قوله - جل وعلا - : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } إلى آخر السورة لما تكَلَّم [ في ]{[10440]} أوَّل السُّورَة [ في ]{[10441]} أحْكَام الأمْوَالِ ، خَتَمَها بذلِك الآخِرِ مشاكلاً للأوَّل ، ووسَطُ السُّورةِ مُشْتَمِلٌ على المُنَاظَرَة مع الفرقِ المُخَالِفِين في الدِّينِ .
قال المفسرون{[10442]} : نزلت في جابر بن عبد الله ، قال : عَادَني رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ وشرف وكرم وعظم ]{[10443]} ، وأنا مَرِيضٌ لا أعْقِل ، فَتَوَضَّأ وصبَّ من وُضوئه عليَّ ، فعَقَلْتُ ، فَقُلْت : يا رسُول الله ، لِمن المِيرَاثُ ، إنَّهُما يَرِثُنَي كلالة ، فنزلت { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ }{[10444]} . ومعنى : يَسْتفتُونَك : يَسْتَخْبِرُونَك ، قال البَرَاء بن عَازِب : هذه آخر آية نَزَلَتْ من القُرْآن{[10445]} .
قال القرطبي{[10446]} : كذا قال في مُسْلم ، وقيل أنزلَتْ في النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .
قوله سبحانه وتعالى : { فِي الْكَلاَلَةِ } : متعلق ب " يُفْتيكُم " ؛ على إعمال الثاني ، وهو اختيار البصريّين ، ولو أعْمَلَ الأولَ ، لأضمرَ في الثاني ، وله نظائرُ في القرآن :
{ هَاؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَابِيَهْ } [ الحاقة : 19 ] .
{ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ }
[ المنافقون : 5 ] { وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ البقرة : 39 ] ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه في البقرة ، وتقدَّم الكلام في اشتقاق الكلالة في أوَّل هذه السُّورة [ النساء : 12 ] ، وقوله : { إِن امْرُؤٌا } كقوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } [ النساء : 128 ] . و " هَلَكَ " جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفة ل " امْرُؤٌ " .
و { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } جملةٌ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ثانية ، وأجاز أبو البقاء{[10447]} أن تكون هذه الجملةُ حالاً من الضمير في " هَلَكَ " ، ولم يذكر غيره ، ومنع الزمخشريُّ أن تكون حالاً ، ولم يبيِّن العلةَ في ذلك ، ولا بيَّن صاحب الحال أيضاً ، هل هو " امْرُؤٌ " أو الضميرُ في " هَلَكَ " ؟ قال أبو حيان{[10448]} : " ومنع الزمخشريُّ{[10449]} أن يكون قوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } جملةً حالية من الضمير في " هَلَكَ " ، فقال : ومحلُّ { ليس لَهُ ولد } الرفع على الصفةِ ، لا النصبُ على الحال " . انتهى ، قال شهاب الدين{[10450]} : والزمخشريُّ لم يَقُلْ كذلك ، أي : لم يمنعْ كونها حالاً من الضمير في " هَلَكَ " ، بل منع حاليتها على العموم ، كما هو ظاهر قوله ، ويحتملُ أنه أراد منع حاليتها من " امْرُؤٌ " ؛ لأنه نكرةٌ ، لكنَّ النَكرة هنا قد تخصَّصَتْ بالوصف ، وبالجملةِ فالحالُ من النكرَةِ أقلُّ منه من المعرفة ، والذي ينبغي امتناعُ حاليتها مطلقاً ؛ كما هو ظاهر عبارته ؛ وذلك أنَّ هذه الجملة المفسِّرة للفعل المحذوف لا موضعَ لها من الإعراب ؛ فأشبهت الجمل المؤكِّدة ، وأنت إذا أتبعت أو أخبرت ، فإنما تريدُ ذلك الاسم المتقدِّم في الجملة المؤكِّدة السابقة ، لا ذلك الاسم المُكَرَّرَ في الجملة الثانية التي جاءت تأكيداً ؛ لأن الجملة الأولى هي المقصودة بالحديث ، فإذا قلت : " ضَرَبْتُ زَيْداً ، ضربْتُ زَيْداً الفَاضِل " ، ف " الفَاضِل " صفةُ " زَيْداً " الأوَّلِ ؛ لأنه في الجملة المؤكدة المقصودُ بالإخبار ، ولا يضُرُّ الفصلُ بين النعتِ والمنعوت بجملة التأكيد ، فهذا المعنى يَنْفِي كونها حالاً من الضمير في " هَلَكَ " ، وأما ما ينفي كونها حالاً من " امْرؤٌ " فلما ذكرته لك من قلَّةِ مجيء الحال من النكرةِ في الجملة ، وفي هذه الآية على ما اختارُوهُ من كون " لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ " صفة - دليلٌ على الفصْلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال ، ونظيرُه : " إنْ رَجُلٌ قام عَاقِلٌ فأكْرِمْهُ " ف " عَاقِلٌ " صفةٌ ل " رَجُلٌ " فُصِل بينهما ب " قَامَ " المفسِّر ل " قام " المفسَّر .
قال القُرطبيُّ{[10451]} : معنى قوله - تعالى - : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } أي : ليس لَهُ ولدٌ ولا وَالِدٌ ، فاكْتَفَى بِذْكِرِ أحدهما .
قال الجُرْجَانِيُّ{[10452]} : لفظ الولد يَنْطَلِقُ على الوالدِ والموْلُود ، فالوالدُ يُسَمَّى والداً ؛ لأنه وَلد ، والمَوْلُود يسَمَّى ولداً ؛ لأنه [ وُلد ]{[10453]} ؛ كالذُّرِّيَّة [ فإنَّهَا من ذَرَأ ]{[10454]} ثم تُطْلَقُ على الولد ، وعلى الوَالِدِ ؛ قال - تعالى - : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] وقوله - سبحانه - : { وَلَهُ أُخْتٌ } ؛ كقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } ، والفاء في " فَلَهَا " جوابُ " إنْ " .
فصل في تقييدات ثلاثة ذكرها الرازي في الآية
قال ابن الخطيب{[10455]} : ظَاهِرُ هذه الآية فِيهِ تَقْيِيداتٌ ثلاثة :
الأول : أن ظاهرهَا يَقْتَضِي أن الأخْتَ إنَّما تأخُذ النِّصْفَ عند عدم الولد فأما عند وجود الولد ، فإنها لا تأخذ النصف ، وليس الأمر كذلك بل شرط كون الأخت تأخذ النصف ألاَّ يكون للميت ولد ابن ، وهذا لا يرد على ظاهر الآية ؛ لأن المقصُودَ من الآيَةِ بيانُ أصْحَاب الفُرُوضِ ومُسْتَحقِّيها ، وفي هذه الصُّورَة إنما تأخذ النِّصْف بالتعصيب لا بكونه مَفْروضاً أصالة ، بل لِكَوْنه ما بَقِي{[10456]} بدليل أنه{[10457]} لو كان معها بنتان ، فإن لها الثلث الباقي بعد فرض البنتين .
الثاني : ظاهر الآية يَقْتَضِي أنَّه إذا لم يَكُن للميت ولد ولا والِدٌ ؛ لأن الأخْت لا ترثُ مع الوالِدِ بالإجْمَاعِ ، وهذا لا يرد - أيضاً - على ظاهرِ الآية في الكلالةِ ، وشَرطُها عدم الولدِ والوَالِد .
الثالث : أن قوله : " وله أخت " المراد منه الأخت من الأبَوَيْن ، ومن الأبِ ؛ لأن الأخْتَ من الأم ، والأخَ من الأمِّ قد بَيَّن الله حُكْمَه في أوَّل السُّورَة .
وقوله عز وجل : { وَهُوَ يَرِثُهَا } لا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب ؛ لاستئنافها ، وهي دالةٌ على جواب الشرط ، وليست جواباً ؛ خلافاً للكوفيِّين وأبي زيد ، وقال أبو البقاء{[10458]} : " وقد سدَّتْ هذه الجملةُ مَسَدَّ جواب الشرط " ، يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم ، وهذا كما يقول النحاة : إذا اجتمع شرطٌ وقسم ، أُجِيبَ سابقهما ، وجعل ذلك الجوابُ سادّاً مسدَّ جواب الآخر ، والضَّميران من قوله : " وهو يَرِثُهَا " عائدان على لفظ امرئ وأخت دون معناهما ، فهو من باب قوله : [ الطويل ]
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ *** وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ{[10459]}
وقولهم : " عنْدي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ " ، وقوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] ، وإنما احتيج إلى ذلك ؛ لأنَّ الحيةَ لا تُورثُ ، والهالكَ لا يرثُ ، فالمعنى : وامْرَأ آخَرَ غيرَ الهَالِكِ يَرِثُ أخْتاً له أخْرَى .
المعنى : إن الأخَ يَسْتغْرِق ميراث الأخْتِ ، إن لم يكُن للأخْتِ ولدٌ ، فإن كان لها ابْنٌ ، فلا شيء للأخ ، وإن كان ولدُهَا أنْثَى ، فللأخِ ما فضُل عن فَرْضِ البَنَاتِ ، وهذا في الأخ للأبَوَيْنِ أو [ الأخِ ]{[10460]} للأب ، فأما الأخ للأمِّ ؛ فإنه [ لا يَسْتَغْرِقُ الميراثَ ، ويَسْقُط بالوَلَدِ ]{[10461]} .
قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ } الألف في " كَانَتَا " فيها أقوال :
أحدها : أنها تعود على الأختين يدلُّ على ذلك قوله : " ولَهُ أختٌ " ، أي : فإن كانت الأختان اثنتين ، وقد جَرَتْ عادةُ النحويِّين أن يسألوا هنا سؤالاً ، وهو أنَّ الخبر لا بُدَّ أن يفيد ما لا يفيدُهُ المبتدأ ، وإلاَّ لم يكنْ كلاماً ، ولذلك منعُوا : " سيِّدُ الجَارِيَةِ مالِكُهَا " ؛ لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في " كَانَتَا " ، وقد أجابوا عن ذلك بأجْوبَةٍ منها : ما ذكره أبو الحسن الأخْفشُ وهو أنَّ قوله " اثْنَتَيْن " يدلُّ على مجرَّد الاثْنَيْنيَّة من غير تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف ، يعني أن الثُّلثين يستحقَّان بمجرَّد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر ؛ فصار الكلام بذلك مُفِيداً ، وهذا غيرُ واضحٍ ؛ لأنَّ الألفَ في " كَانَتَا " تدلُّ أيضاً على مجرَّد الاثْنينيَّة من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف ، فقد رجع الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غير ما أفادَهُ المبتدأ ، ومنها : ما ذكرَهُ مكي{[10462]} عن الأخْفَشِ أيضاً ، وتبعه الزمخشريُّ وغيره ؛ وهو الحَمْلُ على معنى " مَنْ " ، وتقريرُه ما ذكره الزمخشريُّ ؛ قال رحمه الله : " فإن قلت : إلى مَنْ يرجعُ ضميرُ التثنية والجمع في قوله : " فإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ، وإنْ كَانُوا إخْوة " ؟ قلتُ : أصلُه : فإن كان مَنْ يَرِثُ بالأخُوَّة اثْنتين ، وإن كان من يرثُ بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً ، وإنما قيل : " فإنْ كَانَتَا ، وإن كَانُوا " كما قيل : " مَنْ كَانَتْ أمَّكَ " ، فكما أنَّث ضمير " مَنْ " لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى وجمع ضميرَ مَنْ يرث في " كَانَتَا " و " كَانُوا " ؛ لمكانِ تثنية الخبر وجمعه " ، وهو جوابٌ حسن .
إلا أن أبا حيان{[10463]} اعترضَهُ ، فقال : " هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ ، وليس نظيرَ " مَنْ كانَتْ أمَّكَ " ؛ لأنه قد صَرَّح ب " مَنْ " ، ولها لفظٌ ومعنًى ، فمن أنَّث ، راعى المعنى ؛ لأن التقدير : أيةُ أمٍّ كانَتْ أمكَ " ومدلولُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلولِ الاسمِ ؛ بخلافِ الآية ؛ فإن المدلولَيْنِ واحد ، ولم يؤنِّث في " مَنْ كَانَتْ أمكَ " ؛ لتأنيث الخبر ، إنما أنَّث لمعنى " مَنْ " ؛ إذ أراد بها مؤنَّثاً ؛ ألا ترى أنك تقول : " مَنْ قَامَتْ " ، فتؤنث مراعاة للمعنَى ؛ إذ أردْتَ السؤال عن مؤنَّث ، ولا خبر هنا ؛ فيؤنَّثَ " قَامَتْ " لأجله " . انتهى . قال شهاب الدين{[10464]} : وهذا تحاملٌ منه على عادته ، والزمخشريُّ وغيره لم يُنْكِرُوا أنه لم يُصَرِّحُ في الآية بلفظ " مَنْ " ؛ حتَّى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامِضِ ، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف .
والظاهرُ أنَّ الضمير في " كَانَتَا " عائدٌ على الوَارِثَتَيْنِ ، و " اثْنَتَيْنِ " خبرُه ، و " لَهُ " صفةٌ محذوفة بها حصلتِ المغايرةُ بين الاسْم والخبر ، والتقديرُ : فإن كانت الوارثَتَانِ اثنتَيْنِ من الأخَوَاتِ ، وهذا جوابٌ حسنٌ ، وحذفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ مُنْكَرٍ ، وإن كان أقلَّ من عكْسه ، ويجوز أن يكون خبرُ " كَانَ " محذوفاً ، والألفُ تعودُ على الأختين المدْلُولِ عليهما بقوله : " وَلَهُ أُخْتٌ " ؛ كما تقدَّم ذكره عن الأخفش وغيره ؛ وحينئذٍ يكونُ قوله : " اثْنَتَيْن " حالاً مؤكِّدة ، والتقديرُ : وإنْ كانت الأختانِ له ، فحذفَ " لَهُ " ، لدلالةِ قوله : " وَلَهُ أُخْتٌ " عليه . فهذه أربعةُ أقوال .
أرادَ اثْنَتَيْن فَصَاعِداً ، وهو أنَّ من مَاتَ له أخواتٌ فَلَهُنَّ الثُلُثَانِ .
قوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ } في هذا الضمير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عائد على معنى " مَنْ " المقدرة ، تقديرُه : " فإنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ إخْوَة " ؛ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشريِّ وغيره .
الثاني : أنه يعود على الإخْوَة ، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل ؛ فإنَّ الإخوة يشمل الذُّكُورَ والإنَاثَ ، وإن كان ظاهراً في الذكور خاصَّة ، فقد أفاد الخبر ما لم يُفِدْه الاسم ، وإن عاد على الوارث ، فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادةً واضحةً ، وهذا هو الوجهُ الثالثُ ، وقوله : " فَلِلذَّكَرِ " ، أي : منهم ، فحُذِفَ لدلالةِ المعنَى عليه .
هذه الآيةُ دَالَّةٌ على أنّ الأخْتَ المَذْكُورة لَيْسَت هي الأخْت للأمِّ .
رُوِي أن الصِّديق - رضي الله عنه - قال في خُطْبَتهِ : ألا إنّ الآية الَّتِي أنْزَلَهَا الله - تعالى - في سُورة النِّسَاء في الفَرَائِض ؛ فأولها : في الوَلَدِ والوَالِدِ ، وثانيها : في الزَّوْج والزَّوْجَة والإخْوَة من الأمِّ ، والآية التي ختم بها السُّورة في الإخْوَة والأخَوَاتِ ، والآيَةُ التي خَتَم بها في سُورة الأنْفَالِ أنْزَلَها في أولي الأرْحَامِ{[10465]} .
قوله - تعالى - : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أن مفعول البيان محذوفٌ ، و " أن تَضِلُّوا " مفعولٌ من أجله ؛ على حذفِ مضاف ، تقديره : يُبَيِّنُ اللَّهُ أمْرَ الكلالةِ كراهة أنْ تَضِلُّوا فيها ، أي : في حُكْمِهَا ، وهذا تقديرُ المبرِّد .
والثاني - قول الكسائي والفراء{[10466]} وغيرهما من الكوفيين - : أنَّ " لا " محذوفةٌ بعد " أنْ " ، والتقدير : لئلاَّ تَضِلُّوا ، قالوا : وحذفُ " لا " شائعٌ ذائعٌ ؛ كقوله : [ الوافر ]
رَأيْنَا مَا رَأى البُصَراءُ فِيهَا *** فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا{[10467]}
أي : ألاَّ تُبَاعَ ، وقال أبو إسحاق الزَّجاج{[10468]} : " هو مثل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] أي : لئلا تَزُولا ، وقال أبو عبيد : " رَوَيْتُ للكسائيِّ حديث ابن عُمَر وهو : " لا يَدْعُونَّ أحدُكُمْ على وَلَدِهِ أن وَافَقَ مِنَ الله إجَابَة " {[10469]} فاستحسنه ، أي : لئلاَّ يوافق .
قال النَّحَّاس{[10470]} : المعنى عند أبي عُبَيْد : لئلا يُوافِق من اللَّه إجابة ، وهذا القَوْلُ عند البصريِّين خطأ ؛ لأنهم لا يُجِيزُون إضْمَار " لا " ، والمعنى عندهُم : يبيِّن الله لَكُم كرَاهَة أنْ تَضِلُّوا ، ثم حذف ؛ كما قال : { [ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ] }{[10471]} [ يوسف : 82 ] ، وكذا معنى الحديث ، أي كَراهَة أن يُوافِقَ من اللَّه إجَابَة .
ورجَّح الفارسيُّ قول المبرِّد ؛ بأنَّ حذفَ المضاف أشيعُ من حذف " لا " النافية .
الثالث : أنه مفعول " يُبَيِّنُ " ، والمعنى : يبيِّن الله لكُمُ الضلالة ، فتجتنبونَها ؛ لأنه إذا بيَّن الشر اجتُنِبَ ، وإذا بيَّن الخيرَ ارتُكِب .
اعلم أن في هذه السُّورَة [ الشَّرِيفَة ]{[1]} لَطِيفَة عَجِيبة ، وهي أن أوَّلَها مشتمل على بيان كمال قُدْرَة الله - تعالى - ؛ لقوله : { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] وهذا دَالٌّ على سِعَة القُدْرَة ، وآخِرَهَا مُشْتَمِلٌ على بيان كَمَالِ العِلْمِ ، وهو قوله تعالى : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا الوَصْفَان ؛ أعني : العِلْم والقُدْرَة بهما تثبت الرُّبُوبِيَّة والإلهِيَّة والجلال والعِزَّة ، وبهما يَجب على العَبْد أن يكُون مُطِيعاً للأوامر والنَّواهِي ، مُنقَاداً للتَّكَالِيف .
رُوِي عن البَرَاء [ بن عَازِب ]{[2]} قال : آخِرُ سُورَة [ نَزَلت ]{[3]} كَامِلَة { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ } [ التوبة : 1 ] وآخر آية نزلت ، آخر{[4]} سُورة النِّسَاءِ : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } .
وروي [ عن ]{[5]} ابن عباس ؛ [ أنَّ ]{[6]} آخِر آية نزلت آية الرِّبَا ، وآخر سُورة نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }{[7]} [ النصر : 1 ] .
ورُوي بعدمَا نَزَلَتْ سُورة " النصْر " عاشَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَهَا سِتَّة أشْهُر ، ثم نَزَلَتْ في طَرِيق حجَّة الوداع : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } فسمِّيت آية الصَّيْف ، لأنها نَزَلَتْ في الصَّيْف ، ثم نَزَلَتْ وهو وَاقِفٌ بعَرَفَات : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ] }{[8]} [ المائدة : 3 ] ، فعاش بَعْدَها إحْدَى وعِشْرِين يوماً .
عن أبيٍّ قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ النِّساء فَكَأنَّمَا تَصَدَّقَ على كلِّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثاً ، وأعْطِي مِنَ الأجْرِ كَمَنِ اشْتَرى مُحرّراً ، وبَرِئ مِنَ الشِّرْكِ ، وَكَانَ في مَشِيَئةِ اللَّهِ - تعالى - مِنَ الَّذِين يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ " . {[9]}