اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } الآية .

قرأ أبو{[17499]} عمرو " تكون " بالتأنيث ، مراعاةً لمعنى الجماعة ، والباقون بالتَّذكير ، مراعاةً للفظ الجمع ، والجمهورُ هنا على " أسْرَى " وهو قياس " فعيل " بمعنى " مفعول " دالاَّ على أنه ك : جَريح وجَرْحَى .

وقرأ ابنُ القعقاع والمفضَّل{[17500]} عن عاصم " أسَارَى " شبَّهُوا " أسير " ب : " كَسْلان " فجمعوهُ على " فُعَالَى " كَ : " كُسَالَى " ، كما شَبَّهُوا به " كسلان " فجمعوه على " كَسْلَى " ، وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة .

قال الزمخشري : " وقرئ " {[17501]} ما كان للنَّبي " على التعريف "

فإن قيل : كيف حسن إدخال لفظه " كان " على لفظة " يكون " في هذه الآية ؟ فالجوابُ : قوله " مَا كَان " معناه النفي والتنزيه ، أي : ما يجب وما ينبغي أن يكون المعنى المذكور ، كقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .

قال أبو عبيدة " يقول : لم يكن لنبي ذلك ، فلا يكن لك ، ومن قرأ { مَا كَانَ لِلنَبِيٍّ } فمعناه : أنَّ هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام " .

قوله : " حتَّى يُثخِنَ " قرأ العامَّةُ " يُثْخنَ " مخففاً ، عدوهُ بالهمزة .

وقرأ أبُو جعفر{[17502]} ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر " يُثَخِّنَ " بالتشديد ، عدوهُ بالتضعيف ، وهو مشتقٌّ من الثَّخانة ، وهي الغِلَظ والكثافة في الأجسام ، ثمَّ يُسْتَعار ذلك في كثرة القتل ، والجراحات ، فيقال : أثْخَنَتْه الجراح ، أي : أثقلته حتى أثْبَتَتْه ، ومنه : " حتَّى إذا أثخنتموهم " .

وقيل : حتى يقهر ، والإثخان : القهرُ .

وأنشد المفضلُ : [ الطويل ]

تُصَلِّي الضُّحَى ما دَهْرُهَا بتَعَبُّدٍ *** وقَدْ أثْخَنَتْ فرعَونَ في كُفُرِهِ كُفْرَا{[17503]}

كذا أنشده الهروي شاهداً على القهر ، وليس فيه معنى ، إذا المعنى على الزِّيادة والمبالغةِ المناسبةِ لأصل معناه ، وهي الثَّخانة .

ويقال منه : ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانَة فهو ثَخِين ، ك : ظَرُفَ يَظْرُف ظَرَافَةً ، فهو ظريفٌ .

قوله { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة } . الجمهور على نصب " الآخرة " .

وقرأ سليمانُ{[17504]} بن جماز المدني بجرِّها ، وخُرِّجتْ على حفِّ المضاف وإبقاء المضاف إليه على جرِّه . وقدَّره بعضهم عرض الآخرة ، فعيب عليه ؛ إذْ لا يحسن أن يقال : والله يريد عرض الآخرة فأصلحه الزمخشريُّ بأنْ جعلهُ كذلك ؛ لأجل المقابلة ، قال : " يعني ثوابها " وقدَّره بعضهم ب " أعمال " ، أو " ثواب " ، وجعله أبُو البقاءِ كقول الآخر : [ المتقارب ]

. . . *** ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا{[17505]}

وقدَّر المضاف : " عَرَضَ الآخِرَةِ " .

قال أبُو حيان{[17506]} : " ليست الآيةُ مثل البيت ، فإنهُ يجوزُ ذلك ، إذَا لمْ يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت ، أو يفصل ب " لا " نحو : " ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك " أمَّا إذَا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل " .

فصل

اعلم أنه تعالى علّم في هذه الآية حكما آخر من أحكام الجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الزجاج : " أسْرَى " جمع ، و " أسَارَى " جمع الجمع . والإثخان : قال الواحديُّ : " الإثخان " في كُلِّ شيء : عبارة عن قوَّته وشدَّته .

يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنته الجراح .

فقوله : { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } أي : حتى يقوى ويشتد ويغلب ويقهر .

قال أكثر المفسرين : المرادُ منه : أن يبالغ في قتل أعدائه ، قالوا : وإنَّما جعلنا اللَّفظ يدل عليه ؛ لأنَّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل ؛ قال الشَّاعرُ :

لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ من الأذَى *** حتَّى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ{[17507]}

وكثرة القتل توجب قوة الرهب وشدة المهابة ، وكلمة " حتّى " لانتهاء الغايةِ ، فقوله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } يدُلُّ على أنَّ بعد حصول الإثخان في الأرض فله أن يقدم على الأسارى .

وقوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } المرادُ منه : الفداء ، وإنّما سمى منافع الدنيا عرضاً ؛ لأنَّهُ لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول ، ولذلك سمَّى المتكلمون الأعراض أعراضاً ، لأنها لا ثبات لها كثبات الأجسام ؛ لأنها تطرأ على الأجسام ، وتزول عنها والأجسام باقية .

وقوله : { والله يُرِيدُ الآخرة } أي : أنه تعالى لا يريدُ ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول ، وإنَّما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الدائمة الباقية المصونة عن التبدل والزوال .

ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم ؛ لأنَّ الله عزيز لا يقهر ولا يغلب ، حكيم في تدبير مصالح العالم .

قال ابنُ عبَّاسٍ : " هذا الحكم إنَّما كان يوم بدر ؛ لأنَّ المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل اللَّهُ بعد ذلك في الأسارى : { حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً }{[17508]} [ محمد : 4 ] .

قال ابنُ الخطيبِ : " هذا الكلامُ يوهم أنَّ قوله : { فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } يزيدُ على حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنَّ كلتا الآيتين متوافقتان ، فإنهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء " .

فصل

احتج الجبائيُّ والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : كلُّ ما يكون من العبد فاللَّهُ يريدُه ؛ لأنَّ هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ، ونصَّ اللَّهُ على أنَّهُ لا يريده ، بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة .

وأجيبوا : بأنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأمر منهم طاعة وعملاً جائزاً مأذوناً فيه ، فلا يلزم من نفي الإرادة كون هذا الأمر طاعة ، نفي كونه مراد الوجود .

فصل

روي عن عبد الله بن مسعود قال : " لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " ما تقُولُون في هؤلاءِ الأسْرَى " فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك اسْتَبْقِهِمْ ، واستأن بهم لعلَّ الله أن يتوب عليهم ، وخُذْ منهم فدية تكون لنا قوة على الكُفَّارِ .

وقال عمرُ : يا رسول الله : كذبوك وأخرجوك ، فَدَعْنَا نضرب أعناقهم ، مكِّن عليّاً مِنْ عقيلٍ فيَضْرب عنقَهُ ، ومكْنِي من فلانٍ : " نَسيباً لِعمَرَ " فأضْرِبَ عُنُقَهُ ، فإن هؤلاء أئِمَّةُ الكفرِ .

وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب ؛ فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم ناراً ، فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إنَّ اللَّهَ ليليِّن قلوب رجال حتَّى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، قال : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، قال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ومثلك يا عمر ، كمثل نوح ، قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ومثلك كمثل موسى ، قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ } [ يونس : 88 ] الآية "

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم اليوم عالة فلا ينقلبن أحد منهم إلاَّ بفداء أو ضرب عنق " .

قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتَّى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء{[17509]} .

قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب : فَهَوِيَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ ولمْ يَهْوَ ما قلت ، فلمَّا كان من العد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعديْن يبكيانِ ، قلتُ : يا رسُول الله ، أخبِرْنِي مِنْ أيِّ شيءٍ تَبْكِي أنتَ وصاحبُكَ ، فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ ، وإنْ لَمْ أجِدْ بكاءً تَباكَيْتُ لبكائِكُما .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبكي للَّذي عَرَض عليَّ أصحابُكَ مِنْ أخذهم الفداءَ ، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهُم أدْنَى مِنْ هذه الشجَّرةِ " شجرةٍ قريبةٍ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } إلى قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } وأحَلَّ الله الغنيمةَ لهُمْ{[17510]} .

وكان الفداء لكل أسيرٍ أربعين أوقية ، والأوقيةُ : أربعون درهماً .


[17499]:ينظر: الحجة 4/162-163، حجة القراءات ص (313) إعراب القراءات 1/233، إتحاف 2/83.
[17500]:ينظر: السبعة ص 309، الحجة 4/163-164، حجة القراءات ص 314.
[17501]:قرأ بها أبو الدرداء وأبو حيوة. ينظر: الكشاف 2/235، المحرر الوجيز 2/552، البحر المحيط 4/513.
[17502]:ينظر: الكشاف 2/235، المحرر الوجيز 2/552، البحر المحيط 4/514، الدر المصون 3/436.
[17503]:البيت ينظر: القرطبي 8/48، الدر المصون 3/437.
[17504]:ينظر: المحرر الوجيز 2/552، البحر المحيط 4/514، الدر المصون 3/437.
[17505]:تقدم.
[17506]:ينظر: البحر المحيط 4/514.
[17507]:البيت للمتنبي ينظر: ديوانه بشرح العكبري 4/125 وتفسير الرازي 15/201.
[17508]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/262).
[17509]:أخرجه أحمد (1/383) والترمذي (3084) والحاكم (3/22) والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/138-139) عن عبد الله بن مسعود وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/364-365) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
[17510]:أخرجه مسلم (3/1383-1385) كتاب الجهاد والسير: باب الإمداد بالملائكة.