والمراد ب " الكتاب " - هنا - هو القرآن .
قال الزمخشري : " وخص القرآن بالتنزيل ، والتوراة والإنجيل بالإنزال ؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً ، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه ، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً ، فلهذا خصَّهما بالإنزال " .
فإن قيل : يُشْكِل هذا بقوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [ الكهف : 1 ] ، وبقوله : { وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } [ الإسراء : 105 ] .
فالجواب : أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه .
[ وسمي الكل باسم البعض مجازاً ، أو نقول : " إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ " .
قال أبو حيَّان : وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة ، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا على التنجيم ، وقد جاء في القرآن أنزل ، ونزَّل قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ونزلنا عليك الكتاب } [ النحل : 44 ] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني ، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار ، وهو محال ، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ ] .
قوله : { بِالْحَقِّ } قال أبو مسلم : يحتمل وجوهاً .
أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة .
الثاني : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ .
ثالثها : أنه حَقٌّ ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل .
رابعها : قال الأصَمُّ : أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ ، والإنصافِ .
خامسها : أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ ، كما قال : { أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] ، وقال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وقوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } معناه : مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء ، ولِما أخبروا به عن اللهِ ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين :
أحدهما : أنه موافق لسائر الكتب ، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها ، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا قرأ على أحد شيئاً [ والمفتري ] - إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف ، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى .
الثاني : قال أبو مسلم : إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان . والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك .
فإن قيل : كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه ؟
فالجوابُ : أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها ، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم .
فإن قيل : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام ؟
فالجوابُ : إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل ، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن ، كان القرآن مصدقاً لها ، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية ، وأصول العقائد لا تختلف ، فلهذا كان مصدِّقاً لها .
قوله : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } اختلف الناس في هذين اللفظين ، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف ، أم لا يدخلانهما ؛ [ لكونهما أعجميَّيْن{[51]} ؟ ] .
فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني ، قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين ، قال الزمخشريُّ : " وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل ، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [ عربيين{[52]} ] .
قال أبو حيّان{[53]} : " وكلامه صحيح ، إلا أن فيه استدراكاً ، وهو قوله " تَفْعِلَة " ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة ، ولم ينبه على " تفعلة " هل هي بكسر العين أو فتحها " ؟
قال شهاب الدينِ{[54]} : " لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما ، وإنما ذكر المستغرب " ، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ ، وهو أن التوراة ، والإنجيل ، والزبور سريانية فعرَّبوها{[55]} ، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا :
فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح ، فظهر منه نار ، يقال : وَرِيَ الزند وأوريته أنا ، قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ }
[ الواقعة : 71 ] ؟ ، فُثلاثيُّه قاصر ، ورباعيه مُتَعَدٍّ ، وقال تعالى : { فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً } [ العاديات : 2 ] ، ويقال أيضاً : وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي{[56]} ، فاستعمل الثلاثي متعدياً ، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا اللفظ ، يعني فلا يُقاس عليه ، فيقال : وريت النار مثلاً ، إذا تقرر ذلك ، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور ، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور ، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً } [ الأنبياء : 48 ] وهذا قولُ الفراء و[ مذهب ] {[57]} جمهور الناسِ .
وقال آخرون : بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي ، من التورية ، وهي التعريض ، وفي الحديث : " كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ{[58]} " ، وسميت التوراة بذلك : لأن أكثرها تلويحاتٌ ومعاريضُ ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة ، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال :
أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة{[59]} ، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة{[60]} والقَوْصرة{[61]} والدَّوْسَرة{[62]} والصَّوْمَعة ، والأصل : وَوْرَيَة - بواوين ؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي ، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ " توراة " - كما ترى - وكُتِبَت بالياء ، تنبيهاً على الأصل ، كما أميلت لذلك ، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج ، وتَيْقُور ، وتُخَمَة ، وتُراث وتُكأة{[63]} وتُجَاه وتُكْلاَن ، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة ، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض - : التَّرِيَّة ، هي فعيلة من لفظ الوراء ؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة .
الثاني ، وهو قول الفراء : أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة ، وهي لغة طائية ، يقولون في الناصية : نَاصَاة ، وفي جارية : جَارَاة ، وفي نَاجِيَة : نَاجَاة ، قال الشاعِرُ : [ الطويل ]
. . . *** فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ{[64]}
. . . *** نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ{[65]}
فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ *** وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ{[66]}
وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن :
أحدهما : أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة ، فإنه كثير ، فالحمل على الأكثر أولى .
الثاني : أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً ، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها ، بخلاف قلبها في أول الكلمة ، فإنه ثابت ، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في : وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو : تُجَاه وتُخْمَة ، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد .
الثالث : أن وزنها " تَفْعَلة " [ بفتح العين ] {[67]} - وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه ، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها .
وأَمَالَ " التوراة " - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو{[68]} والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [ عن نافع ] {[69]} ، واختلف عن قالون ، فروي عنه بين بين والفتح ، وقرأها الباقون بالفتح فقط ، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [ منقلبة عن ياء ظاهر ، وإن قلنا : إنها أعجمية لا اشتقاق لها ، فوجه الإمالة شبه ألفها لألف ] {[70]} التأنيث من حيث وقوعها رابعة ، فسبب إمالتها ، إما الانقلاب ، وإما شبه ألف التأنيث .
والإنجيل ؛ قيل : إفعيل كإجفيل{[71]} ، وفي وزنه أقوال :
أحدها : أنه مشتق من النَّجْل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها ، ومنه النجْل للولد ، وسمي الإنجيل ؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ .
وقيل : من النجل وهو الأصل ، ومنه النجل للوالد ، فهو من الأضداد ؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد ، قال الأعشى : [ المنسرح ]
أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ *** إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ{[72]}
وقيل : من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء ، لسعتها ، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك ؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة ؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة .
وقيل : هو مشتق من التناجل وهو : التنازع ، يقال : تناجل الناسُ أي : تنازعوا ، وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه ، قاله أبو عمرو الشيباني .
والعامة على كسر الهمزة من " إنجيل " ، وقرأ الحسن بفتحها{[73]} .
قال الزمخشري : وهذا يدل على أنه أعجمي ؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب . قلت : بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو : إجفيل وإخريط{[74]} وإصليت{[75]} .
قال ابن الخطيبِ : " وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل ، وإما الدور ، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً ، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا ، والفرع هو ذاك الآخر ، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ؟
وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة ، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء ، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها ، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة ، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل ، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً ، والذهب أصل الخاتم ، والغزل أصل الثوب ، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع ، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع ، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة ، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر ، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات ، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، أحدهما بالعبرية ، والآخر بالسريانية [ فقيل : التوراة بالعبرانية نور ، ومعناه الشريفة ، والإنجيل بالسريانية " إنكليون " ، ومعناه الإكليل ] {[76]} [ فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب ؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث " {[77]} ] .
قوله : " مِن قَبْلُ " متعلق ب " أنْزَلَ " والمضاف إليه الظرف محذوف ؛ لفَهْم المعنى ، تقديره : من قبلك ، أو من قبل الكتاب ، و " الْكِتَاب " غلب على القرآن ، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به ، [ أي ] {[78]} المكتوب .
وذكر المنزل عليه في قوله : { نَزَّلَ عَلَيْكَ } ، ولم يذكره في قوله : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } تشريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم .