اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

النيل : إدراك الشيء ولحوقه .

وقيل : هو العطية .

وقيل : هو تناول الشيء باليد ، يقال : نِلْتُه ، أناله ، نَيْلاً ، قال تعالى : { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا } [ التوبة : 120 ] .

وأما النول - بالواو - فمعناه التناول ، يقال : نِلتُه ، أنوله ، أي تناولته ، وأنلْته زيداً ، وأنوله إياه ، أي ناولته إياه ، كقولك : عطوته ، أعطوه ، بمعنى : تناولته ، وأعطيته إياه - إذا ناولته إياه .

قوله : " حتى تنفقوا " بمعنى إلى أن ، و " مِن " في " مما تحبون " تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله : بعض ما تحبون{[5723]} .

قال شهاب الدين{[5724]} : " وهذه - عندي - ليست قراءة ، بل تفسير معنى " .

وقال آخرون : " إنها للتبيين " .

[ وجوز أبو البقاء ذلك فقال : " أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية ؛ لأن المحبة لا تنفق ، فإن جعلت المحبة بمعنى : المفعول ، جاز على رأي أبي علي " يعني يَبْقى التقدير : من الشيء المحبوب ، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف ] {[5725]} .

فصل

لما بيَّن أن نفقتهم لا تنفع ذكَر - هنا - ما ينفع ، فإن من أنفق مما يُحِبُّ كان من جملة الأبرار المذكورين في قوله : { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }

[ الانفطار : 13 ] ، وغيرها .

قال ابن الخطيب : " وفي هذا لطيفة ، وهي أنه - تعالى - قال في سورة البقرة - : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر } [ البقرة : 177 ] وقال - هنا - { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } والمعنى : لو فعلتم ذلك المتقدم كله ، لا تفوزون بالبر حتى تُنْفقوا مما تُحِبُّون ، وذلك يدل على أن النفقة من أفضل الطاعات .

فإن قيل : " حتى " لانتهاء الغاية ، فتقتضي الآية أن من أنفق مما يحب ، صار من جملة الأبرار ، ونال البر وإن لم يأت بسائر الطاعات .

فالجواب : أن المحبوب إنما يُنفق إذا طمع المنفِق فيما هو أشرف منه ، فلا ينفق المرءُ في الدنيا إلا إذا أيقن سعادة الآخرة ، وذلك يستلزم الإقرار بالصانع ، وأنه يجب عليه الانقيادُ لأوامره وتكاليفه ، وذلك يعتمد تحصيل جميع الخصال المحمودة في الدين " .

فصل

قال ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مَسْعُودٍ ومُجَاهِدٌ : البرّ : الجنة{[5726]} .

وقال مقاتل بن حيان : البرّ التقوى{[5727]} .

كقوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } [ البقرة : 177 ] إلى قوله : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] .

وقيل : البر " الطاعة .

فالذين قالوا : إن البر هو الجنة قال بعضهم : معناه لن تنالوا ثواب البر .

ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه ، وإكرامه إياهم ، وتفضله عليهم ، من قولهم : بَرَّني فلان بكذا أو بِرُّ فلان لا ينقطع عني .

وقوله : " مما تحبون " قال بعضهم : إنه نفس المال .

وقال آخرون : أن تكون الهبة رفيعة جيدة لقوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون } [ البقرة : 267 ] . وقال آخرون : ما يكون محتاجاً إليه القوم ؛ قال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه } [ الإنسان : 8 ] - في أحد تفاسير الحُبِّ - وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة } [ الحشر : 9 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأنْتَ صَحِيحٌ ، شَحِيحٌ ، تَأمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ " .

روى الضحاك عن ابن عباس : أن المراد به : الزكاة .

قال ابْنُ الخَطِيبِ : لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أوْلَى ؛ لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحَبّ ، والزكاة الواجبة لا يجب على المزكِّي أن يُخرج أشرف أموال ، أو أكرمها ، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل النَّدْب .

ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي ، أن هذه الآية منسوخة بإيتاء الزكاة ، وهذا في غاية البُعْد ؛ لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بَذْل المحبوب لوجه الله .

قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ } تقدم نظيره في البقرة .

فإن قيل : لِمَ قيل : { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } على جهة جواب الشرط ، مع أن الله يعلمه على كل حال ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن فيه معنى الجزاء ، تقديره : وما تُنْفِقُوا من شيء فإن الله مجازيكم به - قَلَّ أم كَثر- ، لأنه عليم به ، لا يَخْفَى عليه شيء منه ، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب ، والتعريض - في مثل هذا الموضع - يكون أبلغ من التصريح .

الثاني : أنه - تعالى - يعلم الوجه الذي لأجله تفعلونه ، ويعلم أن الداعي إليه هو الإخلاص أم الرياء ، ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخسّ الأرذل ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه } [ البقرة : 197 ] ، وقوله : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُه } [ البقرة : 270 ] أي : يبينه ويجازيكم على قدره .


[5723]:انظر: البحر المحيط 2/546، والدر المصون 2/166.
[5724]:ينظر: الدر المصون 2/166.
[5725]:سقط في ب.
[5726]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/587) عن السدي وعمرو بن ميمون وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (2/546) عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والسدي وعمرو بن ميمون. وانظر تفسير البغوي (1/325) وفتح القدير (1/360) وزاد المسير (1/420).
[5727]:ذكره البغوي في "تفسيره (1/325) وأبو حيان في "البحر المحيط" (2/546).