله هذه الآية ، فإن المعنى وتُزيل الملك .
أحدها : قال ابن عباس وأنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة - وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهاتَ ، هيهاتَ ، من أين لمحمد ملك فارس والروم - وهم أعزُّ وأمْنَعُ من ذلك ! ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . {[5310]}
وثانيها : روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب{[5311]} ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون ، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم ، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ . فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان ، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها ، كأنه مصباح في جوف ليلٍ مظلمٍ ، فكبر ، وكبر المسلمون ، وقال عليه السلام : " أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء ، ثم ضرب الثالثة فقال : أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها ، فأبشروا " ، فقال المنافقون : ألا تعجبوا من نبيكم ، يَعِدُكم الباطل ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا ، فنزلت هذه الآية{[5312]} .
وثالثها : قال الحسنُ : إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ، ويردَّ ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم{[5313]} .
وقيل : نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ ، في قولهم : إن عيسى هو الله ، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها .
قال ابن إسحاق : أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم ، وأن عيسى - عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته ، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - عز وجل - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } إلى قوله :
{ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
قوله : { مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : مالك العباد وما ملكوا .
وقيل : مالك السماوات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه - : " أنَا اللهُ ، مالك الملك وملك الملوك ، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي ، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً ، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً ، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم " .
قال الزمخشريُّ : " مالك الملك ، أي : يملك جنس الملك ، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون " .
قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي : " تُؤتِي الْمُلْكَ " يعني النبوَّة{[5314]} والرسالة ، كما قال تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] ، فالنبوة أعظم مراتب الملك ؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً ، أما باطناً ؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم ، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ ، وأما ظاهراً ؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ .
فإن قيل : قوله : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا ، وذلك لا يجوزُ .
الأول : أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله ، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال : إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم{[5315]} ، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل ، فلما شرَّف الله بها محمَّداً صلى الله عليه وسلم صَحّ أن يُقَالَ : إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب .
الثاني : أن يكون المراد من قوله : { وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } ، أي : تحرمهم ، ولا تعطيهم هذا الملك ، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه ، ونظيره قوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ .
وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام- : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا }[ الأعراف : 88 ] وقول الأنبياء : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط - .
وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ :
إحداها : الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً .
الثانية : الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر ، إلا أنهم قالوا : إن محمداً فقير { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }
الثالثة : اليهود الذين قالوا : إن النبوة في أسلافِنَا ، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة .
الرابعة : المنافقون ، فإنهم كانوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] .
وقيل : المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف ، وهو عبارة عن أشياء :
الثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه ، ويكون تحت أمرِه ونهيِه .
الثالث : أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع .
أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم ، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال ، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها .
وأما الجاه ، فالأمر فيه أظهر ، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله .
وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى .
قال الكعبيُّ : قوله : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } ، أي : بالاستحقاق ، فتؤتيه من يقوم به ، وتنزعه من الفاسقِ ؛ لقوله تعالى : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
[ البقرة : 124 ] وقوله - في العبد الصالح- : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [ البقرة : 247 ] فجعله سبباً للملك .
وقال الجبائيُّ : هذا الملك مختص بملوك العَدْل ، فأما ملوك الظلم ، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه ، ومنعهم من ذلك ، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ : وأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه ، وأمره بأن يرده على مالكه ، فكذا ههنا .
قالوا : وأما النزعُ ، فإنه بخلاف ذلك ؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين ؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين ، ونزع الملك يكون بوجوه :
منها : بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدرة ، والحواسّ .
ومنها : بورود الهلاكِ ، والتلف على الأموال .
ومنها : أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل ، ويؤتيه القُوة ، والنُّصرة عليه ، فيقهره ، ويسلب ملكه ، فيجوز أن يُضاف هذا السلب ، و النزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره ، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ ، على يد الرسول - عليه السلام .
فالجوابُ : أن تقول : حصولُ المُلْكِ للظالِمِ إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل ، وذلك يقتضي نفي الصانع ، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب ، وذلك باطل ؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له ألبتة ، فلم يبق إلا أن يقال : بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر ؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً ، والقلوب تميل إليه ، والنصر قريب له ، والظفر جليس معه ، وأينما توجه حصل مقصوده ، وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله .
ولذلك قال بعض الشعراءِ : [ الكامل ]
لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي *** بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى *** ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ *** بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ{[5316]}
وقيل : قوله تعالى : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملكِ ، فيدخل فيه ملك النبوةِ ، وملكُ العلمِ ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ ، وملكُ البقاءِ والقدرةِ ، وملك محبة القلوبِ ، وملك الأموال ؛ لأن اللفظ عام ، فلا يجوز التخصيص من غير دليل .
وقال الكلبيُّ : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } محمَّداً وأصحابه ، { وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } أبا جهل وصناديد قريش .
وقيل : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } العرب ، { وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } فارس والروم .
وقال آخرون : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } آدم وولده ، { وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } من إبليس وجنده .
قوله : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } .
قال عطاء : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } المهاجرين والأنصار ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } فارس والروم .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } محمداً وأصحابه ، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } أبا جهل وأصحابه ، حين حُزَّت رؤوسُهم ، وألْقُوا في القليب .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالإيمان والهداية ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالكفر والضلالة .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالطاعة ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالمعصيةِ .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالنصر ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالقهرِ .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالغنى ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالفقرِ .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالقناعة والرِّضا ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالحرص والطمع .
قوله : { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } في الكلام حذف معطوف ، تقديرُهُ : والشَّرُّ ، كقَوْلِهِ تَعَالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ، أي : وَالبَرْدَ .
كأنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمامِهَا *** إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا{[5317]}
قال الزمَخْشَريُّ : " فَإن قُلْتَ : كَيْفَ قَالَ : " بِيَدِكَ الْخَيْرُ " دُونَ الشَّرِّ ؟
قلت : لأنَّ الكَلامَ إنَّما وَقَعَ في الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوْقُهُ اللهُ إلى الْمُؤمِنين ، - وَهُوَ الَّذِي أنْكَرتهُ الْكَفَرةُ .
فقال : { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } تؤتِيْه أوْلِياءَكَ عَلى رَغْم مِنْ أعْدائِكَ " .
وقيل : خَصَّ الخيرَ ؛ لأنَّه فِي مَوْضِعِ دُعَاءٍ ، وَرَغْبَةٍ فِي فَضْلِهِ .
وقيل : هَذَا مِنْ آدابِ الْقُرآنِ ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّح إلاَّ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِخَلْقِه ، وَمِثْلُه : " والشر ليس إليك " ، وَقَوْلُهُ تَعَالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] .
الألف وَاللامُ فِي " الْخَيْرِ " يُوجِبَانِ العُمُوم ، وَالْمَعْنَى : [ أنَّ الْخَيْرَاتِ تَحْصُلُ ] {[5318]} بقدرتك ، فَقولُهُ : " بِيَدِكَ " لاَ بِيَدِ غَيْركَ ، كَقَوْلِهِ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين } [ الكافرون : 6 ] ، أي : لَكُم دِيْنُكُمْ لا لغيركم ، وذَلِكَ الحَصْرُ منَافٍ لِحُصُولِ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِه فثبت دلالةُ الآيةِ عَلَى أنَّ الْجَمِيع مِنهُ بِخَلْقِه وتكوينه ، وَإيْجَادِهِ وَفَضْلِهِ ، وَأفضلُ الخيرات هو الإيمان بالله ، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا مِنْ تَخْلِيق الْعَبْدِ ، وَهَذا استدلالٌ ظَاهرٌ .
وزاد بَعْضُهُم فَقَالَ : كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أحدِهمَا أفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الآخَرِ ، كَانَ ذَلِكَ الفَاعِلُ أشْرَفَ وَأكْملَ من الآخرِ ، وَلاَ شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ ، ومِنْ كُلِّ مَا سِوى الإيْمانِ ، فَلَوْ كَانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العبد - لا بِخَلْقِ اللهِ تعالى - لوجَبَ كَوْنُ العبْدِ زَائِداً في الخَيْرِية على اللهِ - تَعَالى - وَذَلِكَ كفر قبيح ، فدلت الآية - من هذين الوجهين - على أنَّ الإيْمَانَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى .
فإن قيل : هَذِه الآيةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجهٍ آخر ؛ لأنه لما قال : { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } كان معناه : ليس بيدك إلا الخير ، وهذا يقتضي أن لا يكونَ الكفرُ والمعصيةُ بيده .
فالجوابُ : أن قوله : { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } يُفيد أن بيدك الخير - لا بيد غيرك - فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره ، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير ، وبيده ما سوى الخيرِ ، إلا أنه خَصّ الخير بالذكر ؛ لأنه الأمر المنتفَع به ، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى .
قال القاضي : " كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه - تعالى - أقدرهم عليه ، وهداهم إليه ، لما تمكنوا منه ، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى " .
قال ابن الخطيبِ : " وهذا ضعيفٌ ؛ لأن بعضَ الخير يصير مضافاً إلى الله - تعالى - ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد ، وهذا خلافُ النص .
وقوله : { إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونَزْعه ، والإعزار ، و الإذلال .