قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل } الآية .
لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية ، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل . فقوله : " كثيراً " يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم ، لا طريقة الكل ، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق ، وإطباق الكُل على الباطل ، كالممتنع ، وهذا يدلُّ على أنَّ إجماع هذه الأمة على الباطل ، لا يحصلُ ؛ فكذلك في سائر الأمم ، وعبَّر عن أخذ الأموال ب " الأكلِ " ؛ إمَّا لأنَّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده ، وإمَّا لأنَّ من أكل شيئاً ، فقد ضمَّه إلى نفسه ، ومنع غيره من الوصول إليه ؛ وإمَّا لأنَّ من أخذ أموال الناس ، إذا طولب بردّها ، قال : أكلتها ، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل .
واختلفوا في تفسير هذا " الباطل " . فقيل : كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام ، والمسامحة في الشرائع ، وقيل : كانوا يدَّعُون عند العوام منهم ، أنَّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلاَّ بخدمتهم وطاعتهم ، وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوامُ كانوا يغْتَرُّونَ بتلك الأكاذيب ، وقيل : كانوا يُغَيِّرُونَ الآيات الدَّالة على مبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وعلى صدقه ، ويذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدةً ، ويُطَيِّبُون قلوب عوامهم بهذا السَّبب ، ويأخذون الرشوة عليهم ، وقيل : كانوا يُحرِّفُون كتاب الله ، ويكتبون كتباً ويقولون هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم .
قوله " وَيَصُدُّونَ " يحتمل أن يكون متعدياً ، أي : يصدُّون النَّاسَ ، وأن يكون قاصراً ، كذا قال أبو حيان{[17752]} ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّه متعدٍّ فقط ، وإنَّما يحذف مفعوله ، ويراد ، أو لا يُراد ، كقوله { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] .
قوله { والذين يَكْنِزُونَ الذهب } الجمهورُ على قراءته بالواو ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنَّها استئنافيةٌ ، و " الذينَ " مبتدأ ضُمِّنَ معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاءُ في خبره .
الثاني : أنَّه من أوصافِ الكثير من الأحبارِ والرُّهبان ، وهو قول عثمان ومعاوية .
قال زيدُ بنُ وهبٍ : مررتُ بأبي ذر بالربذة ، فقلت : يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد ؟ فقال : كنت بالشام ، فقرأت : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } فقال معاويةُ : هذه الآية في أهل الكتابِ ، فقلتُ : إنها فيهم وفينا ، فصار ذلك سبباً للوحشة بين وبينه ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليَّ ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النَّاس عنِّي ؛ كأنهم لم يَرَوْنِي من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنح قريباً ، فقلت : والله إنّي لم أدع ما كنت أقول{[17753]} .
ويجوزُ أن يكون " الَّذينَ " منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، يُفسِّره ، " فَبشِّرهُم " وهو أرجحُ ، لمكان الأمر .
وقرأ طلحة{[17754]} بن مصرف " الَّذينَ " بغير واو ، وهي تحتملُ الوجهين المتقدمين ، ولكنَّ كونها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرُّهبان أظهر من الاستئناف ، عكس التي بالواو .
و " الكَنْزُ " الجمعُ والضَّم ، ومنه : ناقة كناز ، أي : منضمَّة الخَلْق . ولا يختص بالذهب والفضة ، بل يقال في غيرهما ، وإن غلب عليهما ؛ قال : [ البسيط ]
لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أطعَمْتُ جَائِعَهُمْ *** قِرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ{[17755]}
على شَديدٍ لحمُهُ كِنَاز *** بَاتَ يُنَزِّينِي على أوفَازِ{[17756]}
قوله : " وَلاَ يُنفِقُونَهَا " تقدَّم شيئان وعاد الضمير مفرداً ، فقيل : إنه من باب ما حذف ، لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه . وقيل : يعود على المكنوزات ، ودلَّ على هذا جُزْؤه المذكورُ ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدين وغيرهما ، فلمَّا ذكر الجزءَ دلَّ على الكُل ، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار ؛ ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]
ولَوْ حَلفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أمُّ عَامِرٍ *** ومَرْوَتِهَا باللهِ بَرَّتْ يَمينَهَا{[17757]}
أي : ومروة مكة ، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤها ، وهو الصَّفا ، كذا استدل به ابن مالك ، وفيه احتمالٌ ، وهو أن يكون الضميرُ عائداً على " الصَّفا " ، وأنَّثَ حملاً على المعنى ، إذْ هو في معنى البقعة والحدبة .
وقيل : الضميرُ يعودُ على الذهب ؛ لأنَّ تأنيثه أشهر ، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضاً .
وقيل : إنَّ كلَّ واحد منهما جملة وافية ، دنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
وقيل : التقدير : ولا ينفقون الكنوز .
وقال الزجاجُ : " ولا ينفقون تلك الأموال " وقيل : يعودُ على الزَّكاة .
وقال القرطبيُّ " قال ابنُ الأنباريّ " قصد الأغلب والأعم وهي الفضة ، ومثله قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
ردَّ الكناية إلى الصلاة ؛ لأنَّها أعم ، ومثله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] فأعاد الهاء إلى التجارة ؛ لأنها الأهم " . وردَّ هذا بعضهم ، قال : ليس هذا نظيره ؛ لأنَّ " أو " فصلت التجارة عن اللَّهْو ، فحسن عود الضمير على أحدهما " .
وإنَّما خصَّ الذهبَ والفضة بالذِّكر من بين سائر الأموالِ ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال ، وهما اللذان يقصدان بالكنز ، ثم قال : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : فأخبرهم على سبيل التَّهكم لأنَّ الذين يكنزون الذَّهب والفضة ، إنَّما يكنزوهما ، ليتوسَّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل : هذا يوم الفرج ، كما يقال : تحيتهم ليس إلاَّ الضرب ، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً : فالبشارةُ : عبارة عن الخيرِ الذي يؤثر في القلبِ ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجهِ وهذا يتناول ما إذا تغيَّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.