قوله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }*{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } ]{[10170]}
الدَّرْك : قرأ الكوفيُّون{[10171]} - بخلاف عن عاصمٍ - بسكون الراء ، والباقون بفتحها ، وفي ذلك قولان :
أحدهما : أنَّ الدَّرْك والدَّرَكِ لغتان بمعنى واحدٍ ، كالشَّمْعِ والشَّمَعِ ، والقَدْرِ والقَدَرِ .
والثاني : أن الدَّرَكَ بالفتح جمعُ " دَرَكَة " على حدِّ بَقَر وبَقَرة .
وقال أبو حاتم : جَمْع الدَّرْكِ : أدْرَاك ؛ مثل حَمْل وأحْمَال ، وفَرْس وأفراس وجمع الدرك : أدْرُك ؛ مثل أفْلُس وأكْلُب .
واختار أبو عُبيد الفتح ، قال : لأنه لم يَجِئْ في الآثار ذكرُ " الدَّرَك " إلا بالفتحِ ، وهذا غيرُ لازمٍ لمجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين ، واختار بعضهم الفتح ؛ لجمعه علَى أفعال قال الزمخشريُّ : " والوجهُ التحريكُ ؛ لقولهم : أدْرَاكُ جَهَنَّمَ " ، يعني أنَّ أفْعَالاً منقاسٌ في " فَعَلٍ " بالفتحِ ، دونَ فَعْل بالسكون ، على أنه قد جاء أفعالٌ في فعْلٍ بالسكون ؛ نحو : فَرْخٍ وأفراخ ، وزنْدٍ وأزنَادٍ ، وفَرْدٍ وأفْرَادٍ ، وقال أبو عبد الله الفاسيُّ في شرحِ القصيدِ : " وقال غيرُه - يعني غيرَ عاصم - ؛ محتجاً لقراءة الفتحِ ؛ قولهم في جمعه : " أدْرَاك " يدُلُّ على أنه " دَرَكٌ " بالفتح ، ولا يلزمُ ما قال أيضاً ؛ لأن فعلاً بالتحريك قد جُمِعَ على أفعالٍ ، كقَلَمٍ وأقْلاَمٍ ، وجَبَل وأجْبَالٍ " انتهى ، وهذه غفلةٌ منه ؛ لن المتنازع فيه إنما هو فعْلٌ بالتسكين : هل يُجمعُ على أفعالٍ ، أم لا ؟ وأما فعَل بالتحريك فأفعالٌ قياسه ، وكأنه قصد الردَّ على الزمخشريِّ ، فوقع في الغلطِ ، وكان ينبغي له أن يقول : وقد جُمِعَ فعلٌ بالسكون على أفعالٍ نحو : فَرْخٍ وأفْرَاخٍ ، كما ذكرته لك ، وحُكِيَ عن عاصم أنه قال : " لو كان " الدَّرَكُ " بالفتح ، لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل " قال بعض النحويِّين : يعني أنَّ الدَّرَك بالفتح جمع " دَرَكَة " ؛ كبَقَرٍ جمع بقَرَةٍ ، والجمعُ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة ، وهذا غيرُ لازم ؛ لأنَّ اسم الجنس الفارقُ بين واحده وجمعه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثه ، إلا ما استُثني وجوبُ تذكيره أو تأنيثه ، والدَّرَكُ ليس منه ، فيجوزُ فيه الوجهان ، هذا بعد تسليم كون " الدَّرْكِ " جمع " دَرَكَةٍ " بالسكون كما تقدم ، والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُداركة ، وهي المتابعةُ ، وسُمِّيَتْ طبقاتُ النارِ " دَرَكَاتٍ " ؛ لأنَّ بعضها مَدَارِكُ لبعض ، أي : متتابعة .
قوله : " من النَّارِ " في محلَّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه " الدَّرْك " ، والعامل فيها الاستقرار .
والثاني : أنه الضميرُ المستتر في " الأسْفَل " ؛ لأنه صفةُ ، فيتحمل ضميراً .
قال الليث{[10172]} : الدَّرْكُ أقْصَى قعْر الشيء ؛ كالبَحْر ونحوه ، فعلى هذا المُرَاد بالدَّرْكِ الأسْفَل : أقْصَى قعر جَهَنَّم ، وأصْلُ هذا من الإدْرَاكِ بمعنى اللُّحُوق ، ومنه إدراكُ الطَّعَام وإدْراكُ الغُلاَمِ ، قال الضحاك{[10173]} : [ الدَّرج ]{[10174]} إذا كان بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ ، والدَّرك إذا كانَ بعضها أسْفَل مِنْ بَعْضٍ .
قال ابن مَسْعُود : الدَّرْكُ الأسْفَل من النَّارِ : توابِيت من حديدٍ مُقْفَلَة في النَّارِ ، وقال أبُو هُرَيْرَة : بَيْتٌ يُقْفَل عليهم ، تتوَقَّد فيه النَّارُ من فوقهم ومن تَحْتِهِم{[10175]} .
قال ابن الأنْبَارِيّ{[10176]} : قال - تعالى - في صِفَةِ المُنَافِقِين : إنَّهُم في الدَّرْكِ الأسْفَلِ من النَّارِ{[10177]} ، وقال في آلِ فِرْعَوْن : { أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] فأيُّهُمَا أشَدُّ عَذَاباً : المُنَافِقُون ، أم{[10178]} آل فِرْعوْن ؟ .
وأجَابَ : بأنَّهُ يحتمل أنَّ أشَدَّ العذاب إنَّما يكُون في الدَّرْكِ الأسْفَلِ ، وقد اجْتَمَع{[10179]} فيه الفَريقَانِ .
فصل لماذا كان المنافقون أشد عذاباً من الكفار ؟
إنَّما كان المُنَافِقُون أشَدّ عَذَاباً من الكُفَّارِ ؛ لأنَّهم مِثْلهم في الكُفْر ، وضَمُّوا إليه نَوْعاً آخَرَ من الكُفْرِ ، وهو الاسْتِهْزَاء بالإسْلامِ [ وأهْلِه أيضاً فإنّهم يُظْهِرُون الإسْلاَم ]{[10180]} ؛ ليتَمَكَّنُوا من الاطِّلاعِ على أسْرَار المُسْلِمِين ، ثُمَّ يُخْبِرُون الكُفَّار بذلك فتتضاعف المِحْنَة .
قوله : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } مانعاً من العذاب .
واحْتَجُّوا بهَذِهِ الآيَةِ على إثْبَات{[10181]} الشَّفَاعةِ للفُسَّاقِ من المُسْلِمِين ؛ لأنه - تعالى - خَصَّ المُنَافِقِين بهذا التَّهْدِيدِ ، ولو كَانَ ذلك حَاصِلاً لِغَيْر المُنَافِقِين ، لم يَكُنْ ذلك زَجْراً عن النِّفَاقِ من حَيْثُ إنَّه نِفَاقٌ ، ولَيْس هذا اسْتِدْلاَلاً بِدَلِيلِ الخِطَابِ ، بل وجْه الاستدلالِ فيه ؛ أنه - تعالى - ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الزَّجْرِ عن النِّفَاقِ ، فلو حَصَل ذلك مع عَدَمِهِ ، لم يَبْقَ زَجْراً عَنْه من حَيْث إنَّه نِفَاقٌ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.