قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } الضمير في : رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات ، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ : ولو شئنا رفعناه للعمل بها ، أي : رفعناه درجة بتلك الآيات .
قال ابن عباس : لرفعناه بعمله{[17007]} .
وقيل : المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق ، والمجرور على الآيات ، أي : لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات .
وقيل : الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على " الذي " والمراد بالرفع : الأخذُ ، كما تقول : رُفِعَ الظَّالمُ ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي : لأهلكناه بسبب المعصية .
وهذه أقوال بعيدة ، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ .
قوله { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } " أخْلَدَ " أي : ترامى بنفسه . أي : ركن إلى الدنيا ومال إليها .
قال أهل العربيَّةِ : أصله من الإخلاد ، وهو الدوامُ واللُّزوم ، فالمعنى : لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ : [ الطويل ]
بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ *** وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا{[17008]}
ومنه يقال : أخلد فلان بالمكان ، إذا لزم الإقامة به .
قال ابنُ عبَّاس : يريد مال إلى الدُّنيا{[17009]} .
وقال مقاتل : رَضِيَ بالدُّنيا{[17010]} .
وقال الزجاج : ركن إلى الدُّنيا .
قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا " الأرض " في هذه الآية بالدنيا ؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض ؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض ، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها ، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض .
وقوله : " وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " أي : أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى ، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى ، وهذه أشد آية على العلماء ؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم ، وخصه بالدَّعوات المستجابة ، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب ، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى ، واتَّبع الهوى ، كان بعدهُ عن الله أعظمَ ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام " من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدىً لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً " {[17011]}
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام " مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ فأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ " {[17012]}
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } ، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : لاهثاً في الحالتين .
قال بعضهم : وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال .
فلا يقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط . على الحالِ ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبرا عن ضمير ما أريد جعل الحال عنه .
فيقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال .
نعم قد أوقعوا الشَّرطيَّة موقع الحال ، ولكن بعد أن أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما يناقضها ، أو لم يُعْطف ، فالأوَّلُ : يستمرُّ فيه تركُ الواو ، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط ، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية ، كالاستفهامين المتناقضين في قوله :
{ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 - يس : 10 ] .
والثاني : لا بدَّ فيه من الواو نحو : أتَيْتُكَ ، وإن لم تأتني ؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل : أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس ، إذا عُرِفَ هذا فقوله : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل النوع الأول ؛ لأنَّ الحمل عليه ، والتَّرك نقيضان .
والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ " أكْلُبٍ " ، وفي الكثرةِ على " كلاب " ، وشذُّوا فجمعوا " أكْلُباً " على " أكَالِب " ، و " كِلاباً " على " كِلابَاتٍ " ، وأمَّا " كَلِيبٌ " فاسم جمعٍ ؛ ك " فريق " ، لا جمع ، قال طرفة : [ الطويل ]
تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا *** رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ{[17013]}
وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة .
ويقال : لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع " لَهَثَاً " ، و " لُهْثاً " بفتح اللام وضمها ، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه ، وأمَّا غيره من الحيوان ، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا ، أو عطش ، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الإعراب ، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور ، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفسِّرة لقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .
واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ ، وذلك من وجهين : الأول : أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات ، وأخس الحيوانات الكلب ، وأخسَ الكلاب الكلبُ اللاَّهث ، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا ، وأخْلَدَ في الأرض ، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُو الكلبُ اللاَّهثُ ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء ، وفي حالِ الرَّاحةِ ، وفي حال العطش ، وفي حال الرّي ، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين ، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا ، ويلقي نفسه فيها ، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث ، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح ، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعة الخسيسة لا لحاجة وضرورة .
الثاني : أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا ، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ، فهُوا عند ذكر تلك العلوم يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا ، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة ، ولا ضرورة ، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة .
والثالث : أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة .
قوله : { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم } يجوز أن يُشارَ ب : ذَلِكَ إلى صفة " الكَلْبِ " ، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات ، أو إلى الكلب ، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي : صفة المنسلخ ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا ، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من : " مثلُ القومِ " أي : ذلك الوصف ، وهو وصف المنسلخ ، أو وصف الكلب كمثل القوم .
واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله .
قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه ، فلم يهتدوا ، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ ، إن وعظته فهو ضالٌّ ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ ، مثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال{[17014]} .
ثم قال : " فاقْصُصِ القَصَصَ " أي : قصص الذين كَفَرُوا ، وكذَّبُوا بآياتنا : " لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون " أي : يتَّعِظُون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.