اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (91)

اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام :

الأول : الذي يتوب عن الكفر توبةً صحيحةً مقبولةً ، وهو المراد بقوله :

{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ } [ آل عمران : 89 ] .

الثاني : الذي يتوب عن الكفر توبةً فاسدةً ، وهو المذكور في الآيةِ المتقدمةِ ، وقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم } .

الثالث : الذي يموت على الكفر من غير توبةٍ ، وهو المذكور في هذه الآية ، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء :

أحدها : قوله : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً } قد تقدم أن عكرمة يقرأ : " نقبل ملء " بالنون مفعولاً به

وقرأ بعضهم {[5716]} " فلن يقبل " - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى ، " مِلْءَ " بالنصب كما تقدم .

وقرأ أبو جعفر وأبو السَّمَّال{[5717]} " مل الأرض " بطرح همزة " ملء " ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها .

وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام " ملء " في لام " الأرضِ " - بعروض التقائهما .

والملء : مقدار ما يُمْلأ الوعاء ، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر ، يقال : ملأت القدر ، أملؤها ، مَلأ ، والملاءة بضم الميم والمد : الملحَفة .

و " ذهباً " العامة على نصبه ، تمييزاً .

وقال الكسائي : على إسقاط الخافض ، وهذا كالأول ؛ لأن التمييز مقدر ب " من " واحتاجت " ملء " إلى تفسير ؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع - .

وقرأ الأعمش{[5718]} : " ذهب " – بالرفع- .

قال الزمخشريُّ : ردًّا على " مِلْءُ " كما يقال : عندي عشرون نَفْساً رجال ، يعني الردّ البدل ، ويكون بدل نكرة من معرفة . قال أبو حيان : ولذلك ضبط الحذّاق قوله : " لك الحمد ملء السموات " بالرفع ، على أنه نعت لِ " الْحَمْد " . واستضعفوا نصبه على الحال ، لكونه معرفة .

قال شهاب الدين : " يتعين نصبه على الحال ، حتى يلزم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوب على الظرف ، أي : إن الحمد يقع مِلْئاً للسماوات والأرض " .

فإن قيل : من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نَفْعَ فيه ، فما فائدة ذكره ؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنهم إذا ماتوا على الكُفْر ، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا - مع الكفر - أموالاً ، فإنها لا تكون مقبولة .

الثاني : أن هذا على سبيل الفرْض والتقدير ، فالذهب كناية عن أعز الأشياء ، والتقدير : لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بَذْله في غاية الكثرة ، فعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب ، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب .

روى أنس - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" يَقُولُ اللهُ - لأهْوَن أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ - : لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيءٍ ، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، فَيَقُولُ : أرَدتُّ مِنْك أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ : أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً ، فأبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بِي " {[5719]} .

قوله : " ولو افتدى به " الجمهور على ثبوت الواو ، وهي واو الحال .

قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف موقع قوله : " ولو افتدى به " ؟

قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . انتهى .

والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه : أن الله - تعالى - أخبر أن مَنْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها ، ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه ؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي .

قال أبو حيان : وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن " لَوْ " تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ " وقوله : " رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق " كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها ؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه ، فلا يناسب أن يُعْطَى ، وكذلك الظلف المحرق ، لا غناء فيه ، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل .

قيل : الواو - هنا - زائدة ، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أبي عبلة " لو افتدى به " - دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول ، فلم يتعمم النفي وجود القبول .

و " لو " قيل : هي - هنا - شرطية ؛ بمعنى " إن " لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره ؛ لأنها متعلقة بمستقبل ، وهو قوله : " فلن تقبل " ، وتلك متعلّقة بالماضي .

قال الزجاج : إنها للعطف ، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه ، ولو افتدى به لم تقبل منه ، وهذا اختيار ابن الأنباري ، قال : وهذا آكد في التغليظ ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه . وقيل : دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال ؛ لأن قوله : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً } يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية .

وقال ابن الخطيب : إن مَنْ غضب على بعض عبيده ، فإذا أتحفه ذلك العبد بتُحفَةٍ وهدية لم يقبلْها البتة ، إلا أنه قد يُقْبَل منه الفدية ، فأما إذا لم تُقْبَل منه الفدية - أيضاً - كان ذلك غاية الغضب ، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية ، فحكمه - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملءَ الأرض ذهباً ، ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولاً لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى . وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد ؛ لأنه بمعنى فدى ، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى ، نحو : شَوَى ، واشْتَوَى ، ومفعوله محذوف ، تقديره : افْتدَى نفسه . والهاء في " به " - فيها أقوال :

أحدها : - وهو الأظهر - عودها على " ملء " ؛ لأنه مقدار يملأها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض .

الثاني : أن يعود على " ذَهَباً " ، قاله أبو البقاء .

قال أبو حيان : ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء ، أو على الذهب ، فقوله : " أو على الذهب " غلط .

قال شهاب الدين{[5720]} : " كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه ، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره ، فضلة " .

الثالث : أن يعود على " مِثْل " محذوف .

قال الزمخشريُّ : " ويجوز أن يُراد : ولو افتدى بمثله ، كقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه } [ الرعد : 18 ] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً ، كقولك : ضربت ضرب زيد - تريد : مثل ضربه - وقولك : أبو يوسف أبو حنيفة - أي : مثله- .

وقوله : [ الرجز ]

لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ *** وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ{[5721]}

و " قضية ولا أبا حسن لها " يريد : لا مثل هيثم ، ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون : أنت لا تفعل كذا ، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد " .

قال أبو حيان : " ولا حاجةَ إلى تقدير " مثل " في قوله : " ولو افتدى به " ، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به ، فاحتاج إلى إضمار : " مثل " حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ؛ لأن ذلك - كما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير ؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً ، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير " مثل " ؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في اللفظ ، ولا في المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر .

وأما ما مثل به - من نحو : ضربت ضربَ زيدٍ ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد ، وذات أبي يوسف ، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة .

وأما " لا هيثم الليلة للمطي " ، فدل على حذف " مثل " ما تقرر في اللغة العربية أن " لا " التي لنفي الجنس ، لا تدخل على الأعلام ، فتؤثر فيها ، فاحتيج إلى إضمار : " مثل " لتبقى على ما تقرر فيها ؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس ؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس .

وأما قوله : كما يزاد في : مثلك لا يفعل - تريد : أنت - فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد " .

قال شهاب الدين : وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي وإن كان أنحَى من سيبويه - [ لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً ، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً ] {[5722]} .

قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعَّدَهم به . ويجوز أن يكون " لهم " : خبراً لاسم الإشارة ، و " عَذَابٌ " فاعل به ، وعمل لاعتماده على ذي خبره ، أي : أولئك استقر لهم عذاب . وأن يكون " لَهُمْ " خبراً مقدَّماً ، و " عَذَابٌ " مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر عن اسم الإشارة ، والأول أحسن ؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة ، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد .

قوله : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } هذا هو النوع الثالث من الوعيد ، ويجوز في إعرابه وجهان :

أحدهما : أن يكون { مِّن نَّاصِرِينَ } : فاعلاً ، وجاز عمل الجارّ ؛ لاعتماده على حرف النفي ، أي : وما استقر لهم من ناصرين .

والثاني : أنه خبر مقدَّم ، و { مِّن نَّاصِرِينَ } : مبتدأ مؤخر ، و " مِنْ " مزيدة على الإعرابَيْن ؛ لوجود الشرطين في زيادتها .

وأتى ب " ناصرين " جمعاً ؛ لتوافق الفواصل .

واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة ؛ لأنه - تعالى - ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة ، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر .


[5716]:انظر: الكشاف 1/384، والبحر المحيط 2/543، والدر المصون 2/163.
[5717]:انظر: المحرر الوجيز 1/470، والبحر المحيط 2/453، والدر المصون 2/163، وإتحاف فضلاء البشر 1/485.
[5718]:انظر: الكشاف 1/383، والبحر المحيط 2/453، والدر المصون 2/164.
[5719]:أخرجه البخاري (8/206) كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار رقم (6557) ومسلم (2160) وأحمد (3/129) وابن أبي عاصم (1/47) والبغوي في "تفسيره" (1/378). وذكره الحافظ في "الفتح" (11/416).
[5720]:ينظر: الدر المصون 2/165.
[5721]:تقدم بقرم 110.
[5722]:سقط في أ.