اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

قوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } الآية .

قال ابنُ عبَّاسٍ وابن مسعود : نزلت هذه الآيةُ في " بلعم بن باعوراء " {[16996]} .

وقال مجاهدٌ : بَلعَامُ ابن باعر{[16997]} .

وقال عطيَّةُ عن ابن عبَّاس : كان من بني إسرائيل{[16998]} .

وروي عن ابن أبي طلحة : أنَّه كان من الكنعانيين من مدينة الجبَّارين{[16999]} .

قال مقاتل : هو من مدينة البَلْقَاءِ ، وذلك أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقومه ، قصد بلده ، وغزا أهله وكانوا كفاراً ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه ، فما زالوا يطلبونه حتى دعا عليه ، فاستجيب له ووقع موسى وبنوا إسرائيل في التّيهِ بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأيِّ ذنبٍ وقعنا في التيهِ ؟

فقال : بدعاء بلعم ، فقال : كما سمعت دُعاءَهُ عليَّ ، فاسمع دعائي عليه ، ثم دعا موسى عليه الصلاة والسلام أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، فسلخه اللَّهُ مِمَّا كان عليه ، ونزع منه المعرفة ، فخرجت من صدره حمامة بيضاء{[17000]} .

وقيل : إنَّه كان نبيّاً من أنبياء الله ، دعا عليه موسى ، فنزع اللَّهُ تعالى منه الإيمان ، فصار كافراً وهذا بعيدٌ ؛ لقوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] فدلَّ على أنَّهُ تعالى لا يخصُّ عبداً بالرِّسالة إلاَّ إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد المناقب العظيمة ، ومن كانت هذه حالهُ ، كيف يليق به الكفر ؟

وقال عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : نزلت في أميَّة بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب ، وعلم أنَّ الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو ، فلمَّا أرسل الله تعالى ، محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، حسدهُ ، ثم مات كافراً ، وكان قد قصد بعض الملوك ، فلمَّا رجع مرَّ على قتلى بدر ، فسأل عنهم ، فقيل له : قتلهم محمد . فقال : لو كان نبيّاً ما قتل أقرباءه ، فلما مات أمية ، أتت أخته فازعةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاة أخيها فقالت : بينما هو راقدٌ ، أتاه اثنانِ ، فكشفنا سقف البيت ونزلا ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه . فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى ؟ قال : وعى . قال : أزكى ؟ قال : أبَى ، فسألته عن ذلك فقال : خيرٌ أريد بي ؛ فصرف عني ثم غشي عليه ، فلما أفاق قال : [ الخفيف ]

كُلُّ عَيْشٍ وإنْ تَطاوَلَ دَهْراً *** صَائِرٌ مَرَّةً إلى أنْ يَزُولا

لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي *** فِي قلالِ الجِبالِ أرْعَى الوُعُولاَ

إنَّ يَوْمَ الحسابِ يَوْمٌ عظيمٌ *** شَابَ فِيهِ الصَّغيرُ يَوْماً ثَقِيْلاً{[17001]}

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده .

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمن شعره وكفر قلبه " {[17002]}

وأنزل اللَّه فيه هذه الآية .

وروي عن ابن عباس نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل ، وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة واحدة ، فقال لها : لَكِ منها واحدةٌ ، فما تريدين ؟ قالت : ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها ؛ فجعلت أجمل امرأة في بني إسرائيل ؛ فلمَّا علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزَّوْجُ فدعا عليها فصارت كلبة نباحة [ فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة ] ، فصار النَّاس يعيروننا بها ، فادع الله أن يردَّهَا إلى حالها الأول ، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت فيها الدَّعوات كلها{[17003]} .

وقيل : نزلت في أبي عامر الرَّاهبِ الذي سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفاسق كان يتزهد في الجاهليَّة فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتَّخاذهم مسجد الضِّرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم فمات هناك طريداً وحيداً{[17004]} .

وقال الحسنُ ، وابن كيسان ، والأصم نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم{[17005]} .

وقال عكرمةُ ، وقتادة ، وأبو مسلم : هذا عام فيمن عرض عليه الحق فأعرض عنه .

وقوله : " فانسَلَخَ مِنْهَا " .

قال ابن عباس : " آتيْنَاهُ آياتِنَا " أوتي كتاباً من كُتبِ اللَّهِ " فانسَلَخَ مِنْهَا " أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها .

قوله : { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } الجمهور على أتبعَهُ رباعياً ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه متعدٍّ لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو مبالغةٌ في حقه حيث جُعل إماماً للشيطان . ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين ؛ لأنَّهُ منقولٌ بالهمزة من " تَبع " ، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ تقديره : أتبعه الشيطان خطواتِهِ ، أي : جعله تابعاً لها ، ومِنْ تعدِّيه لاثنين قوله تعالى : { واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } [ الطور : 21 ] .

وقرأ الحسنُ{[17006]} وطلحةُ بخلاف عنه : فاتَّبَعَهُ بتشديد التاء ، فهل " تبعه " واتبعَهُ بمعنى أو بينهم فرق ؟

قيل بكل منهما ، وأبدى بعضهم الفرق بأن " تَبِعه " مشى في أثره ، و " اتَّبعَهُ " إذا وازَاهُ في المشي .

وقيل : " اتَّبعه " بمعنى : استتبعه .

ومعنى الآية : أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له .

وقال عبد الله بن مسلم : " فأتبعه الشيطان " . أي : أدركه .

ويقال : تبعت القوم ، إذا لحقتهم .

قال أبو عبيد : يقال : أتبعت القوم مثل : أفعلتُ إذا كانوا قد سبقُوكَ فلحقْتُهُم وقوله { فَكَانَ مِنَ الغاوين } أي : أطاع الشيطان فكان من الضالين .


[16996]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/118-119) عن ابن مسعود وابن عباس. وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/265) وزاد نسبته للفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه. وأخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "المجمع" (7/28) وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
[16997]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/119) عن مجاهد.
[16998]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/119) وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/266) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.
[16999]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/119) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/266) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[17000]:ذكره الرازي في تفسيره (15/45).
[17001]:ينظر: طبقات فحول الشعراء 1/267، معالم التنزيل 2/215، لباب التأويل 2/203.
[17002]:أخرجه ابن عساكر (3/124-تهذيب) وابن عبد البر في التمهيد (4/7-8) من حديث ابن عباس.
[17003]:ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/266) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.
[17004]:ذكره الرازي في تفسيره (15/45).
[17005]:انظر: المصدر السابق.
[17006]:ينظر: المحرر الوجيز 2/407، والبحر المحيط 4/422، والدر المصون 3/472.