اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ} (5)

قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } في نصب «صفحاً » خمسةُ أوجه :

أحدهما : أنه مصدر في معنى يضرب{[49590]} ؛ لأنه يقال : ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال :

4389 اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا *** ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ{[49591]}

والتقدير : أفنصفح عنكم الذكر ، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً ، يُنْكِرُ عليهم ذلك .

الثاني : أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين{[49592]} .

الثالث : أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، فيكون عامله محذوفاً ، نحو : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] قاله ابن عطية{[49593]} .

الرابع : أن يكون مفعولاً من أجله{[49594]} .

الخامس : أن يكون منصوباً على الظرف .

قال الزمخشري : و«صَفْحاً » على وجهين : إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم ؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه ، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً ؟ فينتصب على الظرف ، نحو : ضَعْهُ جانباً ، وأمْش جنباً ، وبعضده قراءة : صُفْحاً بالضم{[49595]} . يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ{[49596]} وسُمَيْطِ بن عُمَر{[49597]} وشُبَيْل بن عَزرَةَ{[49598]} قرأوا : صُفْحاً بضم الصاد وفيه احتمالات :

أحدهما : ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح ، ويكون ظرفاً{[49599]} . وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح ؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ{[49600]} .

والثاني : أنه جمع صَفُوحٍ ، نحو : صَبُورٍ ، وصُبْر ، فينتصب حالاً من فاعل «يَضْرِبُ »{[49601]} وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء ، أي : أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ{[49602]} . وقد تقدم ما فيه .

قوله : { أَن كُنتُمْ } قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر ، على أنها{[49603]} شرطيه . وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و«إنْ » إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان .

وأجاب الزمخشري : أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي{[49604]} بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير : «إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي » ، وهو عالم بذلك ، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي{[49605]} فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم{[49606]} .

وقيل : المعنى على المُجَازَاة ، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم ، أي إنكم غير متروكين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين{[49607]} . وهذا أراد أبو البقاء بقوله : وقرئ : إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب{[49608]} ، والباقون بالفتح على العلة ، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله :

4390 أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[49609]}

ومثله قوله :

4391 أَتَجْزَعُ أَن أُذْنَا قُتَيْبَةَ جُزَّتَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[49610]}

يروى بالكسر والفتح ، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة . وقرأ زيدُ بنُ عليّ : إذا بذالٍ عوضِ النون{[49611]} وفيها معنى العلة ، كقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] .

فصل

قال الفراء{[49612]} والزجاج{[49613]} : يقال : ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ . أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ ، وقوله : «صَفْحاً » أي إعراضاً ، والأصل فيه : إنك تَوَلَّيْتَ{[49614]} بصَفْحَةِ عُنُقِكَ . والمراد بالذكر عذابُ الله . وقيل : أفنرُدُّ عنكم النصائح والمواعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين ، وقيل : أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن{[49615]} ، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى : أفنترك عنكم الوحي ، ونمسك عن إنزال القرآن ، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان ؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ ، قال قتادة : والله لو كان هذا القول{[49616]} رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله .

وقيل : معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ{[49617]} . وقال الكسائي : أفنطوي عنك الذّكْرَ طَيًّا ، فلا تدعون ولا توعظون{[49618]} ، وقال الكلبي : أَفَنَتْركُكُم سُدًى ، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ{[49619]} . وقال مجاهد والسدي : أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم{[49620]} .


[49590]:في ب نضرب بالنون، وانظر البيان 2/352.
[49591]:من المنسرح لطرفة، وروي البيت: بالسوط بدل بالسيف وهي رواية قليلة بجانب الرواية الأولى. والشاهد: أن الضرب بمعنى الإعراض والنسيان أن انس ذلك وأعرض عنه ولا تتذكره فهو مجاز. وانظر النوادر لأبي زيد 165، والكشاف 3/378 والبحر المحيط 8/5 واللسان 3752، والخصائص 1/126، والممتع 1/323 وشرح المفصل لابن يعيش 9/44، والمغني 642 والإنصاف 568 وشرح شواهد المغني للسيوطي 933 والهمع 2/79 والأشموني 3/228.
[49592]:التبيان 1138.
[49593]:البحر المحيط 8/6.
[49594]:الكشاف 3/478.
[49595]:السابق مع اختلاف بسيط في العبارة.
[49596]:روي عن النبي، وهم ابن عمر، انظر أسد الغابة 2/258.
[49597]:السدوسي أبو عبد الله البصري عن أبي موسى وعنه عاصم الأحول، الخلاصة 162.
[49598]:الضبعي أبو عمرو البصري أحد أئمة العربية، عن أنس، وشهر بن حوشب، وعنه الزبيدي وشعبة انظر خلاصة الكمال. المرجع السابق. وهذه القراءة شاذة غير متواترة انظر الشواذ لابن خالويه 134.
[49599]:قاله السمين في الدر 4/772.
[49600]:قال: قرئ بضم الصاد، والأشبه أن يكون لغة. انظر التبيان له 1137.
[49601]:ذكره الزمخشري في الكشاف 3/478.
[49602]:المرجع السابق.
[49603]:ذكره مكي في الكشف 2/255 وهي سبعية وانظر أيضا الكشاف 3/478.
[49604]:في الكشاف: عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته.
[49605]:وفيه: أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له. وانظر الكشاف 3/478.
[49606]:واللفظ لشهاب الدين السمين في الدر 4/773 نقلا بالمعنى عن الزمخشري.
[49607]:المرجع السابق.
[49608]:التبيان 1137 وقد قرأ بالكسر أيضا مع نافع وحمزة الكسائي والأعمش، وانظر الكشف لمكي 2/155. ومعاني القرآن للفراء 3/27 والإتحاف 384، والسبعة 584.
[49609]:صدر بيت من الطويل، ولم أعرف قائله وعجزه: ............................... وحبل الصفا من عزة المتقطع والخليط: القوم الذين أمرهم واحد، والشاهد: ورود البيت بكسر الهمزة وفتحها فالفتح على تقدير حرف العلة، أي لأن، والكسر على شرط وتقدير الفتح: أتجزع لبين الخليط، وقد أوضح الزمخشري قبل كسر الهمزة على الشرطية وانظر معاني الفراء 2/134 و3/28، والخزانة 9/80 والدر المصون 4/773.
[49610]:من الطويل كسابقه وهو للفرزدق في هجاء جرير، ومدح سليمان بن عبد عبد الملك وعجزه: ................................ جهارا ولم تجزع لقتل ابن خازم وقتيبة هو ابن مسلم الباهلي القائد المشهور، وابن خازم أمير خراسان، وحزتا: قطعتا. ويروى البيت أتغضب بدل: أتجزع، والمعنى واحد وشاهده كسابقه وورود البيت بالكسر والفتح، فالفتح على تقدير حرف الجر وهو لام العلة والكسر على الشرط كما أجاب عن ذلك الزمخشري والكسر فيه وفي البيت قبله وارد كورود الفتح، وهنا في البيت يقدر فعل دل عليه حز، كقوله: {إذا السماء انشقت}وانظر الكتب 3/161 ومعاني الفراء 3/27، والخزانة 9/78، 86 والهمع 2/19 والمغني 26 و35 و36 وشرح الشواهد 86، والدر المصون 3/773 وديوانه 2/311.
[49611]:البحر المحيط 8/6.
[49612]:انظر معاني القرآن للفراء 3/28.
[49613]:معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/405.
[49614]:في الرازي والنسختين تولية.
[49615]:لرازي 27/193، 194 والقرطبي 16/62.
[49616]:الرازي 27/193، 194 والقرطبي 16/62.
[49617]:الكشاف 3/478.
[49618]:القرطبي 16/62.
[49619]:ونسب الرأي للسدي انظر السابق.
[49620]:السابق أيضا.