اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا} (145)

قوله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }*{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } ]{[10170]}

الدَّرْك : قرأ الكوفيُّون{[10171]} - بخلاف عن عاصمٍ - بسكون الراء ، والباقون بفتحها ، وفي ذلك قولان :

أحدهما : أنَّ الدَّرْك والدَّرَكِ لغتان بمعنى واحدٍ ، كالشَّمْعِ والشَّمَعِ ، والقَدْرِ والقَدَرِ .

والثاني : أن الدَّرَكَ بالفتح جمعُ " دَرَكَة " على حدِّ بَقَر وبَقَرة .

وقال أبو حاتم : جَمْع الدَّرْكِ : أدْرَاك ؛ مثل حَمْل وأحْمَال ، وفَرْس وأفراس وجمع الدرك : أدْرُك ؛ مثل أفْلُس وأكْلُب .

واختار أبو عُبيد الفتح ، قال : لأنه لم يَجِئْ في الآثار ذكرُ " الدَّرَك " إلا بالفتحِ ، وهذا غيرُ لازمٍ لمجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين ، واختار بعضهم الفتح ؛ لجمعه علَى أفعال قال الزمخشريُّ : " والوجهُ التحريكُ ؛ لقولهم : أدْرَاكُ جَهَنَّمَ " ، يعني أنَّ أفْعَالاً منقاسٌ في " فَعَلٍ " بالفتحِ ، دونَ فَعْل بالسكون ، على أنه قد جاء أفعالٌ في فعْلٍ بالسكون ؛ نحو : فَرْخٍ وأفراخ ، وزنْدٍ وأزنَادٍ ، وفَرْدٍ وأفْرَادٍ ، وقال أبو عبد الله الفاسيُّ في شرحِ القصيدِ : " وقال غيرُه - يعني غيرَ عاصم - ؛ محتجاً لقراءة الفتحِ ؛ قولهم في جمعه : " أدْرَاك " يدُلُّ على أنه " دَرَكٌ " بالفتح ، ولا يلزمُ ما قال أيضاً ؛ لأن فعلاً بالتحريك قد جُمِعَ على أفعالٍ ، كقَلَمٍ وأقْلاَمٍ ، وجَبَل وأجْبَالٍ " انتهى ، وهذه غفلةٌ منه ؛ لن المتنازع فيه إنما هو فعْلٌ بالتسكين : هل يُجمعُ على أفعالٍ ، أم لا ؟ وأما فعَل بالتحريك فأفعالٌ قياسه ، وكأنه قصد الردَّ على الزمخشريِّ ، فوقع في الغلطِ ، وكان ينبغي له أن يقول : وقد جُمِعَ فعلٌ بالسكون على أفعالٍ نحو : فَرْخٍ وأفْرَاخٍ ، كما ذكرته لك ، وحُكِيَ عن عاصم أنه قال : " لو كان " الدَّرَكُ " بالفتح ، لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل " قال بعض النحويِّين : يعني أنَّ الدَّرَك بالفتح جمع " دَرَكَة " ؛ كبَقَرٍ جمع بقَرَةٍ ، والجمعُ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة ، وهذا غيرُ لازم ؛ لأنَّ اسم الجنس الفارقُ بين واحده وجمعه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثه ، إلا ما استُثني وجوبُ تذكيره أو تأنيثه ، والدَّرَكُ ليس منه ، فيجوزُ فيه الوجهان ، هذا بعد تسليم كون " الدَّرْكِ " جمع " دَرَكَةٍ " بالسكون كما تقدم ، والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُداركة ، وهي المتابعةُ ، وسُمِّيَتْ طبقاتُ النارِ " دَرَكَاتٍ " ؛ لأنَّ بعضها مَدَارِكُ لبعض ، أي : متتابعة .

قوله : " من النَّارِ " في محلَّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنه " الدَّرْك " ، والعامل فيها الاستقرار .

والثاني : أنه الضميرُ المستتر في " الأسْفَل " ؛ لأنه صفةُ ، فيتحمل ضميراً .

قال الليث{[10172]} : الدَّرْكُ أقْصَى قعْر الشيء ؛ كالبَحْر ونحوه ، فعلى هذا المُرَاد بالدَّرْكِ الأسْفَل : أقْصَى قعر جَهَنَّم ، وأصْلُ هذا من الإدْرَاكِ بمعنى اللُّحُوق ، ومنه إدراكُ الطَّعَام وإدْراكُ الغُلاَمِ ، قال الضحاك{[10173]} : [ الدَّرج ]{[10174]} إذا كان بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ ، والدَّرك إذا كانَ بعضها أسْفَل مِنْ بَعْضٍ .

فصل في معنى الدرك

قال ابن مَسْعُود : الدَّرْكُ الأسْفَل من النَّارِ : توابِيت من حديدٍ مُقْفَلَة في النَّارِ ، وقال أبُو هُرَيْرَة : بَيْتٌ يُقْفَل عليهم ، تتوَقَّد فيه النَّارُ من فوقهم ومن تَحْتِهِم{[10175]} .

فصل

قال ابن الأنْبَارِيّ{[10176]} : قال - تعالى - في صِفَةِ المُنَافِقِين : إنَّهُم في الدَّرْكِ الأسْفَلِ من النَّارِ{[10177]} ، وقال في آلِ فِرْعَوْن : { أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] فأيُّهُمَا أشَدُّ عَذَاباً : المُنَافِقُون ، أم{[10178]} آل فِرْعوْن ؟ .

وأجَابَ : بأنَّهُ يحتمل أنَّ أشَدَّ العذاب إنَّما يكُون في الدَّرْكِ الأسْفَلِ ، وقد اجْتَمَع{[10179]} فيه الفَريقَانِ .

فصل لماذا كان المنافقون أشد عذاباً من الكفار ؟

إنَّما كان المُنَافِقُون أشَدّ عَذَاباً من الكُفَّارِ ؛ لأنَّهم مِثْلهم في الكُفْر ، وضَمُّوا إليه نَوْعاً آخَرَ من الكُفْرِ ، وهو الاسْتِهْزَاء بالإسْلامِ [ وأهْلِه أيضاً فإنّهم يُظْهِرُون الإسْلاَم ]{[10180]} ؛ ليتَمَكَّنُوا من الاطِّلاعِ على أسْرَار المُسْلِمِين ، ثُمَّ يُخْبِرُون الكُفَّار بذلك فتتضاعف المِحْنَة .

قوله : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } مانعاً من العذاب .

واحْتَجُّوا بهَذِهِ الآيَةِ على إثْبَات{[10181]} الشَّفَاعةِ للفُسَّاقِ من المُسْلِمِين ؛ لأنه - تعالى - خَصَّ المُنَافِقِين بهذا التَّهْدِيدِ ، ولو كَانَ ذلك حَاصِلاً لِغَيْر المُنَافِقِين ، لم يَكُنْ ذلك زَجْراً عن النِّفَاقِ من حَيْثُ إنَّه نِفَاقٌ ، ولَيْس هذا اسْتِدْلاَلاً بِدَلِيلِ الخِطَابِ ، بل وجْه الاستدلالِ فيه ؛ أنه - تعالى - ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الزَّجْرِ عن النِّفَاقِ ، فلو حَصَل ذلك مع عَدَمِهِ ، لم يَبْقَ زَجْراً عَنْه من حَيْث إنَّه نِفَاقٌ .


[10170]:سقط في ب.
[10171]:ينظر: السبعة 239، والحجة 3/188، وحجة القراءات 218، وإعراب القراءات 1/138، 139، والعنوان 86، وشرح شعلة 346، وشرح الطيبة 4/220، وإتحاف 1/522.
[10172]:ينظر: تفسير الرازي 11/69.
[10173]:ينظر: السابق.
[10174]:سقط في أ.
[10175]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/338) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/19) وزاد نسبته للفريابي وابن أبي شيبة وهناد في "الزهد" وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن المنذر.
[10176]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/419) عن أبي هريرة وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. وأخرجه الطبري (9/239) عنه بلفظ: توابيت ترتج عليهم وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/419) وزاد نسبته لابن المنذر.
[10177]:ينظر: تفسير الرازي 11/69.
[10178]:في ب: أو.
[10179]:في ب: جمع.
[10180]:سقط في ب.
[10181]:في ب: ثبوت.