سورة النجم مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية وهي قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } الآية . وهي إحدى وستون آية . وقيل : إن السورة مدنية . والصحيح أنها مكية لقول ابن مسعود : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . وقيل : اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف{[1]} .
قوله تعالى : { والنجم إِذَا هوى } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[53333]} في رواية الوالبيِّ العَوْفِيِّ يعني الثُّرَيَّا إذَا سقطت وغابت . وهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ{[53334]} . والعرب تسمي «الثُّرَيَّا » نَجْماً قال قائلهم :
إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَا *** ابْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَا{[53335]}
وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً : مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطّ وَفِي الأَرْضِ مِنَ العَاهَةِ شَيْءٌ إِلاَّ رُفِعَ{[53336]} .
وأراد بالنجم الثريا . قال شهاب الدين : وهذا هو الصحيح لأن هذا صار علماً بالغلبة ومنه قول العرب :
طَلَعَ النَّجْم غُدَيَّهْ *** فَابْتَغَى الرَّاعِي كُسَيَّهْ{[53337]}
أحْسَنُ النَّجْم فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا *** وَالثُّرَيَّا فِي الأَرْضِ زَيْنُ النِّسَاءِ{[53338]}
يقال : إنها سبعة أنجم ستةٌ منها ظاهرة وواحدٌ خفي يمتحن الناس به أبصارهم . وروى القاضي عِياضٌ في «الشِّفا » أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى الثريا أحد عشر نجماً . وقال مجاهد : هي نجوم السماء كلها حين تغرب . لفظه واحد ومعناه الجمع . سمي الكوكب نجماً لطلوعه ، وكل طالع نجم ، يقال : نَجَم السِّنُّ والقَرْن والنَّبْتُ إذا طَلَعَ . وروى عكرمة عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) {[53339]} - أنها ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع . وقال أبو حمزة{[53340]} الثُّماليُّ : هي النجوم إِذا اسْتَتَرَتْ يوم القيامة . وقيل المراد بالنجم هنا الجِنْس .
قال الشاعر - ( رحمة الله{[53341]} عليه - ) :
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْم فِي مُسْتَحِيرَةٍ *** سَرِيع بِأَيْدِي الآكِلينَ جُمُودُهَا{[53342]}
أي تَعُدُّ النجوم . وهذا هو معنى قول مجاهد المتقدم . وقيل : المراد بالنجم الشِّعْرَى ؛ لقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعرى } . وقيل : الزهرة ؛ لأنها كانت تُعْبَدُ . وقيل : أراد بالنجم القرآن ، لأنه نزل نجوماً متفرقاً في عشرين سنة . وسمي التفريق تنجيماً والمفرق منجماً . قاله الكلبي ورواه عطاء عن ابن عباس . والهويُّ النزول من أعلى إلى أسفل . وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له{[53343]} ومنه قوله - عَزَّ وجَل - { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } . وهُوِيُّهُ سقوطه على الأرض . وقال جعفر الصادق : يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - إِذ نزل من السماء ليلة المعراج . والهويُّ النزول ، يقال هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا{[53344]} . والكلام في قوله : «والنجم » كالكلام في قوله : «والطُّورِ » حيث لم يقل : وَالنُّجُوم{[53345]} ولا الأَطْوَار وقال : { والذاريات } [ الذاريات : 1 ] { والمرسلات }{[53346]} [ المرسلات : 1 ] كما تقدم .
السور التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأشياء دون الحروف هي «الصَّافَّات » ، و«الذَّارِيَات » و«الطُّور » وهذه السورة بعدها فالأولى أن يقسم لإثبات الوحدانية كما قال : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } [ الصافات : 4 ] وفي الثانية أقسم لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 5 و6 ] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } [ الطور : 7 و8 ] وفي هذه أقسم لإثبات النبوة لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية ، والحشر ، والنبوة .
واعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً ، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة واحدة وهي «وَالصَّافَّاتِ » ، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة ( وَالضُّحَى ) وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فقال : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { والسماء ذَاتِ البروج } [ البروج : 1 ] إلى غير ذلك وكلها في الحشر أو ما يتعلق به ، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل :
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ الوَاحِدُ
ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة وأما الحشر ووقوعه فلا يمكن إثباته إلاَّ بالسمع فأكثر فيه القسم ليقطع بها المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً .
قال ابن الخطيب : والفائدة في تقييد القسم به بوقت هويه إذا كان في وسط السماء بعيداً عن الأرض لا يهتدي إليه{[53347]} السَّارِي لأنه لا يعلم به المَشْرِق من المَغْرِب ولا الجنوب من الشّمال . فإِذا زال عن وسط السماء تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب عن الشمال . وخص الهويَّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا كما قال الخليل - عليه الصلاة والسلام - { لا أُحِبُّ الآفلين } [ الأنعام : 76 ] . وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه وقد كان منهم من يعبده فنبه بهُوِيِّه على عدم صلاحيته للإِلهيَّة بأُفُولِهِ .
أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى ، أما لفظاً فقوله : «وَإِدْبَارَ النُّجُومِ » وافتتح هذه بالنجم مع واو القسم ، وأما معنًى فلأنه تعالى لما قال لنبيه : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النجوم } بين له أنه ( جزأه في أجزاء{[53348]} مكابدة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم ) وبعده ( عما لا يجوز له ) {[53349]} فقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى }{[53350]} .
قوله : «إذَا هَوَى » في العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كل منها إِشْكَال .
أحدها : أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره : أُقْسِمُ بالنجم وقْتَ هُويه . قاله أبو البقاء{[53351]} . وهو مشكِل ؛ فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال و«إذا » لما يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان ؟ ! .
الثاني : أن العامل فيه مقدر على أنه حال من ( النَّجْمِ ) أقْسَمَ به حال كونه مستقراً في زمان هُوِيِّهِ . وهو مشكلٌ من وجهين :
أحدهما : أن النجم جثّة والزمان لا يكون حالاً كما لا يكون خبراً .
والثاني : أن ( إِذَا ) للمستقبل فيكف يكون حالاً ؟ ! .
وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنَّجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجماً في عشرين سنة . وهذا تفسير عن ابن عباس وعن غيره .
الثالث : أن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن{[53352]} . قاله أبو البقاء . وفيه نَظَرٌ ؛ لأن القرآن لا يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص . وقد يقال : إِنَّ النجم بمعنى المنجَّمِ كأنه قيل والقرآن المُنَجَّم في هَذَا الوَقْتِ .
وهذا البحث وارد في مواضع منها : { والشمس وَضُحَاهَا } وما بعده [ الشمس : 1 - 5 ] وقوله : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1 و 2 ] وسيأتي في الشمس بحث أخص من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى{[53353]} . والهوِيُّ{[53354]} قال الراغب : سقوطٌ من عُلوٍّ ثم قال : «والهَوِيُّ ذهاب في انحدار والهُوِيّ ذهاب في ارْتفاع »{[53355]} ، وأنشد :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَهْوِي مَخَارِمُهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ{[53356]}
وقيل : هَوَى في اللغة خرق الهواء ، ومقصده السّفْل أو مصيره إليه وإن لم يقْصِدْه قال - ( رحمةُ اللَّهِ عليه{[53357]} - ) :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ{[53358]}
وقال أهل اللغة : هَوَى يَهْوِي هُويًّا أي سقط من علُوٍّ ، وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى أي صَبَا . وقد تقدم الكلام في هذا مُشبعاً .