وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه ، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه ، و التمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم ، وهو القائم بمصالح الخلق ، والمصالح قسمان : جسمانية ، وروحانية ، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل ، وهو المراد بقوله : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ } [ آل عمران : 6 ] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ ، وهو المراد بقوله : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } .
قوله : { مِنْهُ آيَاتٌ } يجوز أن تكون " آيَاتٌ " رَفْعاً بالابتداء ، والجار خبره ، وفي الجملة على هذا وجهانِ :
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من " الْكِتَابِ " أي : هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال ، أي : منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ .
ويجوز أن يكون " منه " هو الحال - وحده - وآيات : رفع [ به ] {[5037]} - على الفاعلية .
و{ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا ، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً .
وأخْبَرَ بلفظ الواحد " أمُّ " عن جمع " هُنَّ " إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ ، كقوله : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] ، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع ، كقوله : { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا *** . . . {[5038]}
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا *** فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ{[5039]}
وقال الأخفش{[5040]} : وَحَّد " أمُّ الْكِتَابِ " بالحكاية على تقدير الجواب ، كأنه قيل : ما أمُّ الكتاب ؟ فقال : هن أم الكتاب ، كما يقال : مَن نظيرُ زَيْدٍ ؟ فيقول قوم : نحن نظيره ، كأنهم حكوا ذلك اللفظ ، وهذا على قولهم{[5041]} : دعني من تمرتان ، أي : مما يُقَال له : تمرتان .
قال ابنُ الأنباري : " وهذا بعيد من الصواب في الآية ؛ لأن الإضمار{[5042]} لم يقم عليه دليل ، ولم تدع إليه حاجةٌ " .
وقيل : لأنه بمعنى أصْل الكتاب ، والأصْل يُوَحَّد .
قوله : " وأُخَر " نسق على " آيات " و " متشابهات " نعت ل " أخر " ، وفي الحقيقة " أخر " نعت لمحذوف تقديره : وآيات أخر متشابهات .
قال أبو البقاء : فإن قيل : واحدة [ متشابهات : متشابهة ، وواحدة أخر : أخرى ، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد - ، فلا يقال : أخرى متشابهة{[5043]} ] ، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً ، وليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى ، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه ؟
قيل : التشابهُ{[5044]} لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً ، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر ، فلما لم يصح التشابه{[5045]} إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها ، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى ، ونظيره قوله :
{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } [ القصص : 15 ] فثنَّى الضمير ، وإن كان الواحد لا يقتتل ، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات ، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته ، وقريب من ذلك قوله : { حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } [ الزمر : 75 ] ، وقيل : ليس لِ " حَافينَ " مفرد ؛ لأنه ولو قيل : حافّ لم يَصِحّ ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط ، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [ وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ]{[5046]} .
اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من جهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني ، وكونه كلاماً حقًّا ؛ لقوله تعالى :
{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] ، وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [ يونس : 1 ] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني ، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها ، والعرب تقول في البناء الوثيق ، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه : مُحْكَم ، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن ، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً ؛ لقوله تعالى : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] .
وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ ، وبعضه متشابه .
واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه ، فقال ابنُ عباس : المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام ، { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات{[5047]} ، ونظيرها في بني إسرائيل { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .
وعنه أنه قال : المتشابهات : حروف التهجي في أوائل السور{[5048]} .
وقال مجاهد وعكرمة : المحكم : ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك متشابه ، يشبه بعضه بعضاً في الحق ، ويصدق بعضه بعضاً ، كقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] ، وقوله :{ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }{[5049]} [ يونس : 100 ] .
وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ : المحكم : الناسخ الذي يُعْمَل به ، والمتشابه : المنسوخ الذي لا يُعْمَل به{[5050]} ويؤمن به ، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال :
محكمات القرآن : ناسخه ، وحلالُه ، وحرامُه ، وحدودُه ، وفرائضُه ، وما يؤمن به ولا يُعْمَل به {[5051]} .
وقيل المحكمات : ما أوقف الله الخلقَ على معناها ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه ، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجالِ ، ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة ، وفناء الدنيا . {[5052]}
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المُحْكَم ما لا يَحْتَمل من التأويل غير وجه{[5053]} ، والمتشابه ما احتمل أوجهاً . {[5054]}
وقيل : المحكم : ما يعرف معناه ، وتكون حُجَجُه واضحةً ، ولا تشتبه دلائله ، والمتشابه : هو الذي يُدرك علمه بالنظر ، ولا يَعْرِفُ العوامُّ تفصيلَ الحق فيه من الباطل ، وقيل المحكم : ما يستقل{[5055]} بنفسه في المعنى ، والمتشابه : ما لا يستقل بنفسه بل يُرَدّ إلى غيره .
" في تفسير المحكم في أصل اللغةِ " :
العرب تقول : أحكمتُ وحكمتُ بمعنى رددتُ ، ومنعت ، والحاكم يمنع الظالمَ عن الظلم ، وحَكَمَةُ اللجامِ هي التي تمنعُ الفرسَ عن الاضطرابِ ، وفي حديث النَّخَعِيِّ : أحْكم اليتيم كما تُحْكِمُ وَلدَك ، أي : امنعه من الفساد .
أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم *** . . . {[5056]}
وبناءٌ مُحْكَم : أي : وثيق ، يمنع مَنْ تعرَّض له ، وسُمِّيت الحكمةُ حكمةً ؛ لأنها تمنعُ عما لا ينبغي .
والمتشابه : هو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر ، بحيث يعجز الذهن عن التمييز [ بينهما ] {[5057]} ، قال تعالى : { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] ، وقال في وصف ثمارِ الجنةِ : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها } [ البقرة : 25 ] أي : مُتَّفِق المنظر ، وقال تعالى : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم } [ البقرة : 118 ] ، ويقال : أشبه عليَّ الأمر إذا لم يَظْهَر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وقال صلى الله عليه وسلم : " الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُتَشابِهَاتٌ{[5058]} " وفي رواية مشتبهات ، ثم لما كان من شأن المتشابهَيْن عَجْزُ الإنسانِ عن التمييز بينهما ، سمِّي كلُّ ما لا يَهْتَدِي إليه الإنسان بالمتشابه ؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبَّب ، ونظيره المشكل ، سُمِّي بذلك ؛ لأنه أشكل أي : دخل في شكل غيره ، فأشبهه وشَاكَله ، ثُمَّ يقال لكل ما غَمُضَ - وإن لم يكن غموضُه من هذه الجهةِ - مشكلاً ، ولهذا يُحْتَمَل أن يقال للذي لا يُعْرَف ثبوتُه أو عدمُه ، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً [ له ]{[5059]} ، ولم يتميز أحدُهما عن الآخر بمزيد رُجْحَان ، فلا جرم يُسَمَّى غير المعلوم بأنه متشابه .
قال ابن الخطيبِ : " فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغةِ ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكَم والمتشابه ، ونحن نذكر الوجهَ الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول : إذا وُضِعَ اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا ، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص ، وإن احتمل غيرَه فإما أن يكونَ احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر ، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهراً ، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً ، وإن كان احتماله لهما على السوية ، فيكون اللفظ{[5060]} بالنسبة إليهما معاً مشتركاً ، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً ، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ ، إما أن يكون نصاً ، أو ظاهراً ، أو مؤولاً ، أو مشتركاً ، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح ، إلا أن النص راجح مانع من الغير ، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى بالمحكَم ، أما المجمل والمؤول ، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [ وإن لم يكن راجحاً ، أو غير مرجوح ، والمؤوَّل - مع أنه غير راجح - فهو مرجوح ، لا بحسب الدليل المنفرد ]{[5061]} ، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى المتشابه ؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً ، وقد بينَّا أن ذلك يسمى متشابهاً ، إما لأن الذي لا يُعْلَمُ يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن ، وإما لأجل أن الذي [ يحصل ] فيه التشابه يصير غير معلوم ، فيطلق لفظ " المتشابه " على ما لا يُعْلَم ؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصَّل في المحكَم والمتشابه .
روى البخاري عن سعيد بن جبيرٍ قال : قال رجلٌ لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، قال : ما هي ؟ قال : قوله : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] وقال : [ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 50 ] ، وقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] مع قولهم : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقد كتموا في هذه الآية وفي " النازعات " قال : { أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] إلى قوله :
{ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات :30 ] فذكر خلق السماء قبل الأرض ، وقال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] إلى :
{ طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 100 ] { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 158 ]
{ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ النساء : 134 ] فكأنه كان ثم مضى .
فقال ابن عباس : معنى قوله : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُم } النفخة الأولى ثم يُنْفَخُ في الصور فيُصْعَق مَن في السماوات ومن في الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون .
أما قولهم : { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } أي : أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقول : ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم ، وتنطق جوارحُهم بأعمالهم ، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً ، وعنده { رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ الحجر : 2 ] ، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دَحا الأرض ، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الأشجار والجبال{[5062]} [ والآكام ] {[5063]} وما بينهما في يومين آخرين ، وذلك قوله : { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات :27 ] فخلق الأرض وما فيها في أربعة أيام وخلق السماء في يومين .
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } يعني نفسه ، أي : لم يزل ، ولا يزال كذلك ، وأن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراده ويحك ، فلا يختلف عليك القرآنُ ، فإن كُلاًّ من عند الله . {[5064]}
في الفوائد التي لأجلها جُعِل بَعْضُ القرآن محْكَماً ، وبعضهُ متشابهاً .
قال ابن الخطيبِ : " طعن بعضُ الملحدة في القرآن ؛ لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقالوا : إنكم تقولون : إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الأنعام : 25 ] ، والقدَريُّ يقول : بل هذا مذهب الكفار ؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف } [ البقرة : 88 ] ، وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة :22 ، 23 ] ، والنافي يتمسك بقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَار } [ الأنعام : 103 ] ، ومثبت الجهة يتمسك بقوله : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِم } [ النحل : 50 ] وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
[ طه : 5 ] والنافي يتمسك بقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة ، وإنما يُرْجَع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم{[5065]} أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً خالياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض ؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوهاً :
الأول : أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب .
الثاني : أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ، ويصل{[5066]} إلى ضياء الاستدلال ، ولو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية ، وكان يبقى - حينئذٍ - في الجهل والتقليد .
الثالث : أن القرآن لما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة ، والنحو ، وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد .
الرابع : أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص ، والعوامّ بالكلية ، وطباع العوام تنبو - في أكثر الأمر - عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام - في أول الأمر - إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك{[5067]} ولا يشار إليه ظَنَّ بأن هذا عَدَم ونَفْي ، فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه ، وتخيلوه ، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أولِ الأمرِ تكون من أبواب المتشابهات ، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم .
الخامس : [ لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما يُنَفِّر أربابَ المذاهب عن قبوله ، وعن النظر فيه ، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه ، فحينئذ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجدَ فيه ما يقوي له حكمه ويُؤثِرُ مقالته ، فحينئذ ينظر فيه جميعً أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب ، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ، ويصل إلى الحق{[5068]} ، والله أعلم ] .
قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } يجوز أن يرتفع " زيغ " بالفاعلية ؛ لأن{[5069]} الجار قبله صلة لموصول ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره الجار قبله .
قوله " الزيغ " قيل : المَيْل [ مطلقاً ]{[5070]} ، قال بعضهم : هو أخَصُّ من مطلق الميل ؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل .
قال الراغب{[5071]} : " الزيغُ : الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغَ وزالَ ومالَ متقاربٌ ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل " انتهى . يقال : زاغ يَزيغُ زَيْغاً ، وزَيْغُوغَةً وزَيغَاناً ، وزُيوغاً .
قال الفراء : والعرب{[5072]} تقول في عامة ذواتِ الياء - فيما يُشْبه زِغْت - مثل : سِرْتُ ، وصِرْتُ ، وطِرْتُ : سَيْرورة ، وصَيْرورة ، وطَيْرُورة ، وحِدت حَيْدودة ، ومِلت ميلولة . . لا أحصي ذلك ، فأما ذواتُ الواوِ مثل قُلْت ، ورُضْت ، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظٍ : الكَيْنُونة والدَّيْمومة - من دام والهَيْعُوعَة - من الهُوَاع ، والسَّيْدودَة - من سُدت - ، ثم ذكر كلاماً كثيراً غير متعلق بما نحن فيه . وقد تقدم الكلام على هذا المصدر ، وأنه قد سمع في هذا المصدرِ الأصل - وهو كَينُونة - في قول الشاعر : [ الرجز ]
يَا لَيْتَنَا قَدْ ضَمَّنَا سَفِينَهْ *** حَتَّى يَعُودَ الوَصل{[5073]} كَيَّنُونَهْ{[5074]}
قوله : " ما تشابه " مفعول الاتباع ، وهي موصولة ، أو موصوفة ، ولا تكون مصدريةً ؛ لعَوْد الضمير من " تشابه " عليها ، إلا على رأيٍ ضعيفٍ ، و " مِنه " حال من فاعل " تَشَابه " أي تشابه حال كونه بعضه .
قوله : " ابْتِغَاءَ " منصوب على المفعول له ، أي : لأجل الابتغاء ، وهو مصدر مضاف لمفعوله . والتأويل : مصدر أوَّل يُؤوِّلُ ، وفي اشتقاقه قولان :
أحدهما : أنه من آل يَئُولُ أوْلاً ، ومآلاً ، أي : عَادَ ، ورجع ، وآلُ الرجلِ من هذا - عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مُهِمَّاتِهِم ويقولون{[5075]} : أولتُ الشيء : أَي : صرفته لوجهٍ لائقٍ به فانصرف ، قال الشاعر : [ السريع ]
أؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ *** لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِرِ{[5076]}
وقال بعضهم : أوَّلت الشيء ، فتأول ، فجعل مطاوعه تفعل ، وعلى الأول مطاوعه فعل ، وأنشد الأعشى : [ الطويل ]
عَلَى أنَّهَا كَانَتْ تَأوَّلُ حُبَّهَا *** تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فأصْحَبَا{[5077]}
أي : يعني أن حبها كان صغيراً ، قليلاً ، فآل إلى العِظَم كما يَئُول السَّقْبُ إلى الكِبر ، ثم قد يُطْلَق على العاقبة ، والمردِّ ؛ لأنَّ الأمر يصير إليهما .
الثاني : أنه مشتق من الإيَالَةِ ، وهي السياسةُ ، تقول العرب : قَدْ ألْنَا وَإيلَ عَلَيْنَا{[5078]} ، أي : سُسْنَا وساسَنا غيرُنا ، وكأن المؤوِّلَ للكلام سايسهُ ، والقادر عليه ، وواضِعه موضعَه ، نُقِل ذلك عن النضر بن شميل .
وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر{[5079]} به على ما لا يُعْلَم إلاَّ بالتوقيف كأسباب النزول ، ومدلولات الألفاظ ، وليس للرأي فيه مَدْخَل ، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهلِ العلمِ ، وأدواتٌ يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصولٍ وقواعدَ .
روى ابنُ عباسٍ : " أن رَهْطاً من اليهود منهم حُيَيّ بنُ أخْطَبَ ، وكعبُ بنُ الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له حُيَيّ : بلغنا أنه نزلَ عليك الم ، فننشدك الله ، أنزل عليك ؟ قال : نَعَمْ ، قال : فإن كان ذلك حقاً فأنا أعلم مدّة مُلْك أمتك ، هي إحْدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرُها ؟ قال : نعم ، المص ، قال : هذه أكثر ، هي مائة{[5080]} وإحدى وثلاثون سنة ، فهل أنزل غيرها ؟ قال : نعم ، المر ، قال : هذه أكثر ، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ، وقد خَلَّطتَ علينا ، فلا ندري أبكثيره نأخذ ، أم بقليله ونحن ممن لا يُؤمن بهذا ؟ فأنزلَ الله { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } {[5081]} " .
وقال الربيع : هم وَفْدُ نجرانَ ، خاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في عيسى ، وقالوا : ألست تزعم أنه كلمةُ الله وروح منه ؟ قال : بلى ، قالوا : حَسْبُنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ثم أنزل : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] .
قال ابن جريج : هم المنافقون{[5082]} .
وقال الحسن : هم الخوارج ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري مَنْ هُمْ{[5083]} ، وقال المحققون : إن هذا يَعُم جميعَ المبطلين ، قالت عائشة : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله : أولي الألباب { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } فقال رسول الله : " فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأولَئِكَ الذين سمى الله فاحذرهم{[5084]} " . وعن أبي غالب قال : " كنت أمشي مع أبي أمامة ، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد{[5085]} دمشق ، فإذا رؤوسٌ منصوبة ، فقال : ما هذه الرؤوس ؟ قيل : هذه رؤوس يُجاء بهم من العراق ، فقال أبو أمامة : كلابُ النار ، كلابُ النار ، [ كلابُ النار ] {[5086]} أو قتلى تحت ظل السماء ، طوبى لمن قَتَلهم وقتلوه - يقولها ثلاثاً - ثم بكى ، فقلت : ما يُبْكيك يا أبا أمامة ؟ قال : رحمةً لهم ؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام ، فخرجوا منه ، ثم قرأ : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } الآية ، ثم قرأ : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَات } [ آل عمران : 105 ] ، فقلت : يا أبا أمامة ، هم هؤلاء ؟ قال : نعم ، قلت : أشيء تقوله برأيك ، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إني إذَنْ لَجرِيء ، إني إذاً لَجَريءٌ ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَ مرةٍ ولا مرتين ، ولا ثلاث ، ولا أربع ، ولا خمس ، ولا ست ، ولا سبع ، ووضع أصبعيه في أذنيه ، قال : وإلا فَصُمَّتَا ، قالها ثلاثاً - ثم قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول
تَفرَّقَتْ بَنو إسرائيلَ على إحْدَى وسبعينَ فرقةً ، واحدةٌ في الجَنَّةِ ، وَسَائِرَهُم في النَّارِ ، ولتزيدَنَّ عليهم هَذِهِ الأمةُ واحدةً ، واحدةٌ في الجنَّة وسائرُهم في النّار{[5087]} " .
لما بيَّنَ الله تعالى أن الزائغِين يتَّبعون المتشابهِ بيَّن أنّ لهم فيه غرضَيْنِ :
أما الفتنة فقال الربيع والسدي : الفتنة : طلب الشرك . {[5088]}
وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللَّبْس ، ليضلوا بها جُهَّالهم{[5089]} .
وقال الأصم : متى وقعوا في المتشابهات ، صَارَ بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضِي إلى التقاتل ، والهَرْج والمَرْج .
وقيل : المتمسك بالمتشابه يُقَرِّر البِدَع والأباطيل في قلبه ، فيصير مفتوناً بذلك الباطلِ ، عاكفاً عليه ، لا يقلع{[5090]} عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة : التوغُّل في محبة الشيء ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، أي : مُوغِل في طلبها .
وقيل : الفتنة في الدين هي الضلال عنه ، [ ومعلوم أنه لا فتنة ، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه ] {[5091]} .
وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة ، والفرق بينه وبين التفسير .
قد يسمى التفسيرُ تأويلاً قال تعالى : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] ، وقال : { ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] ، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى ، والمراد منه : أنهم يطلبون التأويل الذي ليس{[5092]} عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان ، كطلبهم أن الساعة متى تقوم ؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون{[5093]} ؟
وقيل : ابتغاء التأويل : طلب عاقبته ، وطَلَبُ أجَل هذه الأمة من حساب الجُمل{[5094]} ؛ لقوله تعالى : { ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] أي : عاقبةً .
وقول : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } اختلف الناسُ في هذا الموضع : فقال قوم : الواو في قوله : " وَالرَّاسِخُونَ " عاطفة على الجلالة ، فيكونون داخلين في عِلْم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان :
أحدهما : أنها حال : أي : يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك .
والثاني : أن تكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يقولون - وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [ الحشر : 7 ] ثم قال { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 8 ] إلى أن قال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] ثم قال : { وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] ولهذا عطف على ما سبق ثم قال : { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] أي : قائلين على حال . وروي عن ابن عباس : أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم ، وعن مجاهد : أنا ممن يعلم تأويله .
وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله : " والرَّاسِخُونَ " واو الاستئناف ، فيكون مبتدأ ، وتم الكلام عند قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } والجملة من قوله : " يَقُولُونَ " خبر المبتدأ ، وهذا قول أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وعائشةَ ، وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسنُ ، وأكثر التابعين ، واختاره الكسائي ، والفرّاء ، والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويلَ المتشابه إلا اللهُ ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويلٌ استأثر الله بعلمه لم يُطْلِع عليه أحداً من خلقه ، كما استأثر بعلم السَّاعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدَّجَّالِ ونزول عيسى - عليه السلام - ونحوها ، والخلق متعبدون بالمتشابه ، والإيمان به ، وفي المحكم في الإيمان به والعمل ، ومما يُصَدّق ذلك قراءةُ عبد الله{[5095]} : " إنْ تأويلُه إلا عندَ الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ . . " ، وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العلم آمنا به . قال عمر بن عبد العزيز - في هذه الآية - : انتهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به ، كل من عند ربنا .
وهذا القول أقيسُ في العربية وأشبه بظاهر الآية ، ويدل لهذا القول وجوه :
أحدها : أنه ذم طالب المتشابه بقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه } .
الثاني : أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } ، وقال [ في أول البقرة {[5096]} ] : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِم } [ البقرة : 26 ] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدحٌ ؛ لأن كل من عرف شَيئاً على سبيل التفصيلِ ، فلا بد وأن يُؤمن به .
الثالث : لو كان قوله : " وَالرَّاسِخًونَ " معطوفاً لصار قوله : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } ابتداء ، وهو بعيد عن الفصاحة ، وكان الأولى أن يُقَالَ : وهم يقولون ، أو يقال : ويقولون .
الأول : أن " يَقُولُونَ " خبر مبتدأ ، والتقديرُ : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا .
الثاني : أن يكون " يَقُولُونَ " حالاً من الراسخين .
فالجواب : أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى ، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره - وهو الراسخون - فوجب أن يكون قوله : " آمنا به " حالاً من الراسخينَ لا من " الله " وذلك ترك للظاهر .
رابعاً : قوله : { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله ، وبما لا يعرفون تفصيله ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل ، لم يبق لهذا الكلامِ فائدة .
وخامسها : نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : " تفسير لا يسمع أحداً جهلُه ، وتفسير تعرفه العربُ بألسنتها ، وتفسيرٌ تعرفه العلماء ، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا اللهُ تعالى " .
وسئل مالك بن أنس عن قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] فقال : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " .
والرسوخ : الثبوت والاستقرار ثبوتاً متمكّناً ، فهو أخص من مطلق الثَّبَاتِ .
لَقَد ْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ *** لِلَيْلَى أبَتْ آيَاتُهَا أن تُغَيَّرا{[5097]}
" آمَنَّا بِهِ " في محل نصب بالقول ، و " كُلٌّ " مبتدأ ، أي : كله ، والجار بعده خبره ، والجملة نصب بالقول أيضاً .
فإن قيل : ما الفائدة في لفظ " عِنْدِ " ولو قال : كل من ربنا لحصل المقصود ؟
فالجوابُ : أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد .
فإن قيل : لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من " كُلٌّ " ؟
فالجوابُ : لأن دلالته على المضاف قوية ، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ .
قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } مَدْحٌ للذين قالوا : آمنا ، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ : بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه ، وما علمناه ، وما لم نعلم - .
وقيل : الراسخونَ : علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام{[5098]} وأصحابه - لقوله تعالى : { لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُم } [ النساء : 162 ] يعني الدارسين علم التوراة ، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال : العالمُ العاملُ بما عَلِم ، المتَّبع له .
وقيل : الراسخ في العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه .
" وَمَا يذكَّرُ " يتَّعظ بما في القرآن { إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ذوو العقول .