قوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } .
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : قل : سورة النَّضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - صلوات الله وسلامه عليه - نزلوا ب «المدينة » في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما نصّ عليه{[55820]} .
قوله : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } يجوز أن تكون «من » للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أي : أعني من أهل الكتاب . والثاني : أنها حال من «الَّذين كفروا » .
وقوله تعالى : { مِن دِيَارِهِمْ } متعلق ب «أخرج » ، ومعناها : ابتداء الغاية ، وصحت إضافة الديار إليهم ؛ لأنهم أنشئوها{[55821]} .
قوله : { لأَوَّلِ الحشر }هذه اللاَّم متعلقة ب «أخرج » وهي لام التوقيت ، كقوله تعالى : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي : عند أول الحشر .
وقال الزمخشري{[55822]} : وهي كاللام في قوله تعالى :{ يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }[ الفجر : 24 ] ، وقوله : «جئت لوقت كذا » وسيأتي الكلام على هذه «اللام » في سورة «الفجر » إن شاء الله تعالى .
قال القرطبي{[55823]} : «الحشر » : الجمع ، وهو على أربعة أضرب :
حشران في الدنيا وحشران في الآخرة .
أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } .
قال الزهري : كانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء ، وكان الله - عز وجل - قد كتب عليهم الجلاء ، فلولا ذلك لعذّبهم في الدنيا ، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى «الشام » .
قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن المحشر في «الشام » فليقرأ هذه الآية{[55824]} .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : «اخْرُجُوا » قالوا : إلى أين ؟ قال : «إلى أرْضِ المَحْشَرِ » .
قال قتادة رضي الله عنه : هذا أول المحشر{[55825]} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أول من حشر من أهل الكتاب ، وأخرج من دياره{[55826]} .
وقيل : إنهم أخرجوا إلى «خيبر » ، وإن معنى «لأول الحشر » : إخراجهم من حصونهم إلى «خيبر » ، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من «خيبر » إلى «نجد » و«أذرعات » .
وقيل : «تيماء » و«أريحاء » ، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم .
وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة ، قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيلُ معهم حيث قالوا ، وتأكل من تخلف منهم ، وهذا ثابت في الصحيح{[55827]} . وذكروا أن تلك النَّار ترى بالليل ، ولا ترى بالنهار .
قال ابن العربي{[55828]} : للحشر أول ووسط ، وآخر .
وعن الحسن : هم بنو قريظة{[55829]} ، وخالفه بقية المفسرين ، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي .
فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم :
قال إلكيا الطَّبري : ومُصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن ، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نُسِخَ ، والآن فلا بد من قتالهم ، أو سبيهم ، أو ضرب الجزية عليهم .
قوله تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي : لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم .
وقوله تعالى : { وظنوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم{[55830]} .
قيل : المراد بالحصون : الوطيح والنَّطاة والسُّلالم والكتيبة{[55831]} .
قوله : { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم } . فيه وجهان{[55832]} :
أحدهما : أن تكون «حُصُونهم » مبتدأ ، و«مَانِعتهم » خبر مقدم ، والجملة خبر «أنهم » . لا يقال : لم لا يقال : «مَانعَتُهُم » مبتدأ ، لأنه معرفة ، و«حصونهم » خبره ، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير ؟ لأن القصد الإخبار عن الحُصُون ، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة .
الثاني : أن تكون «مانعتهم » خبر «أنهم » و«حصونهم » فاعل به ، نحو : إن زيداً قائم أبوه ، وإن عمراً قائمة جاريته . وجعله أبو حيان{[55833]} أولى ؛ لأن في نحو : «قائم زيد » على أن يكون خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً ، خلافاً ، الكوفيون يمنعونه ، فمحل الوفاق أولى .
قال الزمخشري{[55834]} : «فإن قلت : فأي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم ، أو «مانعتهم » ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ .
قلت : بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وُثُوقهم ، ومنعها إياهم ، وفي تغيير ضميرهم اسماً ل «أن » ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم ، وليس ذلك في قولك : حصونهم تمنعهم » . انتهى .
وهذا الذي ذكره إنَّما يتأتى على الإعراب الأول ، وقد تقدم أنه مرجوح .
وتسلط الظن هنا على «أن » المشددة ، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل «علم » وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته ، وأنه بمنزلة العلم .
وقوله : { مِّنَ الله } أي : من أمره .
قوله تعالى : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } .
قال الزمخشري{[55835]} : قرئ «فأتاهم الهلاك » أي : أتاهم أمره وعذابه { من حيث لم يحتسبوا } ، أي : لم يظنوا ، وقيل : من حيث لم يعلموا{[55836]} .
وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح : «من حيث لم يحتسبوا : بقتل كعب بن الأشرف ، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها »{[55837]} .
وقيل : الضمير في «فأتاهم الله » يعود إلى المؤمنين ، أي : فأتاهم نصرُ الله وتقويته [ لا ] يمنعهم شيء منها{[55838]} .
قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وخبره مشهور في السيرة .
قال أهل اللغة : «الرُّعْبُ » : الخوف الذي يرعب الصُّدور ، أي : يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه ، ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنه قذف اللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه .
وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى ، لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرُّعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال ، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب ، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى ، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله - تعالى - بهذا الطريق{[55839]} .
قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم } يجوز أن يكون مستأنفاً للإخبار به ، وأن يكون حالاً من ضمير «قلوبهم » ، وليس بذاك{[55840]} .
وقرأ أبو عمرو : «يُخَرِّبُونَ »{[55841]} بالتشديد ، وباقيهم : بالتَّخفيف . وهما بمعنى ؛ لأن «خرَّب » عدَّاه أبو عمرو بالتضعيف ، وهم بالهمزة .
وعن أبي عمرو : أنه فرق بمعنى آخر ، فقال : «خرّب » - بالتشديد - هدم وأفسد ، و«أخرب » - بالهمزة - ترك الموضع خراباً ، وذهب عنه ، وهو قول الفرَّاء .
قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً .
و«يُخْرِبُونَ » من خرب المنزل وأخربه صاحبه ، كقوله : «عَلِمَ وأعْلَمَ ، وقَامَ وأقَامَ » .
وإذا قلت : «يخربون بيوتهم » من التخريب فإنما هو تكثير ؛ لأن ذكر «بيوتاً » تصلح للتقليل والتكثير{[55842]} .
وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام ، فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو : «فرحته وأفرحته » .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأخْرَبْتَ مِنْ أرْضِ قَوْمٍ دِيَارا{[55843]}
واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التَّكثير{[55844]} .
ويجوز أن يكون «يخربون » تفسيراً للرُّعب فلا محلَّ له أيضاً .
قال أبو عمرو : وإنما اخترت التشديد ؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن ، وبنو النضير لم يتركوها خراباً ، وإنما خرَّبوها بالهدم{[55845]} ، ويؤيده قوله تعالى : { بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } .
قال قتادة والضحاك رحمهما الله تعالى : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم{[55846]} .
وقال مقاتل : إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزِقَّة ، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب{[55847]} .
وقيل : إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه ، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم .
وقيل : إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء ، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه ، أو الباب فيهدمون بيوتهم ، وينزعونها ، ويحملونها على الإبل .
فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين ؟ .
قلت : لما عرضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه ، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم{[55848]} .
وقال الزهري : «يخربون بيوتهم » بنقض المواعدة ، «وأيدي المؤمنين » بالمقاتلة .
وقال أبو عمرو بن العلاء : «بأيديهم » في تركهم لها ، «وأيدي المؤمنين » في إجلائهم عنها .
قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، والاعتبار : مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً ؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ ، وسمي علم التعبير ؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع .
ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه .
ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها{[55849]} .
وقوله عز وجل : { يا أولي الأبصار } . ، قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر{[55850]} .
قال الفراء : أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر .
ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله ، فأنزلهم الله - تعالى - منها ، وسلط عليهم من كان ينصرهم ، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه{[55851]} .