قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم } : قرأ الجمهور ، " أنَبِّئُكُمْ " بتشديد الباء من نبأ ، وقرأ{[12161]} إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب " أنْبِئُكُمْ " بالتخفيف من أنبأ وهما لغتان فصيحتان والمخاطب في " أنبئكم " فيه قولان :
أحدهما : وهو الذي لا يعرف أهل التفسير غيره - أن المراد به أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم .
قال ابن عطية{[12162]} : ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمرَ أن يقول لهم : " هل أنبئكم " هم اليهود والكفار ، والمتخذون ديننا هُزُواً ولعباً . قال ذلك الطبري ، ولم يسند في ذلك [ إلى ]{[12163]} متقدم شيئاً ، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين . انتهى .
فعلى كونه ضمير المؤمنين واضحٌ ، وتكون " أفْعَلُ " التفضيل أعني " بِشَرّ " على بابها ؛ إذ يصير التقدير : قل هل أنبئكم يا مؤمنون بشر من حال هؤلاء الفاسقين ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم ، كذا قدره ابن عطية ، وإنما قدَّرَهُ مضافاً ، وهو حال ليصح المعنى ، فإن ذلك إشارة للواحد ، ولو جاء من غير حذف مضاف لقيل : بشر من أولئكم بالجمع .
قال الزمخشري{[12164]} : " ذلك " إشارة إلى المنقوم{[12165]} ، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل " من " تقديره : بِشَرٍّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه [ الله ] انتهى .
ويجوز ألاَّ يقدر مضاف محذوف لا قَبْلُ ولا بَعْدُ ، وذلك على لغة من يشير للمفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً بإشارة الواحد المذكر ، ويكون " ذلك " إشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب ، كأنه قيل : بشرٍّ من أولئك ، يعني أن السَّلف الذي لهم شرٌّ من الخَلَفِ ، وعلى هذا يجيء قوله : " مَنْ لَعَنَه " مفسراً [ لنفس " ذلك " وإن كان ضمير أهل الكتاب وهو قول عامة المفسرين فيشكل ويحتاج إلى جواب ]{[12166]} ووجه الإشكال أنه يصير التقدير : هل أنبئكم يا أهل الكتاب بِشَرٍّ من ذلك ، و " ذلك " يرادُ به المنقوم ، وهو الإيمان ، وقد علم أنه لا شَرَّ في دين الإسلام ألبتة ، وقد أجاب الناس عنه ، فقال الزمخشري عبارةً قرر بها الإشكال المتقدم ، وأجاب عنه بعد أن قال : فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف وقعت في الإساءة ؟ قلت : وضعت موضع عقوبة ، فهو كقوله : [ الوافر ]
. . . *** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ{[12167]}
ومنه { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وتلك العبارة التي ذكرتها{[12168]} [ لك ] هي أن قال : " فإن قلت : المُعَاقب من الفريقين هم اليهود ، فلمَ شورك بينهم في العقوبة ؟
قلت : كان اليهود - لعنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة ، فقيل لهم : مَنْ لعنه الله شَرٌّ عقوبة في الحقيقة ، فاليقين لأهل الإسلام في زعمكم ودعواكم " .
وفي عبارته بعض علاقة وهي قوله : " فَلِمَ شورك بينهم " أي : بين اليهود وبين المؤمنين .
وقوله : " من الفريقين " يعني بهما أهل الكتاب المخاطبين ب " أنبئكم " ، ومَنْ لعنه الله وغضب عليه ، وقوله : " في العقوبة " ، أي : التي وقعت المثوبة موقعها ، ففسرها بالأصل ، وفسَّر غيره المثوبة هنا بالرجوع إلى الله - تعالى - يوم القيامة ، ويترتب على التفسيرين فائدة تظهر قريباً .
قال القرطبي{[12169]} : المعنى فبشرٍّ من نقمكم علينا ، وقيل : من شر ما تريدون لنا من المكروه ، وهذا جواب لقولهم : " ما نعرف ديناً أشرَّ من دينكم " .
و " مَثُوبَةً " نصبٌ على التمييز ، ومميَّزُها " شَرٌّ " ، وقد تقدَّم في البقرة الكلامُ على اشتقاقها ووزنها ، فَلْيُلْتَفَتْ إليه . قوله تعالى : " عِنْدَ الله " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس " مَثُوبَةٌ " ، إن قُلْنا : إنها بمعنى الرجوع ؛ لأنك تقول : " رَجَعْتُ عِنْدَهُ " ، والعندية هنا مجازية .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل " مَثُوبَةً " ، وهو في محلِّ نصبٍ ، إن قلنا : إنها اسمٌ مَحْضٌ وليستْ بمعنى الرجوعِ ، بل بمعنى عقوبة .
وقرأ الجمهورُ : " أنَبِّئُكُمْ " بتشديد الباء من " نَبَّأ " ، وقرأ{[12170]} إبراهيم النَّخَعِيُّ ويحيى بْنُ وثَّابٍ : " أنْبِئُكُمْ " بتخفيفها من " أنْبَأَ " ، وهما لغتان فصيحتان ، والجمهور{[12171]} أيضاً على " مَثُوبَة " بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ{[12172]} الأعرَجُ وابن بُرَيْدَة ونبيح وابن عمران : " مَثْوبة " بسكون الثاء وفتح الواو ، وجعلها ابن جِنِّيّ{[12173]} في الشذُوذِ ؛ كقولهم " فَاكِهَةٌ مَقْودَةٌ للأذَى " ، بسكون القاف وفتح الواو ، يعني : أنه كان من حقِّها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها ، وتُقْلب الواوُ ألفاً ، فيقال : مَثَابَة ومقادَة كما يقال : " مَقَام " والأصل : " مَقْومٌ " .
قوله تعالى : " مَنْ لَعَنَهُ " في محلِّ " مَنْ " أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه في محلِّ رفع على خبر مبتدأ مضمرٍ ، تقديره : هُوَ مَنْ لَعنَهُ الله فإنه لما قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ } ، فكأنَّ قَائِلاً قال : من ذلك ؟ فقيل : هو من لَعَنَهُ الله .
ونظيرُهُ قوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ } [ الحج : 72 ] أي : هو النار .
وقدَّر{[12174]} مكيٌّ قبله مضافاً محذوفاً ، قال : " تقديرُه : لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ الله " ، ثم قال : وقيل : " مَنْ " في موضعِ خَفْضٍ على البدلِ من " بِشَرٍّ " بدلِ الشيء من الشَّيْء ، وهو هو ، وكان ينبغي له أن يقدِّرَ في هذا الوجه مضافاً محذوفاً ؛ كما قدَّره في حالة الرفع ؛ لأنه إنْ جَعَلَ " شَرًّا " مراداً به معنًى ، لزمه التقديرُ في الموضعين ، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ ، لزمَهُ ألاَّ يُقَدِّر في الموضعَيْن .
الثاني : أنه في محل جر ، كما تقدَّم بيانُه عن مكيٍّ والمعنى : أنبئكم عن من لَعَنَهُ الله .
الثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على البَدَل من محل " بِشَرٍّ " .
الرابع : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر يدل عليه " أنَبِّئُكُمْ " ، تقديره : أعَرِّفُكُمْ من لَعَنَهُ الله ، ذكره أبو البقاء{[12175]} ، و " مَنْ " يُحْتَملُ أن تكون موصولةً ، وهو الظاهرُ ، ونكرةً موصوفةً ، فعلى الأوَّل : لا محلَّ للجملة التي بعدها ، وعلى الثاني : لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على " مَنْ " بأحد الأوجه السابقة ، وقد حمل على لفظها أولاً في قوله " لَعَنَهُ " و " عَلَيْهِ " ، ثم على معناها في قوله : " مِنْهُمُ القِرَدَة " ، ثم على لفظها في قوله : " وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ " ثم على لفظها في قوله : " أولَئِكَ " ، فجَمَع في الحمل عليها أربعَ مرَّاتٍ .
و " جَعَلَ " هنا بمعنى " صَيَّرَ " فيكون " مِنْهُمْ " في محل نصب مفعولاً ثانياً ، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف ، أي : صَيَّر القردةَ والخنازيرَ كائِنِينَ منهم ، وجعلها الفارسيُّ في كتاب " الحُجَّة " له بمعنى " خَلَقَ " ، قال ابن عطية : " وهذه منه - رحمه الله - نزعةٌ اعتزاليَّة ؛ لأن قوله : " وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ " ، تقديره : ومن عَبَد الطَّاغُوت ، والمعتزلةُ لا ترى أن الله تعالى يُصَيِّرُ أحَداً عابد طاغُوتٍ " انتهى ، والذي يُفَرُّ منه في التَّصْييرِ هو بعينه موجودٌ في الخَلْق .
وجعل أبو حيان{[12176]} قوله تعالى { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ } إلى آخره - مِنْ وَضْعِ الظاهرِ موضعَ المضْمَر ؛ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شرًّا مثوبةً ، كأنه قيل : قل هَلْ أنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلك عند الله مَثُوبَةً ؟ أنتم ، أيْ : هُمْ أنْتُمْ ، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعدُ : { وَإذا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا } [ المائدة : 61 ] ، فيكون الضميرُ واحداً ، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام ، وقرأ{[12177]} أبيُّ بْنُ كَعْبٍ وعبد الله بْنُ مَسْعُود - رضي الله عنهما - : " من غضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَجَعَلهُمْ قِرَدَةً " وهي واضحةٌ .
المُرادُ { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } يعني : اليَهُودَ ، { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ } : وهم أصْحَابُ السَّبْتِ ، و " الخَنَازِير " : وهم كُفَّارُ مائِدة عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، ورُوِي [ عن ]{[12178]} عَلِيّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ الممسُوخِين مِنْ أصْحَاب السَّبْت فشبابُهُم مُسِخُوا قِرَدَةً ، وَمَشَايِخُهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ{[12179]} .
قوله تعالى : " وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ " في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءة{[12180]} ، اثنتان في السَّبْعِ ، وهما " وعَبَدَ الطَّاغُوت " على أنَّ " عَبَدَ " فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للفاعل ، وفيه ضميرٌ يعودُ على " مَنْ " ؛ كما تقدَّم ، وهي قراءة جمهور السَّبْعة [ غيرَ حَمْزة ] أي : جعل منهم من " عَبَدَ الطَّاغُوتَ " أي : أطَاعَ الشَّيْطَان فيما سَوَّل له ، ويؤيده قراءة ابن مسعُودٍ " وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ " .
والثانية : " وَعبُدَ الطَّاغُوتِ " بضم الباء ، وفتح الدال ، وخَفْض الطاغوتِ ، وهي قراءةُ حمزة{[12181]} - رحمه الله - والأعْمَشِ ويحيى بْنِ وثَّاب ؛ وتوجيهُها كما قال الفارسيُّ وهو أن " عَبُداً " واحدٌ يُرادُ به الكَثْرةُ ، كقوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] وليس بجَمْعِ " عَبْدٍ " ؛ لأنه ليس في أبنيةِ الجَمْعِ مثلُه ، قال : وقد جاءَ على فعُلٍ ؛ لأنه بناءٌ يُرَادُ به الكثرةُ والمبالغةُ في نحْوِ يَقُظٍ وندُسٍ ؛ لأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذْهَبٍ ، وبهذا المعنى أجاب الزمخشريُّ{[12182]} أيضاً ، قال - رحمه الله تعالى - : معناه الغُلُّو في العبوديَّة ؛ كقولهم : " رَجُلٌ حَذُرٌ وفَطُنٌ " للبليغ في الحَذَر والفطْنة ؛ وأنشد لِطَرَفَة : [ الكامل ]
أبَنِي لُبَيْنَى ، إنَّ أمَّكُم *** أمَةٌ ، وَإِنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ{[12183]}
وقد سَبَقُهمَا إلى هذا التوجيهِ أبو إسْحَاق ، وأبو بَكْر بنُ الأنْبَارِيِّ ، قال أبو بَكْرٍ : " وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ ؛ كقولهم للفَطِن : " فَطُنٌ " وللحَذِر : " حَذُرٌ " ، يَضُمُّون العين للمبالغةِ ؛ قال أوس بن حُجْرٍ : [ الكامل ]
أبَنِي لُبَيْنَى ، إنَّ أمَّكُمُ *** أمَةٌ ، وإنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ{[12184]}
بضمِّ الباء " . ونَسَب البيت لابن حُجْر ، وقد تقدَّم أنه لطرفة ، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفة الشيخُ شهابُ الدينِ أبو شَامَةَ .
وقال أبو إسحاق{[12185]} : ووجْهُ قراءةِ حمزة : أنَّ الاسم بُني على " فَعُلٍ " ؛ كما تقول : " رَجُلٌ حَذُرٌ " ، وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحَذَرِ ، فتأويلُ " عَبُدٍ " : أنَّه بلغَ الغايةَ في طاعة الشيطانِ ، وكأنَّ هذا اللفظ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجَمْعِ ؛ كما تقول للقوم " عَبُدُ العَصَا " تريدُ : عَبيدَ العَصَا ، فأخذ أبو عليّ هذا ، وبَسَطَهُ . ثم قال " وجاز هذا البناءُ على عَبْدٍ ؛ لأنه في الأصلِ صِفَةٌ ، وإن كان قد استُعْمِلَ استعمالَ الأسماءِ ، لا يُزيله ذلك عن حُكْمِ الوصْفِ ، كالأبْطَحِ والأبْرَقِ استُعْمِلاَ استعمال الأسماء حتَّى جُمِعَا جَمْعَها في قولهم : أبَارِق وأبَاطِح كأجَادِل ، جَمْع الأجْدَل ، ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكم الصفة ؛ يَدُلُّكَ على ذلك مَنْعُهم له الصَّرْف ؛ كأحْمَرَ ، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة ، لم يمتنعْ أنْ يُبنَى بناءَ الصفات على فَعُلٍ ، نحو : يَقُظٍ " .
وقال البَغَوِي{[12186]} : هُمَا لُغَتَانِ : " عَبْد " بجزم الباء ، و " عَبُد " بضمها ، مثل سَبْع ، وَسَبُع .
وطعن بعض الناس على هذه القراءة ، ونسب قارئها إلى الوهْم ؛ كالفراء{[12187]} ، والزجاج{[12188]} ، وأبي عُبَيْدٍ ، ونصيرٍ الرازيِّ النحويِّ صاحب الكسائيِّ ؛ قال الفرَّاء : " إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشِّعْرِ - يعني ضمَّ باء " عَبُدٍ " - فأمَّا في القراءة فَلاَ " ، وقال أيضاً : " إنْ تكنْ لغةً مِثْلَ حَذُرٍ وعَجُلٍ ، جاز ذلك ، وهو وجهٌ ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة " ، وقال الزَّجَّاج : " هذه القراءةُ ليستْ بالوجهِ ؛ لأنَّ عَبُداً على فَعُلٍ ، وهذا ليس من أمثلةِ الجَمْعِ " ، وقال أبو عُبَيْدٍ : " إنما معنى العَبُدِ عندهم الأعْبُدُ ، يريدون خَدَم الطَّاغوتِ ، ولم نجدْ هذا يَصِحُّ عند أحدٍ من فصحاء العرب أن العَبْدَ يقال فيه عَبُدٌ ، وإنما عَبْدٌ وأعْبُدٌ " ، وقال نصيرٌ الرزايُّ : " هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به ، فليتَّقِ الله مَنْ قرأ به ، وليسألْ عنه العلماء حتى يُوقَفَ على أنه غير جائز " . قال شهاب الدين{[12189]} : قد سألوا العلماءَ عن ذلك ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى ، وإذا تواتر الشيءُ قرآناً ، فلا التفاتَ إلى مُنْكِره ؛ لأنه خَفِيَ عليه ما وَضَح لغيره .
وقَدْ ذَكَرُوا في تَوْجِيه هذه القِرَاءة وُجُوهاً : مِنْهَا ما تقدَّمَ [ من أنَّهم ]{[12190]} ضَمُّوا البَاءَ للمبالَغَة ، كقولِهِم : " حَذُر " و " فَطُن " ومنها ما نقله البَغَوِي وغيره{[12191]} : أنَّ " العبْد " و [ " العبُد " ]{[12192]} لغتان كقولهم سَبْع ، وسَبُع .
ومنها : أن العَبْد جمعه عِبَاد ، والعِبَادُ جَمْعُ عُبُد ، كثِمَار وَثُمُر ، فاستثقلوا ضَمَّتَيْن مُتَواليتيْن فأبْدِلت الأولى فَتْحَة .
ومنها : يحتمل أنهم أرادوا أعْبُد الطَّاغُوت ، مثل فَلْسٍ وأفْلُسٍ ثم [ حُذِفَتِ " الهَمْزَةُ " ونقلت حَرَكَتُها إلى " العَيْن " .
ومنها : أنه أراد : وعبدةَ الطَّاغُوت ، ثم ]{[12193]} حذفت الهاء وضم الباء لِئَلاَّ يُشْبِه الفِعْلَ . وأمَّا القراءاتُ الشاذَّةُ فقرأ أبَيٌّ : " وعَبَدُوا " بواو الجمع ؛ مراعاةً لمعنى " مَنْ " ، وهي واضحةٌ ، وقرأ الحسنُ البصريُّ في رواية عبَّادٍ : " وعَبْدَ الطَّاغُوتَ " بفتح العين والدال ، وسكون الباء ، ونصب التاء من " الطَّاغُوتَ " ، وخرَّجها ابن عطية على وجهيْنِ أحدهما : أنه أراد : " وعَبْداً الطَّاغُوتَ " ، فحذف التنوينَ من " عَبْداً " ؛ لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [ المتقارب ]
. . . *** وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا{[12194]}
والثاني : أنه أراد " وعَبَدَ " بفتح الباء على أنه فِعْلٌ ماضٍ ؛ كقراءة الجماعة ، إلا أنه سكَّن العينَ على نحوِ ما سكَّنها في قول الآخر : [ الطويل ]
وَمَا كُلُّ مَغْبُونٍ وَلَوْ سَلْفَ صَفْقُهُ *** . . . {[12195]}
بسكون اللام ، ومثله قراءةُ أبي السَّمَّال : { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } [ المائدة : 64 ] بسكون العين ، قال شهاب الدين : ليس ذلك مثل " لُعْنُوا " ؛ لأنَّ تخفيف الكسْرِ مقيسٌ ؛ بخلاف الفتح ؛ ومثلُ " سَلْفَ " قولُ الآخر : [ الرمل ]
إنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ *** قَدْ خُلِطْ بجُلْجُلاَنِ{[12196]}
من حيث إنه خَفَّف الفَتْحة . وقال أبو حيان{[12197]} - بعد أن حكى التخريج الأوَّل عن ابن عطية - : لا يَصِحُّ ؛ لأنَّ عَبْداً لا يمكنُ أن ينصبَ الطاغوتَ ؛ إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعلٍ ، فالتخريجُ الصحيحُ أن يكون تخفيفاً من " عَبَدَ " ك " سَلْفَ " في " سَلَفَ " ، قال شهاب الدين{[12198]} : لو ذكر التخريجَيْن عن ابن عطيَّة ، ثم استشكل الأولَ ، لكان إنصافاً ؛ لئلا يُتَوَهَّم أن التخريج الثاني له ، ويمكن أن يقال : إنَّ " عَبْداً " لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ ، فكأنه قيل : مَنْ يعبدُ هذا العَبْدَ ؟ فقيل : يَعْبُدُ الطاغوتَ ، وإذا تقرَّر أنَّ " عَبْدَ " حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطْفاً على القِردَةِ ، أي : وجعلَ منْهُمْ عَبْداً للطَّاغوتِ .
وقرأ{[12199]} الحسنُ أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة ، إلا أنه جَرَّ " الطَّاغُوت " وهي واضحةٌ ، فإنه مفرد يُرادُ به الجنسُ أضيفَ إلى ما بعده ، وقرأ الأعْمَشُ والنخَعِيُّ وأبو جعفر : " وعُبِدَ " مبنيًّا للمفعول ، " الطَّاغُوتُ " رفعاً ، وقراءة عبد الله كذلك ، إلا أنَّه زاد في الفعل تاء التأنيث ، وقرأ : " وعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ " والطاغوتُ يذكَّر ويؤنَّث ؛ قال تعالى : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] وقد تقدَّم في البقرة [ الآية : 25 ] ، قال ابن عطية{[12200]} : " وضَعَّفَ الطبريُّ هذه القراءةَ ، وهي متجهةٌ " ، يعني : قراءةَ البناءِ للمفعولِ ، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ، ولا توجيهَ القراءة ، ووجهُ الضعْفِ : أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصِّلَةِ من رابطٍ يربُطُها بالموصولِ ؛ إذ ليس في " عُبِدَ الطَّاغُوتُ " ضميرٌ يعودُ على " مَنْ لَعَنَهُ الله " ، لو قلت : " أكْرَمْتُ الذينَ أهَنْتَهُمْ وضُرِبَ زَيْدٌ " على أن يكون " وضُرِبَ " عطفاً على " أكْرَمْتُ " لم يَجُزْ ، فكذلك هذا ، وأمَّا توجيهُها ، فهو كما قال الزمخشريُّ : إنَّ العائدَ محذوفٌ ، تقديرُه : " وعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أوْ بَيْنَهُمْ " .
وقرأ ابن مسعُود في رواية عبد الغفَّار عن علقمة عنه : " وعَبُدَ الطَّاغُوتُ " بفتح العين ، وضمِّ الباء ، وفتحِ الدالِ ، ورفعِ " الطَّاغُوتُ " ، وفيها تخريجان :
أحدهما : - ما ذكره ابن عطية - وهو : أن يصيرَ له أنْ عُبِدَ كالخُلُقِ والأمْرِ المعتاد المعروفِ ، فهو في معنى فَقُهَ وشَرُفَ وظَرُفَ ، قال شهاب الدين{[12201]} : يريد بكونه في معناه ، أي : صار له الفِقْهُ والظَّرْفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً ، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعال .
والثاني : - ما ذكره الزمخشري - وهو : أنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك " أمُرَ " ، أي : صَارَ أميراً ، وهو قريبٌ من الأوَّلِ ، وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ .
وقرأ ابن عبَّاس في رواية عِكْرِمة عنه ومُجَاهِد ويحيى بن وثَّاب : " وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ " بضم العين والباء ، وفتح الدال وجر " الطَّاغُوتِ " ، وفيها أقوال :
أحدها : - وهو قول الأخفش - : أنَّ عُبُداً جمع عَبِيدٍ ، وعَبِيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ ، فهو جمعُ الجمعِ ، وأنشد : [ الرمل ]
أنْسُبِ الْعَبْدَ إلى آبَائِهِ *** أسْوَدَ الْجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْ{[12202]}
وتابعه الزمخشريُّ على ذلك ، يعني أنَّ عَبِيداً جمعاً بمنزلة رَغيفٍ مفرداً فيُجْمَعُ جمعُه ؛ كما يُقال : رَغِيفٌ ورُغُفٌ .
الثاني - وهو قولُ ثَعْلَب - : أنه جمعُ عَابِدٍ كشَارِفٍ وشُرُفٍ ؛ وأنشد : [ الوافر ]
ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرُفِ النِّوَاءِ *** فَهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بِالْفِنَاءِ{[12203]}
والثالث : أنه جَمْعُ عَبْدٍ ؛ كسَقْفٍ وسُقُفٍ ورَهْنٍ ورُهُنٍ .
والرابع : أنه جمع عبادٍ ، وعبادٌ جمعُ " عَبْدٍ " ، فيكونُ أيضاً جمعَ الجَمْع ؛ مثل " ثِمَار " هو جمع " ثَمَرَةٍ " [ ثم يُجْمَعُ على " ثُمُرٍ " ] ، وهذا ؛ لأنَّ " عِباداً " و " ثِمَاراً " جمعَيْن بمنزلة " كِتَابٍ " مفرداً ، و " كِتَاب " يجمع على " كُتُب " فكذلك ما وازَنَه .
وقرأ الأعمَشُ : " وعُبَّدَ " بضمِّ العين وتشديد الباء مفتوحةً وفتحِ الدَّال ، " الطَّاغُوتِ " بالجرِّ ، وهو جمع : عَابدٍ ؛ كضُرَّبٍ في جمعِ ضَاربٍ ، وخُلَّص في جمع خالصٍ .
وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة : " وعُبَدَ الطَّاغُوتِ " بضمِّ العين وفتحِ الباء والدالِ ، و " الطَّاغُوتِ " جَرًّا ؛ وتوجيُهها : أنه بناءُ مبالغةٍ ، كحُطَمٍ ولُبَدٍ ، وهو اسْمُ جِنْسٍ مفردٍ يُرَادُ به الجَمْعُ ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة ، وقد تقدَّمَتْ .
وقرأ ابن مَسْعُودٍ في رواية عَلْقمَةَ أيضاً : " وعُبَّدَ الطَّاغُوتَ " بضمِّ العين ، وبشد الباء مفتوحة ، وفتح الدال ، ونصب " الطَّاغُوت " ؛ وخرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عَابِدٍ ؛ كضُرَّبٍ في جمع ضارِبٍ ، وحَذَف التنوين من " عُبَّداً " ؛ لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [ الطويل ]
. . . *** وَلاَ ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ{[12204]}
قال : " وقد تقدَّمَ نَظِيرُهُ " ، يعني قراءةَ : " وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ " بفتح العين والدال ، وسكونِ الباءِ ، ونصبِ التاء ، وكان ذَكَر لها تخريجَيْن ، أحدُهما هذا ، والآخرُ لا يمكنُ ، وهو تسكينُ عين الماضي ، وقرأ بُرَيدة الأسلَمِيُّ فيما نقلَه عنه ابنُ جريرٍ " وعَابِدَ الشَّيْطَان " بنصب " عَابِدَ " وجَرِّ " الشَّيْطَانِ " بدلَ الطَّاغُوتِ ، وهو تفسيرٌ ، لا قراءةٌ ، وقرأ أبو واقدٍ الأعْرَابِيُّ : " وعُبَّادَ " بضمِّ العين وتشديد الباءِ بعدها ألف ونصبِ الدال ، والطَّاغُوتِ بالجرِّ ، وهي جمعُ عابدٍ ؛ كضُرَّابٍ في ضاربٍ .
وقرأ بعضُ البصْريِّين : " وعِبَادَ الطَّاغُوتِ " بكسر العين ، وبعد الباء المخفَّفة ألف ، ونصْبِ الدال ، وجَرِّ " الطَّاغُوتِ " ، وفيها قولان :
أحدهما : أنه جمعُ عابدٍ ؛ كقَائِمٍ وقيَامٍ ، وصَائِمٍ وصيَامٍ .
والثاني : أنها جمعُ عَبْد ؛ وأنشد سيبَوَيْهِ : [ الوافر ]
أتُوعِدُنِي بِقَوْمِكَ يَا بْنَ حَجْلٍ *** أُشَابَاتٍ يُخَالُونَ الْعِبَادَا{[12205]}
قال ابن عطية{[12206]} : " وقد يجوزُ أن يكونَ جَمْعَ " عَبْدٍ " ، وقلَّما يأتي " عِبَاد " مضافاً إلى غير الله تعالى ، وأنْشَد سيبوَيْهِ : " أتُوعِدُنِي " البيتَ ، قال أبو الفتْحِ{[12207]} : يريد عبادَ آدم - عليه السلام - ولو أراد عِبَاد [ الله ] فليس ذلك بشَيْءٍ يُسَبُّ به أحدٌ ، فالخَلْقُ كلُّهُمْ عِبَادُ الله " قال ابن عطيَّة{[12208]} : " وهذا التعليقُ بآدَمَ شاذٌ بعيدٌ ، والاعتراضُ باقٍ ، وليس هذا مِمَّا تَخَيَّلَ الشاعرُ قَصْدَهُ ، وإنما أرادَ العَبِيدَ ، فساقَتْه القافيةُ إلى العِبَادِ ؛ إذ قد يُقَالُ لِمَنْ يملكه مِلْكاً مَّا ، وقد ذكر أن عربَ الحِيرةِ سُمُّوا عِبَاداً ؛ لدخولهم في طاعةِ كِسْرَى ، فدانَتْهم مملكتُه " ، قال شهاب الدين{[12209]} : قد اشْتَهَرَ في ألسنةِ الناسِ أن " عَبْداً " المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على " عِبَاد " وإلى غيره على " عَبِيد " ، وهذا هو الغالبُ ، وعليه بَنَى أبو محمَّد .
وقرأ عَوْنٌ العقيليُّ في رواية العبَّاس بْنِ الفَضْل عنه : " وعَابِدُ الطَّاغُوتِ " بضمِّ الدالِ ، وجَرِّ الطاغوت ؛ كضَاربِ زَيْدٍ ، قال أبو عمرو : تقديرُه : " وهُمْ عَابِدُ الطَّاغُوتِ " ، قال ابن عطية{[12210]} : " فهو اسمُ جنْسٍ " ، قلت : يعني أنه أرادَ ب " عابد " جماعةً ، قلتُ : وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها " وَعَابِدُو الطَّاغُوتِ " جَمْعَ عابد جمع سلامةٍ ، فلمَّا لَقِيتِ الواوُ لامَ التعريفِ ، حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين ، فصار اللفظُ بدالٍ مضْمُومةٍ ؛ ويؤيِّدُ فَهْمَ هذا أنَّ أبا عَمْرو قدَّر المبتدأ جَمْعاً ، فقال : " تقديرُه : هُمْ عَابِدُو " ، اللهم إلا أنْ ينقلُوا عن العقيليِّ أنه نَصَّ على قراءتِه أنها بالإفراد ، أو سمعُوهُ يقف على " عَابِد " ، أو رَأوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ ؛ وحينئذٍ تكونُ قراءته كقراءةِ ابن عبَّاس : " وعَابِدُو " [ بالواو ] ، وعلى الجملة ، فقراءتُهما متَّحِدةٌ لفظاً ، وإنَّما يَظْهَرُ الفَرْقُ بينهما على ما قالُوه في الوقْفِ أو الخَطِّ .
وقرأ ابن عبَّاس في روايةٍ أخرى لعكْرِمَةَ : " وعَابِدُو " بالجمْعِ ، وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ ابن بُرَيْدَةَ : " وعَابِدَ " بنصب الدالِ ؛ كضَارِبِ زَيْدٍ ، وهو أيضاً مفرد يُرادُ به الجِنْسُ ، وقرأ ابن عبَّاس وابن أبي عَبْلَة : " وعبدَ الطَّاغُوت " بفتحِ العينِ والباءِ والدالِ ، وجَرِّ " الطَّاغُوتِ " ؛ وتخريجُها : أنَّ الأصلَ : " وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ " وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة ، كَفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ ، وكَافِرٍ وكَفَرةٍ ، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإضافة ؛ كقوله : [ الرجز ]
قَامَ وُلاَهَا فَسَقوْهُ صَرْخَدَا{[12211]} *** . . .
أي : وُلاتُهَا ؛ وكقوله : [ البسيط ]
. . . *** وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذِي وَعدُوا{[12212]}
أي : عدةَ الأمرِ ، ومنه : { وَإِقَامَ الصَّلاَةِ } [ الأنبياء : 73 ] أي : إقامةِ الصلاة ، ويجوزُ أن يكون " عبد " اسم جنسٍ لعابدٍ ؛ كخَادِمٍ وخدمٍ ، وحينئذ : فلا حَذْفَ تاء تأنيثٍ لإضافة ، وقُرِئ : " وعبَدَةَ الطَّاغُوتِ " بثبوت التاء ، وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإضافة في القراءةِ قبلها ، وقد تقدَّم توجيُهها أنَّ فَاعِلاً يُجْمَعُ على " فَعَلَةٍ " كَبَارٍّ وبررَةٍ ، وفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ .
وقرأ عُبْيدُ بْنُ عُمَيْر : " وأعْبُدَ الطَّاغُوتِ " جمع عَبْدٍ ، كفَلْسٍ وأفْلُس ، وكَلْبٍ وأكْلُبٍ ، وقرأ ابن عبَّاس : " وعَبِيدَ الطَّاغُوتِ " جمعَ عَبْدٍ أيضاً ، وهو نحو : " كَلْبٍ وكَلِيبٍ " قال : [ الطويل ]
تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا *** رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ{[12213]}
وقُرئ أيضاً : " وعَابِدِي الطَّاغُوتِ " ، وقرأ عبد الله بن مسعُود : " ومَنْ عَبَدُوا " ، فهذه أربعٌ وعشرون قراءة ، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها : " وعَابِدَ الشَّيْطَانِ " ؛ لأنها تفسيرٌ ، لا قراءة . وقال ابن عطيَّة : " وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية : إنها تجويزٌ ، لا قراءةٌ " يعني : لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآية ، ظَنَّ بعضُهم ؛ أنه قيل على سبيلِ الجَوَاز ، لا أنها منقولةٌ عن أحَدٍ ، وهذا لا ينبغي أنْ يُقال ، ولا يُعْتقدَ ؛ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْهَا قراءةً تَلَوْهَا على مَنْ أخَذُوا عنه ، وهذا بخلاف و " عَابِدَ الشَّيْطَانِ " ، فإنَّه مخالفٌ للسَّوَاد الكريم .
وطريقُ ضبْطِ القراءةِ في هذا الحَرْفِ بعدما عُرِفَ القُرَّاء : أن يقال : سبع قراءاتٍ مع كَوْنِ " عَبَدَ " فعلاً ماضياً ، وهي : وعَبَد ، وعَبَدُوا ، ومَنْ عَبَدُوا ، وعُبِدَ ، وعُبِدَت ، وعَبُدَ ، وعَبْدَ في قولنا : إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً ، ك " سَلْفَ " في " سَلَفَ " ، وتِسْعُ قراءاتٍ مع كونه جمعَ تكْسِيرٍ ، وهي : وعُبُدَ ، وعُبَّدَ ، مع جَرِّ الطاغوتِ ، وعُبَّدَ مع نصبه ، وعُبَّاد ، وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإضافةِ ، وعَبَدَةَ ، وأعْبُد ، وعَبِيدَ ، وستٌّ مع المفْرَدِ : وعَبُدَ ، وعُبَدَ ، وعَابِدَ الطَّاغُوتِ ، وعَابِدُ الطاغوتِ بضم الدال ، وعَابِدَ الشيطانِ ، وعَبْدَ الطَّاغُوتِ ، وثِنتان مع كونه جمع سلامة : وعَابِدُو بالواو ، وعَابِدِي بالياء ، فعلى قراءةِ الفِعْلِ يجُوزُ في الجملةِ وجهان :
أحدهما : أن تكون معطوفةً على الصِّلة قبلها ، والتقدير : مَنْ لَعَنَهُ الله وعَبَدَ الطَّاغُوتَ .
والثاني : أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ ، وإنما هو على تقديرِ " مَنْ " ، أي : ومن عَبَدَ ؛ ويدُلُّ له قراءةُ عبد الله بإظهارِ " مَنْ " ، إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحديُّ - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه ، وهو ممنوعٌ عند البصريِّين ، جائزٌ عند الكوفيين ، وسيأتي جميعُ ذلك في قوله تعالى : { وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] ، أي : وبالذي أُنْزِلَ ، وعلى قراءةِ جمع التكسير ، فيكون منصوباً عطفاً على القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ ، أي : جَعَل منهمُ القِرَدَةَ وعِبَادَ وعُبَّادَ وعَبِيدَ ، وعلى قراءةِ الإفراد كذلك أيضاً ، ويجوزُ النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخر ، وهو العطفُ على " مَنْ " في { مَنْ لَعَنَهُ الله } ، إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ ، وهو مرادٌ به الجنْسُ ، وفي بعضها قُرىء برفعه ؛ نحو : " وعَابِدُ الطَّاغُوتِ " ، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ ، أي : هُمْ عَابِدُو وتقدَّم ما في ذلك .
قال شهاب الدين{[12214]} : وعندي أنه يجوزُ أن يرتفع على أن معطوفٌ على " مَنْ " في قوله تعالى { مَن لَعَنَهُ الله } ؛ ويَدُلُّ لذلك : أنهم أجازوا في قراءةِ عبد الله : " وَعَابِدُو " بالواوِ هذين الوجهَيْن ، فهذا مثله ، وأما قراءة جمع السلامة ، فمن قرأ بالياء ، فهو منصوبٌ ؛ عطفاً على القردةِ ، ويجوزُ فيه وجهان آخران :
أحدهما : أنه منصوبٌ عطفاً على " مَنْ " في { مَنْ لَعَنَهُ الله } إذا قلنا : إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ .
والثاني : أنه مجرورٌ ؛ عطفاً على { مَنْ لَعَنَهُ الله } أيضاً ، إذا قُلْنا بأنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من " بِشَرٍّ " ؛ كما تقدَّم إيضاحُه ، وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرةُ الاستنباطِ ، والله أعلمُ .
ومَنْ قرأ بالواو فرفعه : إمَّا على إضمار مبتدأ ، أي : هُمْ عَابِدُو الطَّاغُوتِ ، وإمَّا نَسَقٌ على " مَنْ " في قوله تعالى : { مَنْ لَعَنَهُ الله } كما تقدَّم .
قِيلَ : الطَّاغُوتُ الْعِجْل ، وقيل : الأحْبَارُ ، وكلُّ مَنْ أطاعَ أحَداً فِي مَعْصِيَةٍ فَقَدْ عَبَدَه .
واحْتَجُّوا بهذه الآية على أنَّ الكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّهِ ، قالُوا : لأنَّ تقديرَ الآيَة : وجَعَلَ اللَّهُ منهم من عَبَدَ الطَّاغُوت ، وإنَّما يُعْقَلُ معنى{[12215]} هذا الجَعْل ، إذا كانَ هُوَ الذي جعل فيهم تِلْكَ العِبَادَةَ ، إذْ لوْ كَانُوا هُمُ الجَاهِلُون لكَانَ اللَّهُ تعالى [ ما ]{[12216]} جعلهم عَبَدَة الطَّاغُوت ، بلْ كَانُوا هُمُ الذين جعلوا أنْفُسَهُم كذلك وذلك خِلافُ الآية .
قالتِ المُعْتَزِلَة{[12217]} : مَعْنَاه أنَّهُ تعالى حَكَمِ{[12218]} عليهم بذلك كَقوْلِهِ تعالى : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] وقد تقدَّمَ الكلامُ فيه .
[ قوله تعالى : " أولئك شَرٌّ " مبتدأ وخبر ، و " مكاناً " نصب على التمييز ، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهله ، كنايةً عن نهايتهم في ذلك ] كقولهم : فلانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ ، وحَاصِلُهُ يرجع إلى الإشَارَةِ إلى الشَّيْءِ بذكرِ لوَازِمِه وتَوَابِعِهِ و " شَرّ " هنا على بابه من التفضيل ، والمفضَّلُ عليه فيه احتمالان :
أحدهما : أنهم المؤمنون ، فإن قيل : كيف يُقال ذلك ، والمؤمنون لا شَرَّ عنْدَهُمْ ألبتة ؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : - ما قاله النحاس{[12219]} - أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدُّنيا ؛ لِمَا يلحقُهم فيه من الشَّرِّ ، يعني : من الهمومِ الدنيويةِ ، والحاجةِ ، والإعسارِ ، وسماعِ الأذَى ، والهَضْمِ من جانبهم ، قال : " وهذا أحسنُ ما قيل فيه " .
والثاني : أنه على سبيلِ التنازُلِ والتسليم للخَصْم على زعمه ؛ إلزاماً له بالحُجَّة ، كأنه قيل : شَرٌّ من مكانِهِمْ في زعْمِكُمْ ، فهو قريبٌ من المقابلة في المعنى .
والثاني من الاحتمالين : أنَّ المفضَّل عليه هم طائفةٌ من الكفارِ ، أي : أولئكَ الملعونَون المغضُوبُ عليهم المجعُولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العابدُونَ الطَّاغوت - شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمَعُوا بَيْنَ هذه الخصَالِ الذَّميمة .
قوله تعالى : { وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } أي : طريق الحقِّ .
قال المُفَسِّرون{[12220]} : لمَّا نزلت هذه الآيَةُ عيَّر المسلمُون أهْلَ الكِتَاب ، وقالُوا : يا إخْوَان القِرَدَةِ والخَنَازِير ، فافْتَضَحُوا ونَكَّسُوا رؤُوسَهم{[12221]} قال الشَّاعِر : [ الرجز ]
فَلَعْنَةُ اللَّهِ على اليَهُودِ *** إنَّ اليَهُودَ إخْوَةُ القُرُودِ{[12222]}