في اتَّصال هذه الآيةِ بما قَبْلَهَا وَجْهَان :
الأوَّل أنه اْعْتِرَاضٌ ، وما قَبْلَ الآية مُتَّصلٌ بما بَعْدَهَا ، والتَّقْدير : وإذا قيل لَهمُ : تعالَوْا إلى ما أنْزل اللَّهُ وإلى الرَّسُول رَأيْتَ المُنَافِقين يَصُدون عَنْك صُدُوداً ، ثُمَّ جاءُوك يَحْلِفُون باللَّهِ إن أردْنَا إلاَّ إحساناً وتوْفِيقاً ، يعني : أنَّهُم في أوَّلِ الأمْر يصُدُّون عنك ، ثم بَعْدَ ذلك يَجيئُونَك ، ويَحْلِفُون باللَّهِ كَذِباً أنَّهُم ما أرَادُوا بِذَلِكَ إلا الإحْسَانَ والتَّوْفِيق ، وشرط الاعتراضِ أن يَكُونَ لَهُ تَعَلُّق بذلك الكلامِ من بَعْضِ الوُجُوه ؛ كقوله : [ السريع ]
إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا *** قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ{[8555]}
فقوله : " وبُلِّغْتَهَا " [ كلامٌ ]{[8556]} أجْنَبِيٌّ اعْتُرِض به ، لكنه دُعَاء للمُخَاطَبِ{[8557]} ، وتَلَطُّفٌ في القَوْلِ مَعَهُ ، وكذلك الآية ؛ لأن أوّل الآيةِ وآخِرَهَا في شَرْحِ قبائِح المُنافقِين وكَيْدهم ومَكْرهم ، فإنه - تعالى - حكى عنهم أنَّهُم يَتَحَاكمُون إلى الطَّاغُوتِ ، مع أنَّهم أمِرُوا بالكُفْرِ به ، ويَصُدُّون عن الرَّسُول ، مع أنَّهم أمِرُوا بطاعته ، فذكر هُنَا ما يَدُلُّ على شِدَّة الأهْوَالِ عَلَيْهِم ؛ بِسَبب هذه الأعْمَال القَبِيحَة في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، فقال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فَكَيْفَ حالُ تِلْك الشِّدَّةِ وحَالُ تِلْك المُصِيبَةِ ، قاله الحسن البَصْرِيّ ، وهو اخْتِيَار الوَاحِدِيّ{[8558]} .
الثاني : أنه - تعالى - لما حَكَى عنهُم تحاكُمَهُم إلى الطَّاغُوت ، وفِرارِهم من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - دلَّ ذلك على شِدَّة نَفْرتهم من الحُضُورِ عند رسُول اللَّهِ والقُرْبِ مِنْهُ ، فلمَّا ذكر ذَلِكَ ، قال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يَعْني : إذا كانَت نَفْرتُهُم من الحُضُورِ عند الرسول في أوْقَاتِ السَّلامةِ هكذا ، فكَيْفَ يكُون حَالُهُم في النُّفْرَة في شِدَّة الغمِّ والحُزْن ، إذا أتَوُا بجنَايَةٍ خافُوا بسَبَبِها مِنْك ، ثم جَاءُوك شَاءُوا أم{[8559]} أبَوْا ، ويَحْلِفُونَ باللَّه كَذِباً ما أردْنا بتلك الجِنَايَة إلاَّ الخَيْر والمَصْلَحَة ، والغَرَضُ من هَذا الكلامِ : بَيَانُ أنَّ نَفرتَهُم عن الرَّسُول لا غاية لَهَا سواءٌ غابُوا أم حَضَرُوا ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ هذا المَعْنَى بقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } ومعناه : أنَّ من أرادَ المُبَالَغَة في شَيْءٍ ، قال : هذا شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّه يعني : لكَثْرَتهِ وقُوَّتِه لا يقْدرِ أحَدٌ على مَعْرَفَتهِ إلا اللَّه - [ تعالى ]{[8560]} - .
قوله : { فَكَيْفَ } يجوز فيها وَجْهَان :
أحدهما : أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ ، وهو قول الزَّجَّاج ؛ قال : تقديره : فكَيْفَ تَرَاهُم ؟
والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع خبرٍ لمُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : فكيْف صنيعُهُم{[8561]} في وَقتِ إصَابَة المُصِيبَةِ إيَّاهُم ؛ وإذا مَعْمُولَةٌ لذلك المُقَدَّر بَعْد كَيْف ، والبَاءُ في " بِهَا " للسَّببيَّة ، و " مَا " يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّة أو اسْمِيَّة ، والعَائدُ مَحْذُوف .
فصل في المقصُود بالمُصِيبَة في الآية
قال الزَّجَّاج{[8562]} : [ المراد ]{[8563]} بالمُصِيبَة : قَتْل صَاحِبهم الَّذِي أقَرَّ أنَّه لا يَرْضَى بِحُكْم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ، جَاءُوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وطالَبُوا عُمَر بِهِ ، وحَلَفُوا أنَّهُم ما أرَادُوا بالذَّهَاب إلى غير الرَّسُول إلا الخَيْرَ والمَصْلَحة .
وقال الجُبَّائِيُّ{[8564]} : المُراد ب " المصيبة " هُنَا : ما أمر اللَّهُ - تعالى - نَبِيَّهُ من أنَّه لا يَسْتَصحبهُم في الغَزَوات ، وأنَّه يَخُصُّهم بمزيد الإذْلاَل والطَّرْدِ عن حَضْرتِهِ ، وهو قوله -تعالى - : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 60 ] ، إلى قوله : { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] ، وقوله :
{ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } [ التوبة : 83 ] ، وهذا يُوجِب لَهُم الذُّلَّ العَظيم ، وإنما أصَابَهُم ذلك لأجْلِ نفاقهم .
وقوله : " ثم جاءوك " أي : وقْتَ المُصِيبَةِ يحلفون ويعْتَذِرُون ، وأنَّا ما أرَدْنَا بما كان مِنَّا إلا الإصْلاحَ ، وكانوا كَاذِبين ؛ لأنَّهُم أضْمَرُوا خِلاف ما أظْهَرُوهُ .
وقال أبو مُسْلِم{[8565]} : إنه - تعالى - لمَّا أخْبَر عن المُنَافِقِين ، ورغبتهم في حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، وكَراهتهم في حُكْمِ الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام{[8566]} - أنه سَيُصيبُهم مَصَائِب{[8567]} تُلْجِئُهم إلَيْه وإلى أَن يُظْهِرُوا الإيمَانَ لَهُ ، ويَحْلِفُون أنَّ مُرَادَهُم الإحْسَان والتَّوفِيق ، قال : ومن عَادَةِ العَرَبِ عند التَّبشير والإنْذَارِ أن يقُولُوا : كيف أنت إذا كان كَذَا وكَذا ؛ ومثله قولُه - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران : 25 ] ، ثم أمرهُ - تعالى - إذا كان مِنْهمُ ذلِك ، أن يُعْرِضَ عَنْهُم ويَعظُهم .
وقال غيره : المراد ب " المصيبة " : كُلُّ مُصِيبةٍ تُصيبُ المُنَافِقِين في الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
قال القُرْطُبِيّ{[8568]} : وقيل : إن قوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } نزل في شَأنِ الذين بَنَوْا مَسْجِد الضِّرار ، فلما أظهر اللَّهُ - تعالى - نِفَاقَهُم ، وأمرهم بهَدْمِ المَسْجِد - حَلَفُوا للرَّسُول صلى الله عليه وسلم دِفَاعاً عن أنْفُسهم : ما أردنا بِبِنَاء{[8569]} المَسْجِد إلاَّ طاعة اللَّه ومُوافَقَةِ الكِتَابِ .
قوله : " يحلفون " حالٌ من فَاعِل جَاءُوك ، و " إن " نافية ، أي : ما أردْنَا و " إحساناً " مَفْعُول به ، أو اسْتِثْنَاء على حَسَبِ القوْلَيْن في المسْألة .
والمراد ب " الإحسان " قيل : ما أرَدْنَا بالتَّحاكُم إلى غَيْرِ الرَّسُول إلاَّ الإحْسَان إلى خُصُومِنَا ، واستِدَامة الاتِّفَاق والائتِلاف بَيْنَنَا .
وقيل : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى عُمَر ، إلا أنَّهُ يُحْسِنُ إلى صَاحِبنَا بالحُكْمِ والعَدْلِ ، والتَّوْفيقِ بينَهُ وبين خَصْمِهِ ، وما خَطَر بِبَالِنَا أنَّه يَحْكُمُ لهُ بِمَا حَكَمَ . وقيلَ : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى غَيْرك ، إلا أنَّك لا تَحْكُمُ إلاَّ بالحقِ ، وغَيْرُك يُوَفَّقُ بين الخَصْمَيْن ، ويأمُرُ كُلَّ واحدٍ بما ذَكَرْنَا{[8570]} ويقرب مراده من مُرَادِ صَاحِبهِ حتى تَحْصُل المُوافَقَة بَيْنَهُمَا .
وقال الكَلْبي{[8571]} : " إلا إحساناً " في القَوْل " وتوفيقاً " صواباً .
وقال ابن كَيْسان{[8572]} : حقَّا وعَدْلاً ؛ نظيرُه : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى }
[ التوبة : 107 ] ، وقيل : هو تَقْرِيبُ الأمْر من الحقِّ ، لا القَضَاءُ على أمْرِ الحُكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.