اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } .

أي : هيئاتهم ، ومناظرهم ، { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } يعني : عبد الله بن أبي وقال ابن عباس : كان عبد الله بن أبي وسيماً جسيماً صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان ، فإذا قال ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ، وصفه الله بتمامِ الصُّورةِ وحسن الإبانةِ{[56740]} .

وقال الكلبي : المراد ابن أبي وجدُّ بن قيس ومعتِّب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة{[56741]} .

وفي صحيح مسلم : وقوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } . كانوا رجالاً [ أجمل ]{[56742]} شيء كأنهم خشبٌ مسنَّدةٌ شبههم بخشب مسندة إلى الحائطِ لا يسمعون ولا يعقلون أشباحٌ بلا أرواحٍ ، وأجسامٌ بلا أحلامٍ{[56743]} .

وقيل : شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها{[56744]} .

قال الزمخشري{[56745]} : شبهوا في استنادهم بالخشب المسندة إلى حائط ؛ لأنهم أجرام خاليةٌ عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط ، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار ، أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به فأسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع ، ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان .

فصل في قراءة خشب

قرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي{[56746]} : «خُشْبٌ » بإسكان الشين . وهي قراءة البراء بن عازب ، واختيارُ عُبيدٍ .

لأنَّ واحدتها خشبة كما تقول : بدنة وبُدْن . قاله الزمخشري{[56747]} .

وقال أبو البقاء{[56748]} : و «خُشبٌ » - بالإسكان والضم - جمع خَشَب ، مثل : أَسَد وأُسْد .

قال القرطبي{[56749]} : وليس في اللغة : «فَعَلَة » يجمع على «فُعُل » ، ويلزم من ثقلها أن تقول : «البُدُن » فتقرأ : «والبُدُنَ » ، وذكر اليزيدي أنه جمع الخشباءِ ، كقوله تعالى : { وَحَدَائِقَ غُلْباً }[ عبس : 30 ] واحدتها : حديقة غلباء .

وقرأ الباقون من السبعة : بضمتين .

وقرأ سعيد بن جبير{[56750]} ، وابن المسيب : بفتحتين .

ونسبها الزمخشري لابن عبَّاس ، ولم يذكر غيره{[56751]} .

فأما القراءة - بضمتين - فقيل : يجوز أن تكون جمع خشبة ، نحو : ثمرة وثُمُر . قاله الزمخشري{[56752]} .

وفيه نظر ؛ لأن هذه الصيغة محفوظة في «فَعَلَة » لا ينقاس نحو : ثَمَرَة وثُمُر .

ونقل الفارسي عن الزبيدي : «أنه جمع : خَشْبَاء ، وأخْشِبَة » غلط عليه ؛ لأنه قد يكون قال : «خُشْب » - بالسكون - جمع «خَشْبَاء » نحو : «حَمْرَاء وحُمْر » لأن «فَعْلاء » الصفة لا تجمع على «فُعُل » بضمتين ، بل بضمة وسكون .

وقوله : الزبيدي ، تصحيف ، إما منه ، وإما من الناسخ ، إنما هو اليزيدي تلميذ أبي عمرو بن العلاء ، ونقل ذلك الزمخشري{[56753]} .

وأما القراءة بضمة وسكون .

فقيل : هي تخفيف الأولى .

وقيل : هي جمع خشباء ، كما تقدم .

وهي الخشبة التي نُخِر جوفها ، أي : فرغ ، شبهوا بها لفراغ بواطنهم مما ينتفع به{[56754]} .

وأما القراءة - بفتحتين - فهو اسم جنس ، وأنِّثَتْ صفته ، كقوله : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }[ الحاقة : 7 ] وهو أحد الجائزين .

وقول : «مُسَنَّدَةٌ » .

تنبيه على أنه لا ينتفعُ بها كما ينتفعُ بالخشب في سقفٍ وغيره ، أو شبهوا بالأصنام ؛ لأنهم كانوا يسندونها إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم{[56755]} .

وقيل : شُبِّهُوا بالخشب المُسنَّدةِ إلى الحائط ، لأن الخشبة المسنَّدة إلى الحائط أحدُ طرفيها إلى جهة ، والآخرُ إلى جهة أخرى .

والمنافق كذلك لأن أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر ، والطرف الآخر وهو الظاهرُ إلى جهة أهلِ الإسلام .

ونقل القرطبي{[56756]} عن سيبويه أنه يقال : «خَشَبةٌ وخِشَابٌ وخُشُبٌ » مثل : ثَمَرة وثِمَار وثُمُر ، والإسناد : الإمالة ، تقول : أسندتُ الشيء أي : أملته ، و «مُسَنَّدةٌ » للتكثير ، أي : استندوا إلى الإيمان لحقن دمائهم .

قوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } .

فيه وجهان{[56757]} :

أظهرهما : أن «عليهم » هو المفعول الثاني للحسبان ، أي واقعة وكائنة عليهم ويكون قوله : { هُمُ العدو } جملة مستأنفة ، أخبر الله عنهم بذلك .

والثاني : أن يكون «عليهم » متعلقاً ب «صَيحةٍ » و «هُمُ العَدُوُّ » جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان .

قال الزمخشري{[56758]} : «ويجوز أن يكون " هُمُ العَدُوُّ " هو المفعولُ الثَّاني كما لو طرحت الضمير .

فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدُوُّ ، قلت : منظور فيه إلى الخبر كما في قوله : { هذا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] ، وأن يقدر مضافٌ محذوفٌ أي : يحسبون كل أهلِ صيحةٍ » انتهى .

وفي الثاني بعد بعيد .

فصل

وصفهم الله تعالى بالجُبْنِ والخَوَر .

قال مقاتل والسدي : إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالّة ظنوا أنهم هم المرادون ، لما في قلوبهم من الرعب{[56759]} .

كما قال الأخطل : [ الكامل ]

4773 - مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ***خَيْلاً تكرُّ عَليْهِمُ ورِجَالا{[56760]}

وقيل : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ } ، أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم ؛ لأن للريبة خوفاً ، استأنف الله خطاب نبيه - عليه الصلاة والسلام - فقال : «هم العَدُوُّ » وهذا معنى قول الضحاك{[56761]} .

وقيل : يَحْسَبُونَ كُلَّ صيحةٍ يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم ، فهم أبداً وجلُون من أن ينزل الله فيهم أمراً يبيح به دماءهم ، ويَهْتِكُ به أسْتارهُم ، ثم وصفهم الله بقوله { هُمُ العدو فاحذرهم } حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم{[56762]} .

قوله : { فاحذرهم } . فيه وجهان{[56763]} :

أحدهما : فاحذر أن تثق بقولهم ، أو تميل إلى كلامهم .

الثاني : فاحذر ممايلتهُم لأعدائك ، وتخذيلهم لأصحابك .

{ قَاتَلَهُمُ الله } .

قال ابن عباس : أي : لعنهم الله{[56764]} .

قال أبو مالك : هي كلمةُ ذمٍّ وتوبيخ .

وقد تقول العرب : قاتله اللَّه ما أشعرهُ ، فيضعونه موضع التعجب .

وقيل : معنى { قَاتَلَهُمُ الله } أي : أحلَّهُم محلَّ من قاتله عدو قاهر ، لأن الله تعالى قاهرٌ لكلِّ معاندٍ . حكاه ابن عيسى{[56765]} .

قوله : { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } .

«أنى » بمعنى : كيف .

قال ابن عطية{[56766]} : ويحتمل أن يكون «أنى » ظرفاً ل «قاتلهم » ، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا ، أو صرفوا ، فلا يكون في القولِ استفهام على هذا . انتهى .

قال شهاب الدين{[56767]} : وهذا لا يجوز ؛ لأن «أنَّى » إنما تستعمل بمعنى «كيف » ، أو بمعنى «أين » الشرطية أو الاستفهامية ، وعلى التقادير الثلاثة فلا تتمحض للظرف ، فلا يعمل فيها ما قبلها ألبتَّة كما لا يعملُ في أسماءِ الشرط والاستفهام .

فصل

قال ابن عباس : «أنَّى يؤفكُونَ » أي : يكذبون{[56768]} .

وقال قتادة : أي يعدلون عن الحق{[56769]} .

وقال الحسن : يُصْرفُونَ عن الرشدِ{[56770]} .

وقيل : معناه كيف تضل عقولهم على هذا مع وضوح الدَّلائل ، وهو من الإفك .

قوله : «أنَّى » بمعنى : «كيف » ، وقد تقدم{[56771]} .


[56740]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/348) والدارقطني (18/81).
[56741]:ينظر تفسير القرطبي (18/81).
[56742]:في أ: أكمل.
[56743]:أخرجه مسلم 4/214 في صفات المنافقين (1-2772) من حديث زيد بن أرقم.
[56744]:ينظر: القرطبي (18/82).
[56745]:ينظر: الكشاف 4/540.
[56746]:ينظر: السبعة 636، والحجة 6/291، وإعراب القراءات 2/367، وحجة القراءات 709، والعنوان 191، وشرح شعلة 603، وإتحاف 2/539.
[56747]:الكشاف 4/540.
[56748]:ينظر: الإملاء 2/1224.
[56749]:الجامع لأحكام القرآن 18/82.
[56750]:ينظر: المحرر الوجيز 5/312، والبحر المحيط 8/268، والدر المصون 6/320.
[56751]:ينظر الكشاف 4/540.
[56752]:السابق.
[56753]:ينظر: السابق، والدر المصون 6/320.
[56754]:ينظر: الدر المصون 6/320.
[56755]:ينظر: السابق، والكشاف 4/540.
[56756]:الجامع لأحكام القرآن 18/82.
[56757]:ينظر: الدر المصون 6/320، 321.
[56758]:الكشاف 4/541.
[56759]:ينظر: القرطبي 18/82.
[56760]:غير موجود في ديوان الأخطل وإنما هو لجرير بن عطية. ينظر شرح ديوان جرير ص 543، وكذا نسبه أبو حيان في البحر 8/268 ونسبه الزمخشري والقرطبي إلى الأخطل ينظر الكشاف 4/109، وشرح شواهده ص 505، والقرطبي 18/82.
[56761]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/82).
[56762]:ينظر تفسير ابن أبي حاتم مخطوط.
[56763]:ينظر: القرطبي (18/82).
[56764]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/16) وينظر المصدر السابق.
[56765]:ينظر القرطبي 18/82.
[56766]:المحرر الوجيز 5/313.
[56767]:الدر المصون 6/321.
[56768]:ينظر القرطبي 18/82.
[56769]:ينظر المصدر السابق.
[56770]:ينظر المصدر السابق.
[56771]:ينظر: القرطبي18/82.