اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُۚ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ} (30)

في نصب " فريقاً " وجهان :

أحدهما : أنَّهُ مَنْصُوبٌ ب " هَدَى " بعده ، و " فريقاً " الثَّانِي منصوب بإضمار فعل يفسِّرهُ قوله : { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } من حيثُ المعنى والتَّقديرُ : وأضلَّ فريقاً حقّ عليهم .

[ قال القُرْطُبِيُّ{[16040]} : وأنشد سيبويه : [ المنسرح ]

أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ وَلاَ *** أمْلِكُ رَأسَ البَعِير إنْ نَفَرَا

والذِّئْبُ أخْشَاهُ إذْ مَرَرْتُ بِهِ *** وَحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرا{[16041]}

قال الفرَّاءُ : ولو كان مرفوعاً لجاز ]{[16042]} ، وقدَّره الزمخشريُّ : " وخذل فريقاً " لأجل مَذْهَبِهِ .

والجملتان الفعليتان في محلِّ نصب على الحال من فاعل " بَدَأكُمْ " أي : بَدَأكُم حال كَوْنِهِ هادياً فريقاً ومُضِلاًّ آخر .

و " قد " مضمرة عند بعضهم ، ويجوزُ على هذا الوجه أيضاً أن تكون الجملتان الفعليَّتان مستأنفتْينِ ، فالوقف على " يعودون " على هذا الإعراب تام ، بخلاف ما إذا جعلتهما حالين ، فالوقف على قوله : " الضَّلالة " .

الوجه الثاني : أن ينتصب " فريقاً " على الحال من فاعل " تَعُودُونَ " [ أي : تعودون ] فريقاً مَهْدِيّاً ، وفريقاً حاقّاً عليه الضلالة ، وتكون الجملتان الفعليَّتان على هذا في محل نصب على النَّعت ل " فريقاً " و " فريقاً " ، ولا بدَّ حينئذٍ من حذف عائدٍ على الموصوف من " هدى " أي : فريقاً هداهم ، ولو قدَّرته " هَدَاهُ " بلفظ الإفراد لجاز ، اعتباراً بلفظ " فَرِيق " ، إلاَّ أنَّ الأوَّل أحسن لمناسبة قوله : { وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ } ، والوقف حينئذ على قوله ، " الضَّلالَةُ " ، ويؤيِّد إعرابه حالاً قراءة أبي بن كعب{[16043]} : " تعُودُون فريقين : فريقاً هدى ، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلالة " ف " فريقين " نُصب على الحَالِ ، و " فريقاً " وفريقاً بدل ، أو منصوب بإضمار أعني على القطع ، ويجوز أن ينتصب " فريقاً " الأول على الحال من فاعل " تعودون " و " فريقاً " الثاني نصب بإضمار فعل يفسره { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } كما تقدَّم تحقيقه في كل منهما .

وهذه الأوجه كلها ذكرها ابن الأنباري ، فإنَّهُ قال كلاماً حسناً ، قال - رحمه الله - : " انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضَّميرِ الذي في " تعودون " ، يريدُ : تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين ، بعضكم أشْقِيَاء وبعضكم سعداء ، فاتصل " فريقٌ " وهو نكرة بالضَّمِير الذي في " تَعُودُونَ " وهو معرفة فقُطِع عن لَفْظِهِ ، وعُطف الثاني عليه " .

قال : " ويجوز أن يكون الأوَّل منصوباً على الحال من الضَّمير ، والثاني منصوبٌ ب { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } ؛ لأنَّهُ بمعنى أضلَّهم ، كما يقول القائل " عبد الله أكرمته ، وَزَيْداً أحسنت إليه " فينتصب زيداً ب " أحْسَنْتُ إلَيْه " بمعنى نَفَعْته ؛ وأنشد : [ الوافر ]

أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أمْ رِيَاحاً *** عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا{[16044]}

نصب صعلبة ب " عدلت بهم طهية " ؛ لأنه بمعنى أهَنْتَهم أي : عدلت بهم من هو دُونَهُم ، وأنشد أيضاً قوله : [ الكامل ]

يَا لَيْتَ ضَيْفَكُمُ الزُّبَيْرَ وَجَارَكُمْ *** إيَّايَ لَبَّسَ حَبْلَهُ بِحِبَالِي{[16045]}

فنصب " إيَّاي " بقوله : لَبَّس حبله بحبالي ، إذ كان معناه خالطني وقصدني .

قال شهابُ الدِّين : يريدُ بذلك أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه ، هذا وجه التَّنْظِير .

وإلى كون " فَرِيقاً " منصوباً ب " هَدَى " و " فريقاً " منصوباً ب " حقَّ " ذهب الفراء{[16046]} ، وجعله نظير قوله تعالى : { يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإنسان : 31 ] .

قوله : " إنَّهُمُ اتَّخَذُوا " جار مجرى التَّعليل ، وإنْ كان استئنافاً لفظاً ، ويدلُّ على ذلك قراءة عيسى بن عمر ، والعبّاس بن الفضل ، وسهل بن شعيب " أنَّهُمُ " بفتح الهمزة ، وهي نص في العِلِّيِّة أي : حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطين أولياء ، ولم يُسند الإضلال إلى ذَاتِهِ المقدَّسَةِ ، وإن كان هو الفاعل لها تَحْسِيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدَبِ ، وعليه : { وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَائِرٌ } [ النحل : 9 ] .

فإن قيل : كيف يستقيمُ هذا التَّعْليلُ مع قولكم بأنَّ الهُدَى والضَّلال إنما حصلا بخلق الله ابتداءً ؟ فالجوابُ : أنَّ مجموع القدرة والدَّاعي يوجب الفعل والدَّاعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هو أنَّهُم اتخذوا الشَّياطين أولياء .

فصل في دحض شبهة خلق الأفعال

احتحَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهدى والضلال من الله تعالى .

قالت المعتزلة{[16047]} : " المرادُ فريقاً هدى إلى الجنَّةِ والثَّواب ، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلال أي : العذاب والصّرف عن طريق الثَّواب " .

قال القاضي{[16048]} : لأنَّ هذا هو الذي يحقُّ عليهم دون غيرهم ، إذا العبد لا يستحق أن يضلّ عن الدِّين ، إذ لو استحقّ ذلك لجاز أن يأمر أولياءه بإضلالهم عن الدِّين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة ، وفي ذلك زوال الثِّقَة بالنُّبُوَّات . وهذا الجوابُ ضعيف من وجهين :

الأول : أن قوله " فَرِيقاً هَدَى " إشارة إلى الماضي ، وعلى التَّأويل الذي ذكروه يصيرُ المعنى : أنَّهُ تعالى سيهديهم في المستقبل ، ولو قال : إنَّ المراد : أنَّهُ تعالى حكم في الماضي أنَّهُ سيهديهم إلى الجنَّةِ كان هذا عُدُولاً عن الظَّاهِرِ من غير حاجة ؛ لأنَّهُ قد تبين بالدَّليل القاطع أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى .

والثاني : هب أن المراد من الهداية والضَّلال حكم الله بذلك ، إلا أنّه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره ، والإلزام انقلاب ذلك الحكم كذباً ، والكذب على الله مُحَال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان صدور خلاف ذلك من العَبْدِ مُحَالاً .

قوله : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .

قال ابن عباس : يريد ما سَنَّ لهم عمروُ بْنُ لحَيِّ ، وهذا بعيد بل هو محمول على عُمُومِهِ ، فكلُّ من شرع في بَاطلِ فهو مستحقٌّ للذم ، سواء حسب كَوْنِهِ هدى ، أو لم يحسب ذلك ، وهذه الآية تدل على أنَّ الكافرَ الذي يظن أنَّهُ في دينه على الحقِّ والجاحد المعاند سواء ، وتدلُّ أيضاً على أنَّ مُجَرَّد الظن والحسْبَانِ لا يكفي في صحَّة الدين ، بل لا بدَّ فيه من الجَزمِ والقَطْعِ ؛ لأنَّهُ تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كوْنِهِ مهتدين ، ولولا أن هذا الحسبان مذموم وإلاَّ لما ذمهم بذلك .


[16040]:ينظر: تفسير القرطبي 7/121.
[16041]:البيتان للربيع بن ضبع الفزاري. ينظر الكتاب 1/90، وحماسة البحتري ص 201، وأمالي المرتضى 1/256، وخزانة الأدب 7/384، والدرر 5/22، وشرح التصريح 2/36، واللسان (ضمن)، والمقاصد النحوية 3/397، ونوادر أبي زيد ص 159، والأشباه والنظائر 7/173، وأوضح المسالك 3/114، والرد على النحاة ص 115، والمحتسب 2/99، والقرطبي 7/121.
[16042]:سقط في أ.
[16043]:ينظر: المحرر الوجيز 2/392، والبحر المحيط 4/290، والدر المصون 3/259.
[16044]:تقدم.
[16045]:ذكره السمين الحلبي في الدر المصون 3/259.
[16046]:ينظر: معاني القرآن للفراء 1/376.
[16047]:ينظر: الفخر الرازي 14/49.
[16048]:ينظر: تفسير الرازي 14/49.