اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِۦۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓۗ أَلَآ إِنَّمَا طَـٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (131)

فقال : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه } .

قال ابْنُ عبَّاسٍ : يُريد بالحسنةِ : العُشْبَ ، والخصب ، والمواشي ، والثَّمار وسعة الرزق ، والعافية ، أي : نحن أهلها ومستحقُّها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق{[16723]} النِّعمة . { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قَحْط وجدْب وبلاء ومرض : { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } أي : يتشاءمُوا بموسى ، ومن معه ، ويقولُوا : إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه .

قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ : كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً ، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط{[16724]} .

فصل

أتى في جانب الحَسَنَة ب " إذا " الَّتي للمحقق ، وعُرِّفَتِ الحسنة ، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى ، ولأنَّها أمر محبوبٌ ، كلُّ أحدٍ يتمناه ، وأتى في جانب السيئة ب " إن " التي للمشكوك فيه ، ونُكِّرتِ السيئة ، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره . وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : فإن قلت : كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمْ الحسنةُ ب " إذا " وتعريفُ الحسنة و { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ب " إن " وتنكير السيئة ؟

قلت : لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب ، لكثرته واتِّساعه ، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ ، ولا يقع إلاَّ شيء منها ، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ .

قوله " يَطَّيَّرُوا " الأصْلُ : " يتطيَّروا " فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ ، لمقاربتها لها .

وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ{[16725]} : وطلحةُ بنُ مصرف " تَطَيَّروا " بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ . إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً ، والجزاء ماضياً إلاَّ ضرورةً ، كقوله : [ الخفيف ]

مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّئ كُنْتُ مِنْهُ *** كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ{[16726]}

وقوله : [ البسيط ]

إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً *** مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا{[16727]}

وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك . والتَّطير : التَّشاؤُم ، وأصلُهُ ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه ، ثمَّ أطلق على الحَظِّ ، والنَّصيب السَّيِّئ بالغَلبَةِ .

وأنشدوا للبيد : [ الوافر ]

تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً *** وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ{[16728]}

الأشْرَاكَ جمع شِرْكٍ ، وهو النَّصيب . أي : طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ : أي : الرِّئاسة للذكر ، فهذا معناه : تَفَرَّق ، وصار لكُل أحد نصيبُه ، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ ، ثم غلبَ على ما ذكرناه .

قوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } أي حَظُّهم ، وما طار لهم في القضاء والقدر ، أو شؤمهم أي : سبب شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم .

قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله ، أي من قِبَل الله ، أي : إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ .

قال الفَرَّاءُ : وقد تَشَاءَمَت اليهود بالنبي - عليه السلام – ب " المدينة " ، فقالوا : غَلَتْ أسْعَارُنَا ، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا ، وكثرت أمواتنا .

ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة ، فقال : " لا طيرة ولا هامة " - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ .

وأصل الفَألِ : الكلمة الحسنة ، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفَألَ ، وأبطل الطِّيرةَ . والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية ، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها ؛ بخلاف طيرانِ الطير ، وحَرَكَاتِ البهائم ، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة ، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال ، ثم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ أي ] : أن الكل من الله تعالى ؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الأسبابِ المحسوسة ، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدره ، والحق أن الكل من الله ؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، والواجب لِذَاتِهِ واحد ، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته ، فكان الكل من الله - تعالى - ، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى .

قال الأزهريُّ{[16729]} : قيل للشُّؤم طائر وطير ، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها ، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها .

قال القُرْطُبِيُّ : وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلَ مَنْ تشاءم : تَطّيَّر . وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ : وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءم بالبَارحِ : وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ . وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن ، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور ، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك .

ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْا صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته ، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة ، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة ، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة ، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله ، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها .

فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان ، وعلى أيّ حال كان ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : " أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا " وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته ، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم ، وإن أخذت شمالاً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم ، فنهى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله " أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا " . هكذا في الحديث .

وأهل العربيَّة يقولون : " وكناتِهَا " ، والوكْنَةُ : اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ . والوَكْنُ : اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ ، وهُو الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ .

ويقال : وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ{[16730]} وَكْناً ووكُوناً : دخل في الوَكْنِ ، ووكن بَيْضَهُ ، وعليه : حضنه ، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ .

وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ{[16731]} " .

قيل : وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ .

قال : " أنْ يقُولَ أحَدُكم : اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ ، وَلاَ إله غَيرُك ، ثُمَّ يمضي إلى حاجته " {[16732]}


[16723]:ذكره الرازي في تفسيره 14/174 عن ابن عباس.
[16724]:تقدم.
[16725]:ينظر: البحر المحيط 4/370، الدر المصون 3/327.
[16726]:تقدم.
[16727]:تقدم.
[16728]:البيت في ديوانه 200، ومجالس ثعلب 1/78، أمالي القالي 1/95، اللسان (شرك)، الدر المصون 3/328.
[16729]:ينظر: تهذيب اللغة 11/426.
[16730]:في ب وكن الطير يكن وكونا إذا حضر بيضة.
[16731]:أخرجه احمد (2/220) وذكره الهيثمي في المجمع 5/105 وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات.
[16732]:أخرجه الطبري في تفسيره 6/31.