الأوّل : قال عَطَاء ومُجَاهِد والشَّعْبِي : نزلت في قِصَّة{[8608]} المُنَافِقِ واليَهُودِيّ اللَّذين اخْتَصَما إلى عُمر{[8609]} .
الثاني : روي عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر ؛ " أنه خَاصَم رجُلاً من الأنْصَار قد شهد بَدْراً مع رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شِرَاجٍ مِنَ الحرَّة ، وكانَا يَسْقِيَانِ به كلاهما ، فقال رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر : اسْقِ يا زُبَيْر ، ثم أرْسِلْ إلى جَارِكَ ، فغَضِب الأنْصَارِيُّ ، وقال : أن كان{[8610]} ابنُ عَمَّتِكَ ؟ فتلوّن وَجْهُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزُّبَيْر : اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجع إلى الجِدْرِ{[8611]} " واعلم [ أن الحكم ]{[8612]} أن مَنْ كَان أرْضُهُ أقْربَ إلى فَمِ الوَادِي ، فهو أوْلَى [ بأَوَّل ]{[8613]} المَاءِ ، وحَقُّهُ تَمَام السَّقْي ، فالرَّسُول عليه الصلاة والسلامِ أَذِن للزُّبَيْر في السَّقْي على وَجْهِ المُسَامَحَةِ [ ابْتدَاء ]{[8614]} ، فلما أسَاءَ خَصْمُهُ الأدَب ، ولم يعرف حَقَّ ما أمَرَهُ به الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - من المُسَامَحَةِ لأجْلهِ ، أمَرَهُ النَّبِي - عليه السلام - باسْتِيفَاءِ حَقِّه على التَّمَامِ ، وحَمْل خَصْمِهِ على مُرِّ الحَقِّ .
قال عروة بن الزُّبَيْر : [ أحسبُ هذه الآية نزلَتْ في ذلِك ، وروي أن الأنْصَارِي الذي خاصَمَ الزُّبَيْر ]{[8615]} كان اسْمُهُ حَاطِب بن [ أبِي ]{[8616]} بَلْتعة ، فلما{[8617]} خَرَجَا مَرَّ على المِقْدَاد . فقال : لمن كان القَضَاءُ فقال الأنْصَارِيّ : قَضَى لابْن عَمَّتِهِ ، ولَوَى شِدْقَيْه ، فَفَطِنَ له يَهُودِيٌّ كان مع المِقْدَادِ ، فقال : قَاتَل اللَّه هَؤلاء ، يَشْهَدُون أنَّهُ رسول اللَّهِ ثم يتهمُونَهُ في قَضَاء يَقْضِي بَيْنَهُم ، وأيْمُ اللَّه لقد أذْنَبْنَا ذَنْباً مَرَّة في حَيَاةِ مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - فدعانا مُوسَى إلى التَّوْبَةِ مِنْهُ ، فقال : فاقْتُلُوا أنفُسَكُم ففعلنا ، فبلغ قَتْلاَنا سَبْعِين ألْفاً في طَاعَةِ رَبِّنا ، حتىَّ رَضِيَ عَنَّا . فقال ثَابِت بن قَيْس بن شماس : أما واللَّه إنَّ الله لَيَعْلَمُ منّي الصِّدْق ، ولو أمَرَنِي مُحَمَّد أن أقْتُل نَفْسِي ، لَفَعَلْتُ ، فأنزل اللَّه في شَأنِ حَاطِب بن أبِي بَلْتَعَة هَذِه الآية{[8618]} .
قوله : { فلا وربك لا يؤمنون } فيه أربعة أقْوالٍ :
أحدها : وهو قَوْلَ ابن جَرِير{[8619]} : أن " لا " الأولَى ردّ لِكَلاَم تَقَدَّمَها ، تقديرُه : فلا تَعْقِلُون ، أو لَيْس الأمْر كما يَزْعُمُون من أنَّهمُ آمَنُوا بما أنْزِل إلَيْك ، وهُم يُخَالِفُون حُكْمَكَ ، ثم اسْتأنَفَ قَسَماً بعد ذَلِك ، فعلى هذا يَكُون الوَقْفُ على " لاَ " تَامّاً .
الثاني : أن " لا " الأولَى قُدِّمت على القَسَمِ اهْتِمَاماً بالنَّفْي ، ثم [ كُرِّرت ]{[8620]} توكيداً للنَّفْي ، وكان يَصِحُّ إسقاط الأولى ، ويَبْقَى مَعْنَى النَّفْي ، ولكن تَفُوت الدَّلالة على الاهْتِمَامِ المذكور ، [ وَكَان يَصِحُّ إسْقَاطُ الثَّانِية ويبقى مَعْنَى الاهْتِمَامِ ، ولكن ]{[8621]} تفُوت{[8622]} الدَّلالةَ على النَّفْي ، فَجَمَعَ بينهما لذلك .
الثالث : أن الثَّانِية زَائِدةٌ ، والقَسَم معْتَرِضٌ بين حَرْفَي النَّفْي والمَنْفِيّ ، وكان التقدير : فلا يُؤمِنُون وَرَبِّك .
الرابع : أن الأولى زائدةٌ ، والثَّانِيَة غير زائدة ، وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَرِي{[8623]} ؛ فإنه{[8624]} قال : " لا " مزيدةٌ لتأكِيد مَعْنَى القَسَمِ ؛ كما زِيدَتْ في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ }
[ الحديد : 29 ] لتأكِيد وُجُوب العِلْم ، و " لا يؤمنون " جواب القَسَم .
فإن قلت : هلاّ زَعَمْتَ أنَّها زَائِدة لتظاهر لا في لا يؤمنون ؟ .
قلت : يَأبَى ذلك اسْتِوَاء النَّفْيِ والإثْبَات فيه ؛ [ وذلك لقوله :
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 38-40 ] يعني : أنه قد جاءَت " لاَ " قبل القَسَمِ ؛ حَيْثُ لم تكُن " لا " موجودة في الجَوَابِ ]{[8625]} ، فالزَّمَخْشَرِي{[8626]} يرى : أن " لاَ " في قَوْله - تعالى - :
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 ] أنها زائدَة أيضاً لتأكيدِ مَعْنَى القَسَم{[8627]} ، وهو أحَدُ القَوْلَيْن .
والقول الآخر : كَقَوْلِ الطَّّبَرِي المتقَدِّم ؛ ومثل الآيَةِ في التَّخَارِيج المَذْكُورة قول الآخر : [ الوافر ]
فَلاَ وَاللَّه لا يُلْفى لما بِي *** ولا لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ{[8628]}
قوله : " حتى يحكموك " غاية مُتَعلِّقَةٌ بقوله : " لا يؤمنون " أي : ينْتَفِي عنهم الإيمَانُ إلى هَذِه الغَايَةِ ، وهي تَحْكِيمُك وَعَدم وُجْدَانِهِم الحَرَج ، وتسليمهم لأمْرِك ، والتَفَتَ في قوله : " وربك " من الغَيْبَةِ في قوله : واستغفر لهم [ الرسول ]{[8629]} رجُوعاً إلى قوله : { ثُمَّ جَاءُوكَ } [ النساء : 62 ] .
قوله : { شَجَرَ } قرأ أبو السَّمَّال{[8630]} : " شَجْرَ " بسكون الجيمِ هَرَباً من تَوَالِي الحَرَكَاتِ ، وهي ضَعيفَةٌ ؛ لأن الفَتْح أخو السُّكُون ، و " بينهم " ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ ب { شَجَرَ } ، هذا هو الصَّحيحُ .
وأجاز أبو البَقَاءِ{[8631]} فيه : أن يكُون حالاً ، وجعلَ في صَاحِب هذه الحَالِ احْتَمَالَيْنِ :
أحدهما : أن يكون حالاً من " مَا " الموْصُولَة .
والثاني : أنه حَالٌ من فَاعِل { شَجَرَ } وهو نَفْس الموصُول أيضاً في المَعْنَى ، فعلى هَذَا يتعلَّق{[8632]} بمَحْذُوفٍ .
يقال : شَجَر يَشْجُرُ شُجُوراً وشَجْراً : إذا اخْتَلَف واخْتَلَطَ ، وشَاجَرَهُ : إذا نَازَعَهُ ، وذلك لتداخل [ الكلام بعضه في بعض عند المُنازعةِ ، ومنه يقال لخشبات الهَوْدج : شِجَار ]{[8633]} ، لتَداخُل بعضها في بعض .
قال أبو مُسلم{[8634]} : وهو مأخُوذٌ عندي من التِفَافِ الشَّجَرِ ؛ فإن الشَّجَرَ يتداخلُ بَعضُ أغْصَانه في بَعْضٍ .
قوله { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } عطفُ على ما بَعْدَ " حتى " ، و " يجدوا " يحتمل أن تكُون المُتعدِّية لاثْنَين [ فيكون الأوَّل : " حَرَجاً " ، والثاني : الجار قَبْلَه ، فيتعلَّق بمحذُوفٍ ، وأن تكُون المتعدِّية لوَاحِدٍ ]{[8635]} فيجوز في { فِي أَنْفُسِهِمْ } وجْهَان :
أحدهما : أنه مُتعلِّق ب { يَجِدُواْ } تعلُّق الفَضَلاتِ .
والثاني : أن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من { حَرَجاً } ؛ لأن صِفَة النَّكِرَة لما قُدِّمَت عليها انْتَصَبت حَالاً .
قوله { مِّمَّا قَضَيْتَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلِّق بنفس { حَرَجاً } ؛ لأنَّك تقُول : خرجْتُ من كَذَا .
والثاني : أنه متعلِّق{[8636]} بمحْذُوفٍ فهو في مَحَلِّ نَصْبٍ ؛ لأنه صِفَةٌ ل { حَرَجاً } ، و " مَا " يجُوزُ أن تكون مصدريَّة [ وأن تكُون بمَعْنى الَّذِي ، أي : حَرَجاً من قَضَائِك ، أو مِن الَّذي قضََيْتَهُ ]{[8637]} ، وأن تكون [ نكرة ]{[8638]} موصُوفة ، فالعَائِدُ على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوفٌ .
أقْسَم اللَّه - تعالى - على أنَّهُم لا يَصِيرُون مُؤمنين إلا عِنْد شَرَائِط :
أولُها : { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ من لَمْ يَرْض بحُكْم الرَّسُول ، - [ عليه الصلاة والسلام ]{[8639]} - لا يَكُون مؤمناً .
وثانيها : قوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ [ فِي أَنْفُسِهِمْ ]{[8640]} حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } .
قال الزجاج{[8641]} : لا تضيقُ صُدورُهُم من أقْضِيَتِك ، وقال مُجاهِد : شكّاً{[8642]} ، وقال الضَّحَّاك : إثْماً ، أي : يأثمُون بإنْكَارِهِم{[8643]} .
وثالثها : قوله : { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أي : ينقادوا للأمْرِ كحَالَ الانْقِيَادِ ، واعلم أن قوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } المراد منه : الانْقِيَاد في البَاطِنِ ، وقوله { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } المُرَاد منه : الانْقِيَادُ في الظَّاهِرِ ، والحَرَجُ على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى الشَّكّ ؛ كهذه الآية ، [ و ]{[8644]} مثله : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ }
والثاني : بمعنى الضِّيق ؛ قال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] أي ضيقٍ .
الثالث : بمعنى الإثْمِ ؛ قال : - تعالى - : { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] أي : إثْمٌ .
دلَّت هذه الآيةُ على عِصْمَة الأنْبِيَاء - عليهم السلام - عن الخَطَإ في الفَتَاوى والأحْكَام ؛ لأنه - تعالى - أوْجَبَ الانْقِيَاد لحُكْمِهِم ، وبالغ في ذَلِك الإيَجابِ ، وبيَّن أنه لا بُدَّ من حُصُولِ الانْقِيَاد في الظَّاهِرِ والقَلْبِ ، وذلك يَنْفِي صُدُورَ الخَطَإ عَنْهُم ، فَدَلَّ ذلك على أنَّ قَولَه : { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وفتواه في أسْرَى{[8645]} بَدْرٍ ، وقوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }
[ التحريم : 1 ] ، وقوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّى } [ عبس : 1 ] كل ذلِكَ مَحْمُول على التَّأوِيل .
قالت المعتزلة{[8646]} : لو كانت الطَّاعَاتُ والمَعَاصِي بَقَضَاء الله - تعالى - لَزِم التَّنَاقُضُ ؛ لأن الرَّسُول إذا حَكَم على إنْسَانٍ بأنه لا يَفْعلُ كَذَا ، وجب على جَمِيع المكَلَّفين الرِّضَا بذلك ؛ لأنه قضاءُ الرَّسُول ، والرِّضى بقَضَاءِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ [ لهذه الآية ، ثم إن ذلك المكلَّف فعل ذَلِكَ بقَضَاءِ اللَّهِ ، والرِّضَا بقضَاء اللَّه وَاجِبٌ ]{[8647]} فيَلْزَمُ أن يَجِب على جَمِيع المكلَّفِين الرِّضَا بِذلِكَ الفِعْل ، لأنه قضاء اللَّه ، فوجب أن يَلْزَمَهُم الرِّضَا بالفِعْلِ والتَّرْكِ مَعاً ، وذلك مُحَالٌ .
والجوابُ : أن المُرَاد من قَضَاءِ الرَّسُول : الفَتْوى بالإيجَابِ والمُرَاد من قَضَاء الله : التكوِين والإيجَادِ ، وهما مفهومان مُتغايَران ، فالجَمْعُ بينهما لا يفضي إلى التَّنَاقُض .