مدنية . وهي مائة وثلاثون آية ، وأربعة آلاف وثمان وسبعون{[1]} كلمة ، وعشرة آلاف ، وأربع مائة وثمان وثمانون حرفا .
ولها عدة أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافزة ، المنكلة ، المدمدمة ، سورة العذاب .
قال الزمخشري : " لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق : أي تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين : تبحث عنها وتشهرها وتحفز عنها ، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم ، وتخزيهم ، وتدمدم عليهم " .
وعن حذيفة : إنكم تسمونها سورة التوبة ، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه{[2]} .
وعن ابن عباس في هذه السورة قال : إنها الفاضحة ، ما زالت تنزل فيهم ، وتريهم حتى خشينا أنها لا تدع أحدا{[3]} ، وسورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير .
فصل في إسقاط التسمية من هذه السورة
في إسقاط التسمية من أولها وجوه :
الأول : روى ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين ، وإلى الأنفال وهي من المثاني ، فقرنتم بينهما وما فصلتم ب : بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزلت عليه سورة يقول : " ضعوها في موضع كذا " فكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فقرنت بينهما{[4]} .
قال ابن العربي " هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ؛ ألا ترى إلى عثمان بن عفان وأعيان الصحابة ، كيف نحوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ، ورأو أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها ؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائرالأحكام " ؟ .
قال القاضي : " لا يبعد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام بين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال ؛ لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى ، ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل ، ولو جوّزنا في بعض السور ألا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي ، لجوزنا مثله في سائر السور ، وفي آيات السورة الواحدة ، وتجويزه يعضد ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجة " .
والصحيح : أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة ، بعد سورة الأنفال وحيا ، فإنه عليه الصلاة والسلام حذف " بسم الله الرحمن الرحيم " من أول هذه السورة وحيا .
الوجه الثاني : روي عن أبي بن كعب أنه قال : إنما توهموا ذلك ، لأن في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى ، والسؤال المذكور عائد هنا ، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا : إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة .
الوجه الثالث : أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال ، وسورة التوبة هل هما سورة واحدة أم سورتان ؟ قال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ لأن كليهما نزلتا في القتال ، ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال ، وهي سبع ، وما بعدهما المئون ، وهذا قول ظاهر ؛ لأنهما معا مائتان وست آيات ، فهما بمنزلة سورة واحدة .
ومنهم من قال سورتان ، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا الباب ، تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان ، وما كتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة ، وعلى هذا القول لا يلزم منه تجويز مذهب الإمامية ؛ لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين ، وهذا يدل على لأن هذا الاشتباه كان حاصلا ، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير ، وذلك يبطل قول الإمامية .
الوجه الرابع : أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية . ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله : { براءة من الله ورسوله } فلما كان هذا عين ذلك الكلام ، وتأكيدا له وتقريرا له ، لزم الفاصل بينهما وكان إيقاع الفاصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين ، وترك كتابة البسملة تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى .
الوجه الخامس : قال القرطبي : " قيل : إنه كان من شأن العرب في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه البسملة ، فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته بغير بسملة ، وبعث بها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة " .
قال ابن عباس : سألت عليا- رضي الله عنه- : لِم لم تُكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ههنا ؟ قال : لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان ، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد ، وليس فيها أمان{[5]} .
ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا } [ النساء : 94 ] فقيل له : أليس النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم " ؟ فأجاب عنه : بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله تعالى ، ولم ينبذ إليهم عهدهم ، ألا ترى أنه قال في آخر الكتاب { والسلام على من اتبع الهدى } [ طه : 47 ] .
وأما هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهد ، فظهر الفرق .
الوجه السادس : قالت الشافعية : لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون " بسم الله الرحمن الرحيم " من القرآن ، أمر بأن لا تكتب ههنا ، ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة ، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة لا جرم لم تكتب وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة ، وقد يعكس عليهم ذلك فيقال : لو كانت آية من كل سورة لما أسقطها من هذه السورة ؟ .
قال القرطبي{[6]} : " وروي عن عثمان أيضا . وقاله مالك فيما رواه وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : أنه لما سقط أولها سقط " بسم الله الرحمن الرحيم " معا ، وروي ذلك عن عجلان ؛ أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها ، فذهب منها ؛ فلذلك لم يكتب بينهما " بسم الله الرحمن الرحيم " وقال سعيد بن جبير : كانت قبل سورة الطلاق البقرة " .
قال القرطبي : " والصحيح أن البسملة لم تكتب ؛ لأن جبريل-عليه الصلاة والسلام- ما نزل بها في هذه السورة ، قاله القشيري " .
وفي قول عثمان " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها " دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن " براءة " ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك ، وكانتا تدعيان القرينتين ؛ فوجب أن تُجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي .
قوله تعالى : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } الآية .
الجمهور على رفع بَراءَةٌ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّها رفعٌ بالابتداء ، والخبرُ قوله { إِلَى الذين } وجاز الابتداءُ بالنَّكرة ؛ لأنَّها تخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بعدها ، وهو قوله مِنَ اللهِ كما تقولُ رجُلٌ من بني تميم في الدَّارِ .
والثاني : أنَّها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : هذه الآياتُ براءةٌ ، ويجوز في مِنَ اللهِ أن يكون متعلقاً بنفس براءةٌ ؛ لأنها مصدرٌ ، كالثَّناءة والدَّناءة . وهذه المادة تتعدَّى ب " مِنْ " ، تقولُ : بَرِئتُ من فلانٍ ، أبرأ براءةً ، أي : انقطعتِ العُصبةُ بَيْنَنَا ، وعلى هذا ، فيجوزُ أن يكون المُسوِّغُ للابتداء بالنَّكرة على الوجه الأوَّل هذا . وإلى الَّذينَ متعلقٌ بمحذوف على الأوَّلِ ، لوقوعهِ خبراً ، وبنفس " بَرَاءَةٌ " على الثَّاني ، ويقال : بَرِئْتُ ، وبَرَأتُ من الدين ، بالكسْرِ والفتح ، وقال الواحديُّ : " ليس فيه إلاَّ لغةٌ واحدة ، كسرُ العينِ في الماضي وفتحُها في المستقبل " . وليس كذلك ، بل نقلهما أهلُ اللغةِ ، وقرأ{[17538]} عيسى بن عمر " بَرَاءَةٌ " بالنصب على إضمار فعل أي اسمعُوا براءةً .
وقال ابنُ عطيَّة " أي : الزموا براءة ، وفيه معنى الإغراء " وقرئ{[17539]} " مِن اللهِ " بكسر نون " مِنْ " على أصل التقاءِ السَّاكنينِ ، أو على الإتباع لميم " مِنْ " وهل لُغَيَّةٌ ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ ، وكسرها مع غيرها ، نحو " مِن ابنك " ، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما ، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك ، بكسر النونِ مع لام التَّعريف .
فإن قيل : ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله ، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين ؟ فالجوابُ : قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم ، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد ؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك ، وقيل لهم : اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين . روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون ، وأرجفوا بالأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون العهد ، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم ، التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الزجاج : " بَراءَةٌ " أي : قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا .
فإن قيل : كيف يجوزُ أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم العهد ؟ .
فالجوابُ : لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه :
فالأول : أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم ، فينبذ العهد إليهم ، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد ، لقوله { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] وقال أيضاً : { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [ الأنفال : 56 ] .
الثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به ، فلمَّا أمر الله تعالى بقطع العهدِ بينهم قطع لأجل الشرط .
الثالث : أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدَّةُ وينقضي العهدُ ، ويكونُ الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد ، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة ، فأمَّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوزُ نقض العهد ألبتَّةَ ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله بريئان منه ؛ ولهذا المعنى قال تعالى : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] ، وقيل : إنَّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلاَّ بنُو ضمرة وبنُو كنانة .
قوله : { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم ؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون ، فكأنَّهم " عَاقَدُوا " وعاهدوا .