اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (176)

قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } الضمير في : رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات ، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ : ولو شئنا رفعناه للعمل بها ، أي : رفعناه درجة بتلك الآيات .

قال ابن عباس : لرفعناه بعمله{[17007]} .

وقيل : المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق ، والمجرور على الآيات ، أي : لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات .

قال مجاهد وعطاء .

وقيل : الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على " الذي " والمراد بالرفع : الأخذُ ، كما تقول : رُفِعَ الظَّالمُ ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي : لأهلكناه بسبب المعصية .

وهذه أقوال بعيدة ، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ .

قوله { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } " أخْلَدَ " أي : ترامى بنفسه . أي : ركن إلى الدنيا ومال إليها .

قال أهل العربيَّةِ : أصله من الإخلاد ، وهو الدوامُ واللُّزوم ، فالمعنى : لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ : [ الطويل ]

بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ *** وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا{[17008]}

ومنه يقال : أخلد فلان بالمكان ، إذا لزم الإقامة به .

قال ابنُ عبَّاس : يريد مال إلى الدُّنيا{[17009]} .

وقال مقاتل : رَضِيَ بالدُّنيا{[17010]} .

وقال الزجاج : ركن إلى الدُّنيا .

قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا " الأرض " في هذه الآية بالدنيا ؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض ؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض ، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها ، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض .

وقوله : " وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " أي : أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى ، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى ، وهذه أشد آية على العلماء ؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم ، وخصه بالدَّعوات المستجابة ، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب ، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى ، واتَّبع الهوى ، كان بعدهُ عن الله أعظمَ ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام " من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدىً لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً " {[17011]}

وقال عليه الصَّلاة والسَّلام " مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ فأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ " {[17012]}

قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } ، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : لاهثاً في الحالتين .

قال بعضهم : وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال .

فلا يقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط . على الحالِ ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبرا عن ضمير ما أريد جعل الحال عنه .

فيقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال .

نعم قد أوقعوا الشَّرطيَّة موقع الحال ، ولكن بعد أن أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما يناقضها ، أو لم يُعْطف ، فالأوَّلُ : يستمرُّ فيه تركُ الواو ، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط ، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية ، كالاستفهامين المتناقضين في قوله :

{ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 - يس : 10 ] .

والثاني : لا بدَّ فيه من الواو نحو : أتَيْتُكَ ، وإن لم تأتني ؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل : أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس ، إذا عُرِفَ هذا فقوله : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل النوع الأول ؛ لأنَّ الحمل عليه ، والتَّرك نقيضان .

والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ " أكْلُبٍ " ، وفي الكثرةِ على " كلاب " ، وشذُّوا فجمعوا " أكْلُباً " على " أكَالِب " ، و " كِلاباً " على " كِلابَاتٍ " ، وأمَّا " كَلِيبٌ " فاسم جمعٍ ؛ ك " فريق " ، لا جمع ، قال طرفة : [ الطويل ]

تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا *** رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ{[17013]}

وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة .

ويقال : لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع " لَهَثَاً " ، و " لُهْثاً " بفتح اللام وضمها ، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه ، وأمَّا غيره من الحيوان ، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا ، أو عطش ، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الإعراب ، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور ، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفسِّرة لقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .

واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ ، وذلك من وجهين : الأول : أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات ، وأخس الحيوانات الكلب ، وأخسَ الكلاب الكلبُ اللاَّهث ، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا ، وأخْلَدَ في الأرض ، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُو الكلبُ اللاَّهثُ ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء ، وفي حالِ الرَّاحةِ ، وفي حال العطش ، وفي حال الرّي ، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين ، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا ، ويلقي نفسه فيها ، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث ، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح ، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعة الخسيسة لا لحاجة وضرورة .

الثاني : أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا ، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ، فهُوا عند ذكر تلك العلوم يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا ، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة ، ولا ضرورة ، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة .

والثالث : أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة .

قوله : { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم } يجوز أن يُشارَ ب : ذَلِكَ إلى صفة " الكَلْبِ " ، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات ، أو إلى الكلب ، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي : صفة المنسلخ ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا ، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من : " مثلُ القومِ " أي : ذلك الوصف ، وهو وصف المنسلخ ، أو وصف الكلب كمثل القوم .

فصل

واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله .

قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه ، فلم يهتدوا ، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ ، إن وعظته فهو ضالٌّ ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ ، مثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال{[17014]} .

ثم قال : " فاقْصُصِ القَصَصَ " أي : قصص الذين كَفَرُوا ، وكذَّبُوا بآياتنا : " لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون " أي : يتَّعِظُون .


[17007]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/125) وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/267) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.
[17008]:ينظر الطبري 13/270، جامع البيان 12/270، التفسير الكبير 15/56، حاشية الشهاب 4/236 الأصمعيات 193، الدر المصون 3/372.
[17009]:ذكره الرازي في تفسيره (15/46).
[17010]:انظر: المصدر السابق.
[17011]:ذكره الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (1/59) وقال: أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بإسناه ضعيف.
[17012]:أخرجه أحمد في المسند 3/460، وأخرجه الدارمي في السنن 2/304، كتاب الرقاق، باب ما ذئبان جائعان، وأخرجه الترمذي في السنن 4/588، كتاب الزهد: باب (43) الحديث (6/237) وقال: (حسن صحيح)، وأخرجه ابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 612، كتاب الزهد باب فتنة المال- الحديث (2472) واللفظ لهم.
[17013]:تقدم.
[17014]:ذكره الرازي في تفسيره (15/47) عن ابن عباس.