قوله { إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر } في " النَّسِيء " قولان :
أحدهما : أنَّه مصدرٌ على " فَعِيل " مِن : " أنْسأ " ، أي : أخَّرَ ، ك " النذير " من أنذر ، و " النكير " من أنْكَر ، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال : " النَّسيء : تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر " ، وحينئذٍ . فالإخبارُ عنه بقوله " زيادة " واضحٌ ، لا يحتاج إلى إضمار .
وقال الطبريُّ : " النَّسيء - بالهمز - معناه : الزيادة " ؛ لأنَّه تأخير في المدة ، فيلزمُ منه الزيادة ، ومنه النَّسيئة في البيع ، يقال : أنْسَأ الله أجلهُ ، ونسأ في أجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء .
الثاني : أنَّه " فَعِيلٌ " بمعنى " مَفْعُول " مِنْ نسأهُ أي : أخَّره فهو منسوءٌ ، ثم حُوِّل " مفعول " إلى " فَعِيلٍ " ، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى : إنَّما المؤخَّر زيادة ، والمؤخَّر الشهر ، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول ، أي : إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر ، وإمَّا من الثاني ، أي : إنما النسيء ذُو زيادة . وقرأ الجمهورُ " النَّسيء " بهمزة بعد الياءِ ، وقرأ ورش{[17784]} عن نافع " النسيّ " بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها ، ورُويت هذه عن أبي جعفر ، والزهري وحميد ، وذلك كما خفّفوا " برية " و " خطية " .
وقرأ السلمي{[17785]} ، وطلحة ، والأشهب ، وشبل ، " النَّسْء " بإسكان السين . وقرأ مجاهدٌ{[17786]} والسلمي وطلحةُ أيضاً " النَّسُوء " بزنة " فعُول " بفتح الفاءِ ، وهو التأخير ، و " فعول " في المصادر قليل ، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة ، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة ، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض ؛ قال : [ الوافر ]
ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ *** شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا{[17787]}
نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا *** مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ{[17788]}
قوله " يُضَلُّ بِهِ " قرأ الأخوان{[17789]} ، وحفص " يُضَلُّ " مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم " يُضِلّ " مبنياً للفاعل ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : يضل اللهُ به الذين كفروا .
والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا .
والثالث : يضل به الذين كفروا تابعيهم . والباقون مبنياً للفاعل ، والموصول فاعل به . وقرأ ابن مسعود والحسن{[17790]} ، ومجاهد ، وقتادة ويعقوب ، وعمرو بن ميمون " يُضِلّ " مبنياً للفاعل ، من " أضَلَّ " وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : ضمير الباري تعالى ، أي : يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا .
والثاني : أنَّ الفاعل " الذينَ كفرُوا " وعلى هذا فالمفعولُ محذوف ، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم .
وقرأ أبُو{[17791]} رجاء " يَضَلُّ " بفتح الياء والضَّاد ، وهي مِنْ " ضَلِلْتُ " بكسر اللام ، " أضَلُّ " بفتحها ، والأَصْلُ " فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد ، لأجل الإدغام ، وقرأ{[17792]} النَّخغي ، والحسن في رواية محبوب " نُضِلُّ " بضم نون العظمة ، و " الَّذينَ " مفعول ، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود .
قوله : " يُحِلُّونه " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال .
والثاني : أنها حاليةٌ . وقوله : " ليواطِئُوا " في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها متعلقةٌ ب " يُحَرِّمُونَه " وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين .
والثاني : أنَّها تتعلَّق ب " يُحِلُّونَهُ " وهذا مقتضى مذهب الكوفيين ، فإنهم يعملون الأول ، لسبقه . وقول من قال : إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً ، فإنَّما يعني من حيث المعنى ، لا اللفظ . وقرأ أبُو جعفرٍ{[17793]} " ليُواطِئُوا " بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة .
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء ؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء ، وضمت الطاء ، لتجانس الواو والمواطأة : الموافقةُ والاجتماع ، يقال : تواطئوا على كذا ، أي : اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } [ المزمل : 6 ] . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وقرأ الزهريُّ{[17794]} " لِيُواطِيُّوا " بتشديد الياء ، هكذا ترجموا قراءته ، وهي مشكلةٌ ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء ، وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهها وهو كما قال .
قوله : " زُيِّنَ " الجمهور على " زُيِّنَ " ببنائه للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الشيطان . وقرأ زيد{[17795]} بن علي " زَيَّن " ببنائه للفاعل ، وهو الشيطان أيضاً ، و " سوء " مفعوله .
معنى النَّسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر ، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم ، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم ، فيكرهون تأخير حربهم ، فنسئوا ، يعني : أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل ؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها ، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : " ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السَّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان . . . " الحديث . فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام .
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء . فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد{[17796]} " أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة " .
وقال الكلبيُّ " أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، وكان يقومُ على الناس بالموسم ، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ ، قام فخطب ، فقال : لا مردّ لما قضيتُ ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه ، فيقول : إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال حلال ، عقدوا الأوتار ، وشدوا الأزجة ، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم{[17797]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له : القَلَمَّسُ{[17798]} . قال شاعرهم : [ الوافر ]
ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ {[17799]} *** . . .
وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم . وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : " إنَّ أول من سنَّ النَّسيء : عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف " {[17800]} .
ثم قال : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ } تقدَّم الكلام عليه . { يُحِلُّونَهُ عَاماً } يعني : النَّسيء { وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ } أي : يوافقوا . { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أي : إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام ، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، فتكون الموافقة في العدد .
{ زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ } قال ابنُ عبَّاس : زين لهم الشيطان{[17801]} : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .