فقال : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه } .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : يُريد بالحسنةِ : العُشْبَ ، والخصب ، والمواشي ، والثَّمار وسعة الرزق ، والعافية ، أي : نحن أهلها ومستحقُّها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق{[16723]} النِّعمة . { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قَحْط وجدْب وبلاء ومرض : { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } أي : يتشاءمُوا بموسى ، ومن معه ، ويقولُوا : إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه .
قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ : كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً ، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط{[16724]} .
أتى في جانب الحَسَنَة ب " إذا " الَّتي للمحقق ، وعُرِّفَتِ الحسنة ، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى ، ولأنَّها أمر محبوبٌ ، كلُّ أحدٍ يتمناه ، وأتى في جانب السيئة ب " إن " التي للمشكوك فيه ، ونُكِّرتِ السيئة ، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره . وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : فإن قلت : كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمْ الحسنةُ ب " إذا " وتعريفُ الحسنة و { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ب " إن " وتنكير السيئة ؟
قلت : لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب ، لكثرته واتِّساعه ، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ ، ولا يقع إلاَّ شيء منها ، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ .
قوله " يَطَّيَّرُوا " الأصْلُ : " يتطيَّروا " فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ ، لمقاربتها لها .
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ{[16725]} : وطلحةُ بنُ مصرف " تَطَيَّروا " بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ . إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً ، والجزاء ماضياً إلاَّ ضرورةً ، كقوله : [ الخفيف ]
مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّئ كُنْتُ مِنْهُ *** كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ{[16726]}
إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً *** مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا{[16727]}
وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك . والتَّطير : التَّشاؤُم ، وأصلُهُ ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه ، ثمَّ أطلق على الحَظِّ ، والنَّصيب السَّيِّئ بالغَلبَةِ .
تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً *** وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ{[16728]}
الأشْرَاكَ جمع شِرْكٍ ، وهو النَّصيب . أي : طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ : أي : الرِّئاسة للذكر ، فهذا معناه : تَفَرَّق ، وصار لكُل أحد نصيبُه ، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ ، ثم غلبَ على ما ذكرناه .
قوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } أي حَظُّهم ، وما طار لهم في القضاء والقدر ، أو شؤمهم أي : سبب شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم .
قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله ، أي من قِبَل الله ، أي : إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ .
قال الفَرَّاءُ : وقد تَشَاءَمَت اليهود بالنبي - عليه السلام – ب " المدينة " ، فقالوا : غَلَتْ أسْعَارُنَا ، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا ، وكثرت أمواتنا .
ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة ، فقال : " لا طيرة ولا هامة " - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ .
وأصل الفَألِ : الكلمة الحسنة ، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفَألَ ، وأبطل الطِّيرةَ . والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية ، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها ؛ بخلاف طيرانِ الطير ، وحَرَكَاتِ البهائم ، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة ، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال ، ثم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ أي ] : أن الكل من الله تعالى ؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الأسبابِ المحسوسة ، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدره ، والحق أن الكل من الله ؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، والواجب لِذَاتِهِ واحد ، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته ، فكان الكل من الله - تعالى - ، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى .
قال الأزهريُّ{[16729]} : قيل للشُّؤم طائر وطير ، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها ، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها .
قال القُرْطُبِيُّ : وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلَ مَنْ تشاءم : تَطّيَّر . وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ : وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءم بالبَارحِ : وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ . وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن ، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور ، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك .
ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْا صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته ، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة ، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة ، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة ، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله ، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها .
فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان ، وعلى أيّ حال كان ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : " أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا " وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته ، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم ، وإن أخذت شمالاً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم ، فنهى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله " أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا " . هكذا في الحديث .
وأهل العربيَّة يقولون : " وكناتِهَا " ، والوكْنَةُ : اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ . والوَكْنُ : اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ ، وهُو الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ .
ويقال : وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ{[16730]} وَكْناً ووكُوناً : دخل في الوَكْنِ ، ووكن بَيْضَهُ ، وعليه : حضنه ، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ .
وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ{[16731]} " .
قيل : وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ .
قال : " أنْ يقُولَ أحَدُكم : اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ ، وَلاَ إله غَيرُك ، ثُمَّ يمضي إلى حاجته " {[16732]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.