اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

قد تقدَّم تفسير الخِدَاع واشتقاقه أوّل البقرة ، ومعنى المُفَاعَلة فيه .

قال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : يُخَادِعُون الرَّسُول ، أي : يظهرون لَهُ الإيمَان ويبطنون الكُفْرَ ؛ كقوله :

{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وسمّي المُنَافِق مُنَافِقاً ؛ أخذاً من : نَافِقَاء اليَرْبُوع ؛ وهي جُحْره ؛ فإنه يَجْعَلُ له بَابَيْن ، يَدْخُلُ من أحدهما ويَخْرُجُ من الآخَر ؛ كذلك المُنَافِق ، يَدْخُل مع المؤمنين بقوله : أنا مُؤمِنٌ ، [ ويدخل مع الكَافِر بقوله : أنا كَافِر ]{[10150]} ، وجُحْرُ اليَرْبُوعِ يُسَمَّى النَّافِقَاء ، والسَّاميَاء والدَّامياء ، [ فالسَّامِيَاء ]{[10151]} : هو الجحر الذي{[10152]} تلد فيه الأنْثَى ، [ والدامياء : هو الذي يَكُون ]{[10153]} فيه .

قوله : " وَهُوَ خَادِعُهُمْ " فيه ثلاثة أقْوَالٍ :

أحدها : ذكرَه أبُو البقاء{[10154]} : أنه نَصْبٌ على الحَالِ .

والثاني : أنَّها في مَحَلِّ رفعٍ عطْفاً على خَبَر " إنَّ " .

الثالث : أنَّها استِئْنَاف إخْبَار بِذَلك .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " وخادعٌ : اسم فاعِل من خَادعْتُه ، فَخَدَعْتهُ إذا غَلَبْتهُ ، وكنت أخْدَع مِنْه " . قوله : " وَهُوَ خَادِعُهُم " أي : مُجَازيهم بالعِقَاب على خِدَاعِهم .

قال ابن عبَّاس : إنهمَ يُعْطَوْن نوراً يَوْم القِيَامةِ كالمؤمنين ، فيَمْضِي المُؤمِنُون بنورهم على الصِّراطِ ، ويُطْفَأ نور المُنَافِقِين{[10155]} ، يدلُّ عليه قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 17 ] .

قوله : " وإذا قَامُوا " عطفٌ على خَبَر " إنَّ " أخبر عَنْهم بِهَذِه الصِّفَاتِ الذَّميمة ، و " كُسَالى " : نصبٌ على الحَالِ من ضَمِير " قَامُوا " الواقع جواباً ، والجُمهورُ على ضمِّ الكاف ، وهي لُغة أهل الحِجاز [ جمع كَسْلان : كسَكَارَى ]{[10156]} ، وقرأ الأعرج بفتحها ، وهي لُغَةُ تميم وأسَدٍ ، وقرأ ابن السَّمَيْفع{[10157]} : " كَسْلى " وصَفَهم بِمَا تُوصف به المُؤنَّثَة المفردةُ ، اعْتِبَاراً بمعنى الجماعة ؛ كقوله : " وتَرَى الناسَ سَكْرى " ، والكسلُ : الفُتُورُ والتواني ، وأكْسَل : إذا جَامَعَ وفَتَر ولم يُنْزل . والمعنى : أن المُنَافِقِين إذا قامُوا إلى الصَّلاةِ ، قاموا مُتَثَاقِلِين ، لا يُرِيدُون بها الله - تعالى- ، فإن رَآهم أحَدٌ ، صلَّوا ، وإلا انْصَرَفُوا فَلَمْ يُصَلُّوا .

قوله : " يُراؤون [ النَّاسَ ] " في هذه الجُمْلَةِ ثلاثةُ أوجه :

أحدُها : أنها حَالٌ من الضَّمير المُسْتَتر في " كُسَالى " .

الثاني : أنها بَدَلٌ من " كُسَالَى " ؛ ذكره أبو البقاء{[10158]} ، فيكونُ حالاً من فاعل " قَامُوا " وفيه نظر ، لأنَّ الثَّاني ليس الأوَل ولا بَعْضَه ولا مُشْتَمِلاً عليه .

الثالث : أنها مُستأنفةٌ أخْبر عَنْهم بذلك ، وأصلُ يُراؤون : يُرائِيُون ، فأعِلَّ كَنَظائره ، والجمهور على : " يُراؤون " من المُفاعلةِ .

قال الزَّمخْشَرِيُّ : فإنْ قلت : ما مَعْنَى المراءاة ، وهي مُفاعَلَة من الرُّؤيَة ؟ قلت : لها وجهان :

أحدهما : أنَّ المُرَائِيَ يُريهم عَمَلَه ، وهم يُرُونه الاسْتحْسَانَ .

والثاني : أن تكُونَ من المُفاعلة بمعنى : التَّفْعِيل ، يقال : نعَّمه وناعَمَهُ ، وفَنَّقه وفَانَقَه ، وعيش مُفَانِق ، وروى أبو زَيْد : " رأَّت المَرْأةُ المِرْآة [ الرَّجُل ] " إذا أمْسكَتْها له ليرى وَجهَه ؛ ويدل عليه قراءةُ ابن أبي{[10159]} إسحاق : " يُرَؤّونَهُم " بهمزةٍ مُشَدَّدةٍ مثل : يُدَعُّونهم ، أي : يُبَصِّرونهم ويُرَاؤونهم كذلك ، يعني : أن قراءةَ : " يُرَؤُّنهم " من غير ألفٍ ، بل بهمزةٍ مَضْمُومةٍ مشدَّدَةٍ توضِّح أنَّ المُفاعَلَة هنا بِمَعْنَى التفعيل .

قال ابن عَطِيَّة : " وهي - يعني هذه القراءة - أقْوَى من " يُرَاؤُونَ " في المعنى ؛ لأنَّ مَعْنَاها يَحْمِلُون النَّاسَ على أنْ يَرَوْهم ، ويتظاهَرُون لهم بالصَّلاة ويُبْطنُون النِّفَاقَ " وهذا منه ليس بجيِّد ؛ لأنَّ المُفَاعَلة إنْ كَانَت عَلَى بابها ، فهي أبْلَغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرَّة ، وإنْ كانت بِمَعْنَى التفعيل ، فهي وَافِيةٌ بالمَعْنَى الذي أرَادَه ، وكأنه لم يَعْرِف أنَّ المفاعلة قد تَجِيءُ بمعنى التَّفْعِيل . ومتعلَّقُ المُرَاءاةِ محذُوفٌ ؛ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءى به ، والأحْسَن أن تُقَدِّر : يُراؤون النَّاسَ بأعْمَالِهم .

قوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } " ولا يَذْكُرُون " ، يجوز أن يكون عَطْفاً على " يُرَاؤُون " ، وأن يكون حالاً من فاعِل " يُراؤُون " وهو ضعيفٌ ؛ لأن المُضارع المَنْفِيَّ ب " لا " كالمُثْبَتِ ، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً ، لا يَقْترِنُ بالوَاوِ ، فإنْ جَعَلها عَاطِفَةً ، جَازَ .

وقوله : " قليلاً " : نعتٌ لمصدرٍ محذُوفٍ ، أو لزمان مَحْذوفٍ ، أي : ذكْراً قليلاً أو زمناً قليلاً ، والقلةُ هُنَا على بابها ، وجَوَّز الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطِيَّة : أن تكون بِمَعْنَى العَدَم ، ويأباه كَوْنُه مُسْتَثْنى ، وقد تقدَّم الردُّ عليهمَا في ذَلِكَ .

فصل

قال ابنْ عبَّاسٍ ، والحسن : إنَّما قال ذَلِك ؛ لأنَّهمُ يَفْعَلُونها رِيَاءً وسُمْعَة{[10160]} ، ولو أرَادُوا بذلك القَلِيل وَجْهَ اللَّه ، لكان كَثِيراً ، وقال قتادة : إنَّما قلَّ ذكرُ المُنَافِقِين ؛ لأنَّ الله لم يَقْبله{[10161]} ، وكلّ ما قَبِلَ اللَّه ، فهو كَثِيرٌ .

وقيل{[10162]} : المعنى : لا يصلّون إلا قَليلاً ، [ والمُرادُ ب " الذكر " الصَّلاة ]{[10163]} ، وقيل : لا يَذْكُرُون اللَّه في جَمِيع الأوقات ، سواءً كان وَقْت الصَّلاة أوْ لَمْ يكُن إلاَّ قَلِيلاً نادراً .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ : [ وترى ]{[10164]} كثيراً من المُتَظَاهِرِين بالإسْلام ، لو صِحِبْتَهُ الأيَّام واللَّيَالي ، لَمْ تسمع منه تَهْلِيلَةً ، ولكن حَدِيث الدُّنْيَا يَسْتَغْرقُ به أوْقاته ، لا يَفْترُ عَنْه .


[10150]:سقط في ب.
[10151]:سقط في ب.
[10152]:في ب: التي.
[10153]:في ب: والدامياء: الذي يكون فيه الذكر، والنافقاء: هو الذي يكونان فيه.
[10154]:ينظر: الإملاء 1/199.
[10155]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/329) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/417).
[10156]:ينظر: المحرر الوجيز 2/127، والبحر المحيط 3/393، والدر المصون 2/446.
[10157]:ينظر: البحر المحيط 3/393، والدر المصون 2/446.
[10158]:ينظر: الإملاء 1/199.
[10159]:ينظر: البحر المحيط 3/393، والدر المصون 2/446.
[10160]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/331) عن قتادة وابن زيد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/417) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (3/393) عن الحسن.
[10161]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/332) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/417) وزاد نسبته لابن المنذر وعبد بن حميد.
[10162]:في أ: ونقل.
[10163]:سقط في ب.
[10164]:سقط في ب.