قوله تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } الآية .
المستفهمُ عند محذوفٌ ، لدلالة المعنى عليه ، فقدَّره أبو البقاءِ " كيف تَطْمئنون ، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ " ؟ وقدَّره غيره : كيف لا تقاتلونهم ؟ . والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم ، فالدلالةُ عليه أقْوى .
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً ، وتقدَّم منه قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } [ آل عمران : 25 ] ، { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا } [ النساء : 41 ] ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى *** فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ{[17589]}
أي : كيف مات ؟ وقال الحطيئةُ : [ الطويل ]
فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ *** علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا{[17590]}
قال أبُو حيَّان{[17591]} : " وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد " كيف " بقوله : " كيف تطمئنون " ، وقدَّره غيره ب " كيف لا تقاتلونهم " ؟ .
قال شهابُ الدِّين{[17592]} : " ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده ، بل به ، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه " .
قوله " كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا " " كيف " تكرار ، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد ، وحذف الفعل ، لكونه معلوماً ، أي : كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم . والجملة الشرطية من قوله : " إِن يَظْهَرُوا " في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : كيف يكونُ لهم عهدٌ ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك ؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [ الأعراف : 169 ] ، و " لا يرْقُبوا " جوابُ الشرط ، وقرأ زيد{[17593]} بن علي : " وإن يُظهَرُوا " ببنائه للمفعول ، من أظهره عليه ، أي : جعله غالباً له ، يقال : ظهرت على فلان : إذا علوته ، وظهرت على السطح : إذا صرت فوقه .
قال اللَّيْثُ : " الظُّهور : الظَّفر بالشَّيء ، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين ، أي : أعلاهُم عليهم " . قال تعالى : { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } [ الصف : 14 ] وقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] أي : ليعليه .
قوله : " لاَ يَرْقُبُواْ " قال الليثُ " رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً ، هو أن ينتظره " .
والمعنى : لا ينتظروا ، قاله الضحاكُ ، ورقيب القوم : حارسهم ، وقوله : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 94 ] أي : لم تحفظه .
وقال قطربٌ : " لا يراعوا فيكم إلاَّ " . قوله : " إلاًّ " مفعولُ به ب " يَرْقُبُوا " . وفي " الإِلِّ " أقوالٌ " .
أحدها : أنَّ المراد به العهد ، قاله أبو عبيدة ، وابن زيد ، والسديُّ{[17594]} وكذلك الذمة ، إلاَّ أنه كرر ، لاختلاف اللفظين ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
لَوْلاَ بنُو مالكٍ ، والإِلُّ مَرْقبةٌ *** ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ{[17595]}
أي : الحِلْف ؛ وقال آخر : [ المتقارب ]
وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ *** وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ{[17596]}
أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا *** قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ{[17597]}
وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع{[17598]} : " وفيُّ الإلِّ ، كريمُ الخِلِّ ، بَرُودُ الظِّلِّ " أي ؛ وفَيُّ العهد .
الثاني : أنه القرابةُ ، قاله ابنُ عبَّاسٍ{[17599]} والضحاك ، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان : [ الوافر ]
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ *** كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ{[17600]}
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله : [ الرمل ]
. . . *** قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ{[17601]}
والظَّاهر أنَّ المراد به العهد - كما تقدَّم - لئلاَّ يلزم التكرار .
الثالث : أنَّ المراد به الله - تعالى - أي : هو اسم من أسمائه ، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة - لعنه الله - " إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ " ، أي : الله - عز وجل - قاله أبو مجْلزٍ ، ومجاهد{[17602]} وقال عبيد بن عمير : يُقرأ جِبْرَئل بالتشديد ، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج ، قال : " لأنَّ أسماءه - تعالى - معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ - ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول : يا إلُّ ، افعلْ لي كذا " .
الرابع : أنَّ : " الإلَّ " الجُؤار ، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا ، وتحالفوا ، جأرُوا بذلك جُؤاراً . ومنه قول أبي جهل : [ الطويل ]
لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ *** مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ{[17603]}
الخامس : أنه من : ألَّ البرقُ ، أي : لَمَعَ .
قال الأزهريُّ : " الأليل : البريق ، يقال : ألَّ يؤلُّ ، أي : صَفَا ولَمَعَ " ، ومنه الألَّة ، للمعانها .
وقيل : الإلّ من التحديد ، ومنه " الألَّةٌ " الحَرْبة ، وذلك لحدَّتها ، وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدراً مشتركاً ، يرجعُ إليه جميعُ ما تقدَّم ، فقال الزَّجَّاجُ : " حقيقةُ الإلِّ عندي على ما تُوحيه اللغة : التحديد للشيء ، فمن ذلك الألَّةُ : الحَرْبَةُ ، وأذنٌ مُؤلَّلَة ، فالإلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد ، والقرابةِ ، والجُؤار على هذا ، فإذا قلت في العهد : بينهما إلٌّ ، فتأويلُه أنَّهُمَا قد حَدَّدَا في أخْذ العهود ، وكذلك في الجُؤار والقرابة " .
وقال الرَّاغبُ{[17604]} : " الإِلُّ " كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ ، وحِلْفٍ ، وقرابة تَئِلُّ ، أي : تَلْمَعُ ، وألَّ الفرسُ : أسرع . والألَّةُ : الحرْبَةُ اللاَّمعة " وأنشد غيرُهُ على ذلك قول حماس بن قيسٍ يوم فتح " مكَّة " : [ الرجز ]
إنْ تَقْتلُوا اليوْمَ فَمَا لِي عِلَّه *** . . .
. . . *** سِوَى سِلاحٍ كاملٍ وألَّه
. . . *** وذِي غِرَارَيْنِ سَريعِ السَّلَّه{[17605]}
قال : وقيل : الإلُّ والإيلُ : اسماه لله - تعالى - ، وليس ذلك بصحيحٍ .
قال الأزهريُّ " " إيل " من أسماء الله بالعبرانية ؛ فجاز أن يكون عُرِّب ، فقيل : " إلّ " والأللان : صفحتا السكّين " . انتهى ، ويجمع الإلُّ في القلَّة على آلِّ ، والأصل : " أألُل " بزنة " أفْلُس " ، فأبدلت الهمزةُ الثانية ألفاً ، لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، وأدغمت اللاَّمُ في اللام ، وفي الكثرة على " إلالٍ " ك " ذِئْب وذِئَاب " .
و " الألُّ " بالفتح : قيل : شدَّة القنوط . قال الهرويُّ في الحديث : " عجب ربكم من ألِّكُم وقُنوطكم " {[17606]} . قال أبو عبيدة : المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة ، والمحفوظ عندنا فَتَحُها ، وهو أشبَهُ بالمصادرِ ، كأنَّه أرادَ : من شدَّة قنوطكم ، ويجوزُ أن يكون من رفع الصَّوت ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ ، وأللاً ، وألِيلاً ، إذا رفع صوته بالبكاء ، ومنه يقال له : الويل والألِيل ؛ ومنه قول الكميت : [ البسيط ]
وأنتَ مَا أنتَ فِي غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ *** إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الكَاعِبُ الفُضُلُ{[17607]}
انتهى{[17608]} .
وقرأ فرقة " ألاَّ " بالفتح ، وهو على ما ذكر من كونه مصدراً ، من " ألَّ يَؤلُّ إذا عاهد . وقرأ عكرمة{[17609]} : " إيلاً " بكسر الهمزة ، بعدها ياءٌ ساكنة ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه اسمُ الله تعالى ، ويُؤيِّده ما تقدم في : { لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] ، و{ إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 40 ] أنَّ المعنى : عبدُ اللهِ .
الثاني : يجوزُ أن يكون مشتقاً مِن : آل يَؤُولُ : إذا صَارَ إلى آخر الأمر ، أو من : آل يؤولُ : إذا سَاسَ ، قاله ابنُ جني ، أي : لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة ، وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقُلبت ياءً ، ك : " ريح " .
الثالث : أنه هو " الإِلُّ " المضعف ، وإنَّما اسْتُثقل التَّضعيفُ ، فأبدل إحداهما حرف علةٍ ، كقولهم : أمْلَيْتُ الكتاب ، وأمْلَلْتُه .
يَا لَيْتَمَا أمَّنَا شالتْ نَعامتُهَا *** أيْمَا إلى جنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ{[17610]}
قوله : " وَلاَ ذِمَّةً " الذِّمَّة قيل : العَهْد ، فيكون ممَّا كُرِّرَ لاختلافِ لفظه ، إذا قلنا : إنَّ الإلَّ العهدُ أيضاً ، فهو كقوله تعالى : { صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] ، وقوله : [ الوافر ]
. . . *** وألْقَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا{[17611]}
. . . *** وهندٌ أتَى من دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ{[17612]}
وقيل : الذِّمَّة : الضَّمان ، يقال : هو في ذمَّتي ، أي : في ضماني ، وبه سُمِّي أهل الذِّمَّة ، لدخولهم في ضمانِ المسلمين . ويقال : له عليَّ ذمَّةٌ ، وذِمام ومذمَّة ، وهي الذمُّ قال ذلك ابن عرفة ، وأنشد لأسامة بن الحارث : [ الطويل ]
يُصَيِّحُ بالأسْحَارِ في كلِّ صارةٍ *** كمَا نَاشَدَ الذَّمَّ الكَفيلَ المُعَاهِدُ{[17613]}
وقال الرَّاغِبُ{[17614]} " الذِّمامُ : ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته من عهدٍ ، وكذلك الذِّمَّة ، والمَذمَّة والمِذمة ، يعني بالفتح والكسر . وقيل : لي مَذَمَّةٌ فلا تهتكها " وقال غيره : " سُمِّيَتْ ذِمَّة ، لأنَّ كُلَّ حُرْمة يلزمك من تضييعها الذَّمُّ ، يقال لها : ذِمَّة ، وتجمع على " ذِمِّ " ، كقوله : [ الطويل ]
. . . *** كَمَا نَاشَدَ الذَّمِّ . . . {[17615]}
وعلى ذممٍ ، وذِمَامٍ " . وقال أبو زيد : " مَذِمَّة ، بالكسْرِ من الذِّمام ، وبالفتح من الذَّمِّ " .
وقال الأزهري : " الذِّمَّة : الأمان " . وفي الحديث : " ويسعى بذمَّتِهم أدْناهُمْ " {[17616]} .
قال أبو عبيد : " الذِّمَّة : الأمانُ ههنا ، يقول إذا أعطى أدنى الناسُ أماناً لكافر نفذَ عليهم ، ولذلك أجاز عمر - رضي الله عنه - أمان عبدٍ على جميع العسكر " .
وقال الأصمعي " الذِّمَّة : ما لَزِم أن يُحفظَ ويُحْمَى " .
قوله : " يُرْضُونَكُم " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنفٌ ، وهذا هو الظاهر ، أخبر أنَّ حالهم كذلك .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل " لاَ يَرْقُبُواْ " .
قال أبُو البقاءِ : " وليس بشيءٍ ؛ لأنَّهم بعد ظهورهم لا يُرْضُون المؤمنين " .
ومعنى الآية : يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم .
قوله : " وتأبى قُلُوبُهُمْ " يقالُ : أبَى يَأبَى ، أي : اشتد امتناعه ، فكلَّ إباءٍ امتناعٌ من غير عكس ، قال : [ الطويل ]
أبَى اللهُ إلاَّ عَدْلَهُ ووفاءهُ *** فَلاَ النُّكْر مَعْروفٌ ولا العُرْفُ ضَائِع{[17617]}
أَبَى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نَابَهُ *** عَليْهِ فأفْضَى والسُّيوفُ مَعَاقِلُهْ{[17618]}
فليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ . ومجيءُ المضارعِ منه على " يفعل " بفتح العين شاذٌّ ، ومثله " قَلَى يَقْلَى في لغة " .
المعنى : " وتأبى قُلُوبُهُمْ " الإيمان " وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ " وفيه سؤالان :
السؤال الأول : أنَّ الموصوفين بهذه الصفة كفار ، والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة ؟
السؤال الثاني : أنَّ الكفار كلُّهم فاسقون ، فلا يبقى لقوله : " وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ " فائدة ، والجواب عن الأوَّلِ : أنَّ الكافِر قد يكونُ عَدْلاً في دينه ، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه ، فالمرادُ أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود ، " أكثرُهُمُ فَاسقُون " في دينهم ، وذلك يوجب المبالغة في الذَّم .
والجوابُ عن الثَّاني عين الأوَّل ؛ لأنَّ الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب ، ونقض العهد ، والمكر ، والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك ، ومثل هذا الشَّخص يكون مذموماً عند جميع النَّاسِ ، وفي جميع الأديان .
ومعنى الآية : أنَّ أكثرهم موصوف بهذه الصفات الذميمة . وقال ابنُ عبَّاسٍ " لا يبعدُ أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم ، وتاب ، فلهذا السبب قال : " وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ " . ليخرج عن هذا الحكم ، أولئك الذين أسْلَمُوا " {[17619]} .