اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النجم مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية وهي قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } الآية . وهي إحدى وستون آية . وقيل : إن السورة مدنية . والصحيح أنها مكية لقول ابن مسعود : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . وقيل : اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف{[1]} .

بسم الله الرحمان الرحيم

قوله تعالى : { والنجم إِذَا هوى } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[53333]} في رواية الوالبيِّ العَوْفِيِّ يعني الثُّرَيَّا إذَا سقطت وغابت . وهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ{[53334]} . والعرب تسمي «الثُّرَيَّا » نَجْماً قال قائلهم :

إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَا *** ابْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَا{[53335]}

وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً : مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطّ وَفِي الأَرْضِ مِنَ العَاهَةِ شَيْءٌ إِلاَّ رُفِعَ{[53336]} .

وأراد بالنجم الثريا . قال شهاب الدين : وهذا هو الصحيح لأن هذا صار علماً بالغلبة ومنه قول العرب :

طَلَعَ النَّجْم غُدَيَّهْ *** فَابْتَغَى الرَّاعِي كُسَيَّهْ{[53337]}

وقال عمر بن أبي ربيعة :

أحْسَنُ النَّجْم فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا *** وَالثُّرَيَّا فِي الأَرْضِ زَيْنُ النِّسَاءِ{[53338]}

يقال : إنها سبعة أنجم ستةٌ منها ظاهرة وواحدٌ خفي يمتحن الناس به أبصارهم . وروى القاضي عِياضٌ في «الشِّفا » أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى الثريا أحد عشر نجماً . وقال مجاهد : هي نجوم السماء كلها حين تغرب . لفظه واحد ومعناه الجمع . سمي الكوكب نجماً لطلوعه ، وكل طالع نجم ، يقال : نَجَم السِّنُّ والقَرْن والنَّبْتُ إذا طَلَعَ . وروى عكرمة عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) {[53339]} - أنها ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع . وقال أبو حمزة{[53340]} الثُّماليُّ : هي النجوم إِذا اسْتَتَرَتْ يوم القيامة . وقيل المراد بالنجم هنا الجِنْس .

قال الشاعر - ( رحمة الله{[53341]} عليه - ) :

فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْم فِي مُسْتَحِيرَةٍ *** سَرِيع بِأَيْدِي الآكِلينَ جُمُودُهَا{[53342]}

أي تَعُدُّ النجوم . وهذا هو معنى قول مجاهد المتقدم . وقيل : المراد بالنجم الشِّعْرَى ؛ لقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعرى } . وقيل : الزهرة ؛ لأنها كانت تُعْبَدُ . وقيل : أراد بالنجم القرآن ، لأنه نزل نجوماً متفرقاً في عشرين سنة . وسمي التفريق تنجيماً والمفرق منجماً . قاله الكلبي ورواه عطاء عن ابن عباس . والهويُّ النزول من أعلى إلى أسفل . وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له{[53343]} ومنه قوله - عَزَّ وجَل - { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } . وهُوِيُّهُ سقوطه على الأرض . وقال جعفر الصادق : يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - إِذ نزل من السماء ليلة المعراج . والهويُّ النزول ، يقال هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا{[53344]} . والكلام في قوله : «والنجم » كالكلام في قوله : «والطُّورِ » حيث لم يقل : وَالنُّجُوم{[53345]} ولا الأَطْوَار وقال : { والذاريات } [ الذاريات : 1 ] { والمرسلات }{[53346]} [ المرسلات : 1 ] كما تقدم .

فصل

السور التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأشياء دون الحروف هي «الصَّافَّات » ، و«الذَّارِيَات » و«الطُّور » وهذه السورة بعدها فالأولى أن يقسم لإثبات الوحدانية كما قال : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } [ الصافات : 4 ] وفي الثانية أقسم لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 5 و6 ] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } [ الطور : 7 و8 ] وفي هذه أقسم لإثبات النبوة لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية ، والحشر ، والنبوة .

واعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً ، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة واحدة وهي «وَالصَّافَّاتِ » ، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة ( وَالضُّحَى ) وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فقال : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { والسماء ذَاتِ البروج } [ البروج : 1 ] إلى غير ذلك وكلها في الحشر أو ما يتعلق به ، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل :

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ الوَاحِدُ

ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة وأما الحشر ووقوعه فلا يمكن إثباته إلاَّ بالسمع فأكثر فيه القسم ليقطع بها المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً .

فصل

قال ابن الخطيب : والفائدة في تقييد القسم به بوقت هويه إذا كان في وسط السماء بعيداً عن الأرض لا يهتدي إليه{[53347]} السَّارِي لأنه لا يعلم به المَشْرِق من المَغْرِب ولا الجنوب من الشّمال . فإِذا زال عن وسط السماء تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب عن الشمال . وخص الهويَّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا كما قال الخليل - عليه الصلاة والسلام - { لا أُحِبُّ الآفلين } [ الأنعام : 76 ] . وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه وقد كان منهم من يعبده فنبه بهُوِيِّه على عدم صلاحيته للإِلهيَّة بأُفُولِهِ .

فصل

أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى ، أما لفظاً فقوله : «وَإِدْبَارَ النُّجُومِ » وافتتح هذه بالنجم مع واو القسم ، وأما معنًى فلأنه تعالى لما قال لنبيه : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النجوم } بين له أنه ( جزأه في أجزاء{[53348]} مكابدة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم ) وبعده ( عما لا يجوز له ) {[53349]} فقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى }{[53350]} .

قوله : «إذَا هَوَى » في العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كل منها إِشْكَال .

أحدها : أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره : أُقْسِمُ بالنجم وقْتَ هُويه . قاله أبو البقاء{[53351]} . وهو مشكِل ؛ فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال و«إذا » لما يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان ؟ ! .

الثاني : أن العامل فيه مقدر على أنه حال من ( النَّجْمِ ) أقْسَمَ به حال كونه مستقراً في زمان هُوِيِّهِ . وهو مشكلٌ من وجهين :

أحدهما : أن النجم جثّة والزمان لا يكون حالاً كما لا يكون خبراً .

والثاني : أن ( إِذَا ) للمستقبل فيكف يكون حالاً ؟ ! .

وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنَّجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجماً في عشرين سنة . وهذا تفسير عن ابن عباس وعن غيره .

وعن الثاني بأنها حال مقدرة .

الثالث : أن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن{[53352]} . قاله أبو البقاء . وفيه نَظَرٌ ؛ لأن القرآن لا يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص . وقد يقال : إِنَّ النجم بمعنى المنجَّمِ كأنه قيل والقرآن المُنَجَّم في هَذَا الوَقْتِ .

وهذا البحث وارد في مواضع منها : { والشمس وَضُحَاهَا } وما بعده [ الشمس : 1 - 5 ] وقوله : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1 و 2 ] وسيأتي في الشمس بحث أخص من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى{[53353]} . والهوِيُّ{[53354]} قال الراغب : سقوطٌ من عُلوٍّ ثم قال : «والهَوِيُّ ذهاب في انحدار والهُوِيّ ذهاب في ارْتفاع »{[53355]} ، وأنشد :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَهْوِي مَخَارِمُهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ{[53356]}

وقيل : هَوَى في اللغة خرق الهواء ، ومقصده السّفْل أو مصيره إليه وإن لم يقْصِدْه قال - ( رحمةُ اللَّهِ عليه{[53357]} - ) :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ{[53358]}

وقال أهل اللغة : هَوَى يَهْوِي هُويًّا أي سقط من علُوٍّ ، وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى أي صَبَا . وقد تقدم الكلام في هذا مُشبعاً .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[53333]:زيادة من (أ).
[53334]:البغوي المرجع السابق.
[53335]:نُقل في البحر لأبي حيان 8/157.
[53336]:لم أجده في كتب الحديث الصحاح وقد نقله البغوي في تفسيره، المرجع السابق.
[53337]:أبو حيان، المرجع السابق. وهو من الرّمَل مجهول قائله.
[53338]:من الخفيف له. والشاهد فيه أن الثريا تطلق على النجم فالنجم لفظ مفرد ومعناه جمع. والبيت لم أجده بديوان عمر. وانظر القرطبي 17/82 وفتح القدير 5/104.
[53339]:زيادة من (أ).
[53340]:ثابت بن أبي صفية الثُّمالي أبو حمزة رافضي من الخامسة. مات في خلافة أبي جعفر. وانظر تقريب التهذيب 1/116.
[53341]:زيادة من (أ).
[53342]:من الطويل للراعي. والمستحيرة الجفنة الممتلئة وقوله: "سريع" يريد أن الوقت كان وقت الشتاء فكان يجمد دسمه على أيدي الآكلين وهو يقول: نظرت في هذه الجفنة فرأيت فيها النجوم لعظمها. والشاهد في النجم وهو يريد جنس النجوم. وانظر البحر 8/157 والقرطبي 17/82 والكشاف 4/27 وشرح شواهده 388 وروح المعاني 27/44 ومجمع البيان 9/260 واللسان "نجم"، والديوان 92.
[53343]:لم أجده في المعاني له عند هذه الآية ونقله عنه البغوي في تفسيره 6/255 والقرطبي أيضا 17/83.
[53344]:البغوي والقرطبي السابقين أيضا.
[53345]:حيث أراد الجنس.
[53346]:انظر البغوي السابق ثم الرازي 28/279.
[53347]:في (ب) به.
[53348]:ما بين القوسين بياض في النسختين وتكملة من الرازي.
[53349]:ما بين القوسين هذين وجد في النسختين ولم يوجد في الرازي.
[53350]:وانظر تفسير الرازي 28/277، 279.
[53351]:التبيان 1186.
[53352]:التبيان المرجع السابق.
[53353]:عند قوله تعالى: "والقمر إذا تلاها" من الآية الثانية من الشمس. وقد استقى المؤلف ذلك من كلام أبي حيان في البحر 8/480، إلا أنه برّر وخرج قول أبي البقاء وهو قوله: إن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن.
[53354]:ضبطها ابن بري نقلاً عن صاحب اللسان بالفتح فقط –فتح الهاء بينما أجيز فيها الفتح والضمّ عن كثير وانظر اللسان هوى 4727.
[53355]:المفردات له (هوى) 548.
[53356]:عجز بيت من الكامل لأحد الهُذليّين صدره: وإذا رأيت به الفِجاج رأيته *** ..................... والفجاج جمع الفجّ وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين، والأجدَل الصّقر، والمخارم جمع مخرَم أفواه الفجاج وهو يشبه فرسا بالصقر أي إذا سرّت به في فجاج الأرض رأيته يهوي –وهو محل الشاهد- أي يسقط من أفواه الفجاج هويّ الصقر أي سقوطه. وانظر مجمع البيان للطبرسي 9/259 والمفردات السابق 548.
[53357]:زيادة من (أ).
[53358]:عجز بيت من الوافر لزهير صدره: فشجّ بها الأماعز وهي تهوي *** ...................... وشج: علا. والبيت في وصف عير وأقتِه. يقول: لما وجد العير أن قد انقطع ماؤها انتقل عنها إلى غيرها فجعل يعلو بالأتن الأماعز وهي حزون الأرض الكثيرة الحصى. وشاهده في أن الهوي هو خرق الهواء، وانظر اللسان ""هوى" 4727 والقرطبي 17/83.