اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

قال مقاتل والضَّحّاكُ { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني عيسى - عليه السلام - وذلك أن نصارَى نجرانَ كانوا يقولون : إن عيسى أمرهم أن [ يتخذوه ] {[5666]} {[5667]} ربًّا ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال ابن عباس وعطاء : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ } أي : القرآن وذلك أن أبا رافع القُرظِي - من اليهود ، والرئيس - من نصارى نَجْران ، قالا : " يا محمد ، أتريد أن نعبدَك ونتخذك رباً ؟ قَالَ : " مَعَاذَ اللهِ أنْ نَأمُرَ بِعبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ ، وَلاَ بِذَلِكَ أمَرَنِي اللهُ " . فأنزل الله هذه الآية .

قال ابن عباسٍ : لما قالت اليهودُ : عُزَيْر ابنُ الله وقالت النصارى : المسيح ابنُ اللهِ نزلت هذه الآية .

والبشر جميع بني آدم ، لا واحد له من لفظه - كالقوم والجيش - ويوضع موضع الواحدِ ، والجمع ، قال القرطبي : " لأنه بمنزلة المصدر .

قوله : { أَن يُؤْتِيهُ } اسم " كَانَ " و " الْبَشَر " خبرها . وقوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } عطف على " يُؤتيهُ " ، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى ؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى ؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل - : إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف .

وإنما بينا هذا ؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء الله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب ، نحو : " ما كان لزيد أن يفعل " ، كقوله تعالى :

{ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا } [ النور : 16 ] . وقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] وقوله : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] أي : ما ينبغي لنا ، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين :

قسم يكون النفي فيه من جهة العقل ؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] .

وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعْرَف القسمان من السياق .

وقرأ العامة " يَقُولَ " - بالنصب - نسقاً على " يؤتيه " والتقدير : لا يجتمع النبوة وهذا القول . والعامل فيه " أن " وهو معطوف عليه بمعنى : ثم أن يقول .

والمراد بالحكم : الفَهْم والعلم . وقيل : إمضاء الحكم عن الله - عز وجل - .

و { الْكِتَابَ } القرآن .

وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب - : " يقولُ " - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف ، وهو مُشْكِلٌ ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف ؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله ؛ لفساد المعنى ، فكيف يقولون : على القطع والاستئناف {[5668]} .

قوله : { عِبَادًا } حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد : عباد .

قال ابنُ عطِية : ومن جموعه : عَبِيد وعِبِدَّى .

قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلُّها بمعنًى .

وقال بعضهم : العبادُ للهِ ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر .

وقال بعضهم : العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقرأت في لفظ " العباد " أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير ، وتصغير الشأن ، وانظر قوله : { وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }

[ آل عمران : 30 ] { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقوله : { قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] ، وأما العبيد ، فتستعمل في تحقيره .

ومنه قول امرئ القيس :

قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا *** مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ{[5669]}

وقال حمزة بن عبد المطلب : " وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي " ؟ ومنه قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم ، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك . ولما كانت " العباد " تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أتى بها في قوله تعالى : { قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية .

قال أبو حيّان : " وفيه بعض مناقشة ، أما قوله : ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى ، فأما عبيد ، فالأصح أنه جمع ، وقيل اسم جمع . وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع ، وألفه للتأنيث " .

قال شهابُ الدّينِ : " لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا ، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ " .

قال : وأما ما استقرأه من أن " عِباداً " يساق في [ مضمار ]{[5670]} الترفُّع والدلالة على الطاعة ، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ " العباد " وأما قوله : وأما العبيد ، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس ، وقول حمزة : " وهل أنتم إلا عبيد أبي " ، وقوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فاستقراء ليس بصحيح ، إنما كثر استعمال " عباد " دون " عبيد " لأن " فعالاً " في جمع " فَعْل " غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ ، وجمع فَعْل على " فعيل " لا يطَّرد .

قال سيبويه : " وربما جاء " فعيلاً " وهو قليل - نحو الكليب والعبيد " . فلما كان " فِعَال " مقيساً في جمع " عبد " جاء " عباد " كثيراً ، وأما { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جحاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله : { { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وبعده { قَالُواْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين . ونظير هذا - في سورة ق - { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] لأن قبله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } [ ق : 28 ] . وبعده : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وأما مدلوله فمدلول " عباد " سواء ، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ " عبيد " إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزةَ : هل أنتم إلا عبيد ؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين .

وقال شهابُ الدينِ : " ردّه عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود ، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ -

" عبيد " - ممنوع ؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره ، فالإحالة على اللفظ أوْلَى " .

قوله : " لي " صفة ل " عباد " . و { مِن دُونِ اللَّهِ } متعلق بلفظ " عِبَاداً " لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية ، وأن يكون حالاً ؛ لتخصُّص النكرة بالوصف .

قوله : { وَلَكِن كُونُواْ } أي : ولكن يقول : كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا ، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، كقوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : يقال لهم ذلك .

والربانيون : جمع رَبَّانِيّ ، وفيه قولان :

أحدهما : قال سيبَوَيْهِ : إنه منسوب إلى الرَّبّ ، يعني كونه عالماً به ، ومواظباً على طاعته ، كما يُقال : رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني ، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ ، والكثيرِ الشعرِ ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة : قالوا : رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ .

الثاني : قال المُبَرِّدُ : الربانيون : أرباب العلم ، منسوب إلى رَبَّان ، والربان : هو المُعَلِّم للخير ، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم ، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف ، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل : لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري ، قال : [ الرجز ]

أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ *** وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ{[5671]}

وقال سيبويه : زادوا ألفاً ونوناً في الربانيّ ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم ، وهذا كما يقال : شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ .

قال الواحديُّ : فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية .

وفي التفسير : كونوا فقهاء ، علماء ، عاملين . قاله عليٌّ وابن عباس{[5672]} والحسنُ .

وقال قتادةُ : حكماء ، علماء{[5673]} وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء ، معلمين {[5674]} .

وقل عطاءٌ : علماء ، حكماء ، نصحاء لله في خلقه{[5675]} .

وقيل : الرَّبَّانِيّ : الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره .

وقال سعيد بن جُبَيرٍ : الرباني : العالم الذي يعمل بعلمه {[5676]} .

وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبارُ : العلماء ، والربانيون : الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس ، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ : اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة .

وقال ابنُ زيدٍ : الربانيُّ : هو الذي يربُّ النَّاسَ ، والربانيون هم : ولاة الأمة والعلماء ، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ } [ المائدة : 63 ] أي : الولاة والعلماء ، وهما الفريقان اللذان يطاعان .

ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ، ومواظبتكم على طاعته .

قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي ، سُمِّي ربانيًّا ؛ لأنه يُطاع كالربِّ ، فنسب إليه .

قال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عبرانية ، أو سريانية ، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم ، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ .

قوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، أي : كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ :

أحدها : أنها متعلقة ب " كُونُوا " ذكره أبو البقاء ، والخلاف مشهورٌ .

الثاني : أن تتعلق ب " رَبَّانِيِّينَ " لأن فيه معنى الفعل .

الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل " رَبَّانِيِّينَ " ذكره أبو البقاء ، وليس بواضح المعنى ، و " ما " مصدرية ، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر ، أي : بسبب كونكم عالمينَ ، نظيره قوله : { الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ } [ الجاثية : 34 ] . وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك ؛ فإنه قال : و " ما " الظاهر أنها مصدرية ، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرطٌ ، وهو اتحاد المتعلَّق ، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية . و " كُنْتُمْ " معناه " أنتم " كقوله : { مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] أي مَنْ هو في المهد .

قوله : { تَعْلَمُونَ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو{[5677]} " تَعْلَمُونَ " مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم ، أي : تعرفون ، فيتعدى لواحدٍ ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة ، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً ، فيتعدى لاثنين ، أولهما محذوف ، تقديره : تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب .

ويجوزُ أن لا يُراد مفعول ، أي : كنتم من أهل التعليم ، وهو نظير : أطعم الخبزَ ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه ، فالتضعيف فيه للتعدية .

وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع ، بأنها أبلغ ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم ، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً ، فالوصْف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين ، والرباني يقتضي أن يَعْلَم ، ويُعَلَّمَ غيرَه ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه .

ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ ، والأصل عدم الحذف - والتخفيف مُسوَّغ لذلك ، بخلاف التشديد ، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول . وأيضاً فهو أوفق لِ " تَدْرُسُونَ " . والقراءتان متواترتان ، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى .

وقرأ الحسن ومجاهدٌ {[5678]} " تَعَلَّمُونَ " - بفتح التاء والعين ، واللام مشددة - من تعلم ، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما .

قوله : { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } كالذي قبله ، والعامة{[5679]} على " تَدْرُسُونَ " - بفتح التاء ، وضم الراء - من الدرس ، وهو مناسب " تَعْلَمُونَ " من علم - ثلاثياً .

قال بعضهم{[5680]} : كان حق من يقرأ " تُعَلِّمون " - بالتشديد - أن يقرأ " تُدَرِّسُونَ " - بالتشديد وليس بلازمٍ ؛ إذ المعنى : صرتم تُعَلِّمون غيرَكم ، ثم تُدَرِّسُونَ ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي : تتلونه عليهم ، كقوله : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } [ الإسراء : 106 ] .

قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الرواتين عنه - " تَدْرِسُونَ " - بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة ، يقال : دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع " درس " وقرأ هو - أيضاً - في رواية " تُدَرِّسُونَ " من درَّس - بالتشديد{[5681]} - وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة " تَعْلَمُونَ " بالتخفيف .

الثاني : أن التضعيف للتعدية ، ويكون المفعولان محذوفين ؛ لغهم المعنى ، والتقدير : تُدَرِّسُونَ غيركم العلم ، أي : تحملونهم على الدرس . وقُرِئَ " تُدْرِسُونَ " من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل{[5682]} - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم ، وأنزل ونزّل .

والدرس : التكرار والإدمان على الشيء . ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن ، يدرُسه ويدرِسه ، أي : كرر عليه ، ويقال درست الكتاب ، أي : تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس . ودَرَس المنزلُ : ذهب أثرُه ، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى .


[5666]:سقط في أ.
[5667]:في ب: يتخذهم.
[5668]:ينظر: المحرر الوجيز 1/462، والبحر المحيط 2/529، والدر المصون 2/146.
[5669]:ينظر البيت في ديوانه (119) وابن الشجري 1/264 والشعر والشعراء 1/122 والتاج 7/227 والبحر المحيط 2/529 والدر المصون 2/146.
[5670]:في أ: معنى.
[5671]:البيت للعجاج. ينظر ديوانه (1/480) والكتاب 1/238 والمخصص 1/45 والمحتسب 1/310 وابن الشجري 1/162 وابن يعيش 3/139 والخزانة 11/274 والدرر 1/156 والهمع 1/162 والمنصف 2/179 والأشموني 4/203 والمغني 1/18 وديوان الحماسة 4/1888 وفقه اللغة ص 75 وإعراب ثلاثة سورة ص 19 واللسان (قنس) والمقرب (ص 408) والدر المصون 2/147.
[5672]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/542) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/83) وزاد نسبته لابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس.
[5673]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/540) عن أبي رزين.
[5674]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/452) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
[5675]:ذكره أبو حيان في "البحر اتلمحيط (2/530) عن عطاء.
[5676]:انظر المصدر السابق.
[5677]:ينظر: السبعة 213، والكشف 1/351، والحجة 2/58، 59، وحجة القراءات 167، والعنوان 80، وشرح شعلة 318، وإعراب القراءات 117، وشرح الطيبة 4/160 وإتحاف 1/483.
[5678]:انظر: السابق.
[5679]:ونسبها في الشواذ 21 إلى سعيد بن جبير. وانظر: المحرر الوجيز 1/463، والبحر المحيط 2/530، والدر المصون 2/148.
[5680]:وهي قراءة أبي حيوة. انظر: المحرر الوجيز 1/463، والبحر المحيط 2/430، والدر المصون 2/148.
[5681]:انظر: السابق.
[5682]:قرأ بها أبو حيوة كما نسبها إليه القرطبي 4/79.