اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

الاستفهام فيه كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } [ البقرة : 28 ] .

وقيل : الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله : [ الخفيف ]

كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا *** تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ{[5704]} ؟

وقول الآخر : [ الطويل ]

فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَيُّ بْنَ مَالِكٍ *** كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ ؟{[5705]}

يعني : أين بالسيف ؟

{ وَشَهِدُواْ } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أنها معطوفة على " كَفَرُوا " و " كَفَرُوا " في محل نَصْب ؛ نعتاً لِ " قوماً " أي : كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء ، وردَّه مكيّ ، فقال : لا يجوز عطف " شَهِدُوا " على " كَفَرُوا " لفساد المعنى . ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد ، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة ، فلذلك فَسَد المعنى عنده . وهذا غير لازم ؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً ، ولذلك قال ابن عطيةَ : " المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر ، والواو لا تُرَتِّب " .

الثاني : أنها في محل نصب على الحال من واو " كَفَرُوا " فالعامل فيها الرافع لصاحبها ، و " قد " مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، وأبي البقاء وغيرهما .

قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون العامل " يَهْدِي " ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق " .

يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من " قَوْماً " والعاملُ في الحالِ " يَهْدِي " لما ذكر من فساد المعنى .

الثالث : أن يكون معطوفاً على " إيمَانِهِمْ " لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية ؛ إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة .

قال الزمخشريُّ : أن يُعْطَف على ما في " إيمانهم " من معنى الفعل ؛ لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] وقول الشاعر : [ الطويل ]

مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً *** وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا{[5706]}

وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جزم على التوهم أي لسقوط الفاء ؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض ، ولذا يقولون : توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ .

وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك .

وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى ، كقوله : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ الحديد : 18 ] .

إذ هو في قوة : إن الذين تصدقوا وأقرضوا .

وقال الواحدي : " عطف الفعل على المصدر ؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ ، تقديره : كفروا بالله بعد أن آمنوا ، فهو عطف على المعنى ، كقوله :

[ الوافر ]

لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي *** أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ{[5707]}

معناه : لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني " .

وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر ؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً ، كقوله : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ } لأن الموصول يطلب جملة فعلية ، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله ، وعطفنا عليه و " أقرضُوا " وأما " بعد إيمانهم " وقوله :

" للبس عباءة " ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل ، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم ؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله ، وتأويله بأن تأتي معه ب " أن " المصدريَّة مقدَّرةً ، تَقْدِيرُهُ : بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم ، ولهذا تأول النحويون قوله : للُبْسُ عباءة وتقرَّ : وأن تَقَرَّ ، إذ التقدير : وقرة عيني ، وإلى هذا ذهب أبو البقاء ، فقال : " التقدير : بعد أن آمنوا وأن شهدوا ، فيكون في موضع جر ، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف " .

وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا ، ويشهد لتقدير الزمخشريِّ ؛ فإنه قال : قوله " وَشَهِدُوا " منسوق على ما يُمْكن في التقدير ، وذلك أن قوله : " بعد إيمانهم " يمكن أن يكون : بعد أن آمنوا ، و " أن " الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر ، كقوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم } [ البقرة : 184 ] ، أي : والصوم .

ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل } [ الشورى : 51 ] فهو عطف على قوله : " إلا وحياً " ويمكن فيه : إلاَّ أن يُوحِيَ إليه ، فلما كان قوله : " إلا وحياً " بمعنى : إلا أن يُوحِي إليه ، حمله على ذلك .

ومثله من الشعر : [ الطويل ]

فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ *** صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ{[5708]}

خفض قوله : قدير ؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله : منضج ؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف ، فحملَه على ذلك ، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن ؛ لأنه جر " قدير " - هنا - على التوهُّم ، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله ؛ تخفيفاً ، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله : ليسوا مصلحين ؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر " ليس " .

فإن قيل : إذا كان تقدير الآية : كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق ، وبعد أن جاءَهم البيِّنات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان .

فالجواب : أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هي الإقرار باللسان ، فهما متغايران .

وقوله : " أن الرسول " الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل ، وقيل : هو بمعنى الرسالةِ ، فيكون مصدراً ، وقد تقدم .

فصل

في سبب النزول أقوالٌ :

الأول : قال ابنُ عباسٍ : نزلت في عشرة رهط ، كانوا آمنوا ، ثم ارتدُّوا ، ولَحِقُوا بمكةَ ، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون ، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ ، وكان منهم مَنْ آمن ، فاستثنى التائبَ منهم بقوله : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ{[5709]} } [ البقرة : 160 ] .

الثاني : رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير ، ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ ، فلما بُعثَ ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً {[5710]} .

الثالث : نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّتِه ، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا : هل لي من توبة ؟ فأرسل إليه أخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة ، وتاب ، وقبل الرسولُ صلى الله عليه وسلم توبته . قال{[5711]} القفال : للناس في هذه الآية قولان :

منهم من قال : إنَّ قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينا } [ آل عمران : 85 ] وما بعده إلى قوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ }[ آل عمران : 90 ] نزل جميعه في قصة واحدة ، ومنهم من قال : ابتداء القصة من قوله " إلا الذين تابوا " إلى " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار " على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان :

أحدهما : أنها في أهل الكتاب .

والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام ، آمنوا ثم ارتدوا .

فصل

قالت المعتزلةُ : أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ ؛ بمعنى : التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً ، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوهاً :

الأول : أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ؛ ثواباً لهم على إيمانهم ، كقوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }

[ العنكبوت : 69 ] وقوله : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وقوله : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه } [ المائدة : 16 ] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى .

الثاني : أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة ، قال تعالى :

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم } [ النساء : 168-169 ] وقال : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَار } [ يونس : 9 ] .

والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه ؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله ؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً ، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً ، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر ، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم ، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر ، وكونهم فاعلين للكفر ، فإنه قال : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } ؟ فأضاف الكفر إليهم ، وذمَّهم عليه .

وقال أهل السنة : المرادُ من الهداية خلق المعرفة ، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله ، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد ، فكأنه - تعالى - قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه ؟

فإن قيل : قال - في أول الآية - : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ } وقوله في آخرها : { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } يقتضي التكرار .

فالجواب : أن الأولَ مخصوص بالمرتد ، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي ، وسمي الكافر ظالماً ؛ لقوله : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

[ لقمان : 13 ] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب ؛ بسبب ذلك الكفر ، فكان ظالماً لنفسه .

قال القرطبي : " فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله ، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم .

فالجواب : أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام ، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك " .


[5704]:البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات. ينظر ديوانه (95) وابن يعيش 9/36 وابن الشجري 1/383 ومقاييس اللغة 3/190 والخزانة 7/287 و11/377 وتذكرة النحاة ص 444 ومعاني الفراء 3/300 واللسان (شعا) والعقد الفريد 4/406 والبحر المحيط 2/541 والدر المصون 2/160.
[5705]:ينظر ابن الشجري 1/267 ومعاني الفراء 1/164 والبحر المحيط 2/451 والأشباه والنظائر 4/192 والمذكر والمؤنث 1/204 والدر المصون 2/161.
[5706]:البيت للفرزدق وقيل للأحوص الرياحي. ينظر الكتاب (1/165)، (3/29) والإنصاف 1/193 والخصائص (2/354) والمغني (2/475) والجاحظ في البيان 2/261 وروح المعاني 12/98 والخزانة 4/158 والأشموني 2/235 وابن يعيش 2/52 والكشاف 1/442 و2/281 ورغبة الآمل 4/93 وضرائر الشعر ص 280 والدر المصون 2/161.
[5707]:تقدم برقم 762.
[5708]:البيت لامرئ القيس ينظر ديوانه ص 22، وجمهرة اللغة ص 929، وجواهر الأدب ص 211، وخزانة الأدب 11/47، 240، والدرر 6/161، وشرح شواهد المغني 2/857، وشرح عمدة الحافظ ص 628، ولسان العرب 9/195 (صفف)، 15/16 (طها) والمقاصد النحوية 4/146، والاشتقاق ص 233، وشرح الأشموني 2/424، ومغني اللبيب 2/460، وهمع الهوامع 2/141، والدر المصون 2/162.
[5709]:ذكره الرازي في التفسير الكبير 8/111.
[5710]:ينظر الرازي في التفسير الكبير 8/111.
[5711]:أخرجه الطبري (6/573) ومسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (3/314) رقم (3569) عن مجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/87) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر والبارودي في "معرفة الصحابة".