اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا} (62)

في اتَّصال هذه الآيةِ بما قَبْلَهَا وَجْهَان :

الأوَّل أنه اْعْتِرَاضٌ ، وما قَبْلَ الآية مُتَّصلٌ بما بَعْدَهَا ، والتَّقْدير : وإذا قيل لَهمُ : تعالَوْا إلى ما أنْزل اللَّهُ وإلى الرَّسُول رَأيْتَ المُنَافِقين يَصُدون عَنْك صُدُوداً ، ثُمَّ جاءُوك يَحْلِفُون باللَّهِ إن أردْنَا إلاَّ إحساناً وتوْفِيقاً ، يعني : أنَّهُم في أوَّلِ الأمْر يصُدُّون عنك ، ثم بَعْدَ ذلك يَجيئُونَك ، ويَحْلِفُون باللَّهِ كَذِباً أنَّهُم ما أرَادُوا بِذَلِكَ إلا الإحْسَانَ والتَّوْفِيق ، وشرط الاعتراضِ أن يَكُونَ لَهُ تَعَلُّق بذلك الكلامِ من بَعْضِ الوُجُوه ؛ كقوله : [ السريع ]

إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا *** قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ{[8555]}

فقوله : " وبُلِّغْتَهَا " [ كلامٌ ]{[8556]} أجْنَبِيٌّ اعْتُرِض به ، لكنه دُعَاء للمُخَاطَبِ{[8557]} ، وتَلَطُّفٌ في القَوْلِ مَعَهُ ، وكذلك الآية ؛ لأن أوّل الآيةِ وآخِرَهَا في شَرْحِ قبائِح المُنافقِين وكَيْدهم ومَكْرهم ، فإنه - تعالى - حكى عنهم أنَّهُم يَتَحَاكمُون إلى الطَّاغُوتِ ، مع أنَّهم أمِرُوا بالكُفْرِ به ، ويَصُدُّون عن الرَّسُول ، مع أنَّهم أمِرُوا بطاعته ، فذكر هُنَا ما يَدُلُّ على شِدَّة الأهْوَالِ عَلَيْهِم ؛ بِسَبب هذه الأعْمَال القَبِيحَة في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، فقال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فَكَيْفَ حالُ تِلْك الشِّدَّةِ وحَالُ تِلْك المُصِيبَةِ ، قاله الحسن البَصْرِيّ ، وهو اخْتِيَار الوَاحِدِيّ{[8558]} .

الثاني : أنه - تعالى - لما حَكَى عنهُم تحاكُمَهُم إلى الطَّاغُوت ، وفِرارِهم من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - دلَّ ذلك على شِدَّة نَفْرتهم من الحُضُورِ عند رسُول اللَّهِ والقُرْبِ مِنْهُ ، فلمَّا ذكر ذَلِكَ ، قال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يَعْني : إذا كانَت نَفْرتُهُم من الحُضُورِ عند الرسول في أوْقَاتِ السَّلامةِ هكذا ، فكَيْفَ يكُون حَالُهُم في النُّفْرَة في شِدَّة الغمِّ والحُزْن ، إذا أتَوُا بجنَايَةٍ خافُوا بسَبَبِها مِنْك ، ثم جَاءُوك شَاءُوا أم{[8559]} أبَوْا ، ويَحْلِفُونَ باللَّه كَذِباً ما أردْنا بتلك الجِنَايَة إلاَّ الخَيْر والمَصْلَحَة ، والغَرَضُ من هَذا الكلامِ : بَيَانُ أنَّ نَفرتَهُم عن الرَّسُول لا غاية لَهَا سواءٌ غابُوا أم حَضَرُوا ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ هذا المَعْنَى بقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } ومعناه : أنَّ من أرادَ المُبَالَغَة في شَيْءٍ ، قال : هذا شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّه يعني : لكَثْرَتهِ وقُوَّتِه لا يقْدرِ أحَدٌ على مَعْرَفَتهِ إلا اللَّه - [ تعالى ]{[8560]} - .

قوله : { فَكَيْفَ } يجوز فيها وَجْهَان :

أحدهما : أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ ، وهو قول الزَّجَّاج ؛ قال : تقديره : فكَيْفَ تَرَاهُم ؟

والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع خبرٍ لمُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : فكيْف صنيعُهُم{[8561]} في وَقتِ إصَابَة المُصِيبَةِ إيَّاهُم ؛ وإذا مَعْمُولَةٌ لذلك المُقَدَّر بَعْد كَيْف ، والبَاءُ في " بِهَا " للسَّببيَّة ، و " مَا " يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّة أو اسْمِيَّة ، والعَائدُ مَحْذُوف .

فصل في المقصُود بالمُصِيبَة في الآية

قال الزَّجَّاج{[8562]} : [ المراد ]{[8563]} بالمُصِيبَة : قَتْل صَاحِبهم الَّذِي أقَرَّ أنَّه لا يَرْضَى بِحُكْم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ، جَاءُوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وطالَبُوا عُمَر بِهِ ، وحَلَفُوا أنَّهُم ما أرَادُوا بالذَّهَاب إلى غير الرَّسُول إلا الخَيْرَ والمَصْلَحة .

وقال الجُبَّائِيُّ{[8564]} : المُراد ب " المصيبة " هُنَا : ما أمر اللَّهُ - تعالى - نَبِيَّهُ من أنَّه لا يَسْتَصحبهُم في الغَزَوات ، وأنَّه يَخُصُّهم بمزيد الإذْلاَل والطَّرْدِ عن حَضْرتِهِ ، وهو قوله -تعالى - : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 60 ] ، إلى قوله : { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] ، وقوله :

{ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } [ التوبة : 83 ] ، وهذا يُوجِب لَهُم الذُّلَّ العَظيم ، وإنما أصَابَهُم ذلك لأجْلِ نفاقهم .

وقوله : " ثم جاءوك " أي : وقْتَ المُصِيبَةِ يحلفون ويعْتَذِرُون ، وأنَّا ما أرَدْنَا بما كان مِنَّا إلا الإصْلاحَ ، وكانوا كَاذِبين ؛ لأنَّهُم أضْمَرُوا خِلاف ما أظْهَرُوهُ .

وقال أبو مُسْلِم{[8565]} : إنه - تعالى - لمَّا أخْبَر عن المُنَافِقِين ، ورغبتهم في حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، وكَراهتهم في حُكْمِ الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام{[8566]} - أنه سَيُصيبُهم مَصَائِب{[8567]} تُلْجِئُهم إلَيْه وإلى أَن يُظْهِرُوا الإيمَانَ لَهُ ، ويَحْلِفُون أنَّ مُرَادَهُم الإحْسَان والتَّوفِيق ، قال : ومن عَادَةِ العَرَبِ عند التَّبشير والإنْذَارِ أن يقُولُوا : كيف أنت إذا كان كَذَا وكَذا ؛ ومثله قولُه - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران : 25 ] ، ثم أمرهُ - تعالى - إذا كان مِنْهمُ ذلِك ، أن يُعْرِضَ عَنْهُم ويَعظُهم .

وقال غيره : المراد ب " المصيبة " : كُلُّ مُصِيبةٍ تُصيبُ المُنَافِقِين في الدُّنْيَا والآخِرَةِ .

قال القُرْطُبِيّ{[8568]} : وقيل : إن قوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } نزل في شَأنِ الذين بَنَوْا مَسْجِد الضِّرار ، فلما أظهر اللَّهُ - تعالى - نِفَاقَهُم ، وأمرهم بهَدْمِ المَسْجِد - حَلَفُوا للرَّسُول صلى الله عليه وسلم دِفَاعاً عن أنْفُسهم : ما أردنا بِبِنَاء{[8569]} المَسْجِد إلاَّ طاعة اللَّه ومُوافَقَةِ الكِتَابِ .

قوله : " يحلفون " حالٌ من فَاعِل جَاءُوك ، و " إن " نافية ، أي : ما أردْنَا و " إحساناً " مَفْعُول به ، أو اسْتِثْنَاء على حَسَبِ القوْلَيْن في المسْألة .

فصل في تفسير الإحسان

والمراد ب " الإحسان " قيل : ما أرَدْنَا بالتَّحاكُم إلى غَيْرِ الرَّسُول إلاَّ الإحْسَان إلى خُصُومِنَا ، واستِدَامة الاتِّفَاق والائتِلاف بَيْنَنَا .

وقيل : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى عُمَر ، إلا أنَّهُ يُحْسِنُ إلى صَاحِبنَا بالحُكْمِ والعَدْلِ ، والتَّوْفيقِ بينَهُ وبين خَصْمِهِ ، وما خَطَر بِبَالِنَا أنَّه يَحْكُمُ لهُ بِمَا حَكَمَ . وقيلَ : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى غَيْرك ، إلا أنَّك لا تَحْكُمُ إلاَّ بالحقِ ، وغَيْرُك يُوَفَّقُ بين الخَصْمَيْن ، ويأمُرُ كُلَّ واحدٍ بما ذَكَرْنَا{[8570]} ويقرب مراده من مُرَادِ صَاحِبهِ حتى تَحْصُل المُوافَقَة بَيْنَهُمَا .

وقال الكَلْبي{[8571]} : " إلا إحساناً " في القَوْل " وتوفيقاً " صواباً .

وقال ابن كَيْسان{[8572]} : حقَّا وعَدْلاً ؛ نظيرُه : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى }

[ التوبة : 107 ] ، وقيل : هو تَقْرِيبُ الأمْر من الحقِّ ، لا القَضَاءُ على أمْرِ الحُكم .


[8555]:البيت لعوف بن محلم في الدرر 4/31، وشرح شواهد المغني 2/821، وطبقات الشعراء ص 187، ومعاهد التنصيص 1/369، وشرح شذور الذهب ص 59، ومغني اللبيب 2/388، 396، وهمع الهوامع 1/248.
[8556]:سقط في أ.
[8557]:في ب: دعاء للمخاطبين.
[8558]:ينظر: تفسير الرازي 10/126.
[8559]:في ب: أو.
[8560]:سقط في أ.
[8561]:في ب: حالهم.
[8562]:ينظر: تفسير الرازي 10/126.
[8563]:سقط في ب.
[8564]:ينظر: تفسير الرازي 10/126.
[8565]:ينظر: تفسير الرازي 10/127.
[8566]:في ب: بشر الرسول عليه الصلاة والسلام.
[8567]:في ب: مصاب.
[8568]:ينظر: تفسير القرطبي 5/171.
[8569]:في ب: أنهم ما أرادوا ببناء.
[8570]:في ب: منهما بالإحسان إلى الآخر بما ذكرنا.
[8571]:ينظر: تفسير البغوي 1/447.
[8572]:ينظر: السابق.