اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل } الآية .

لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية ، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل . فقوله : " كثيراً " يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم ، لا طريقة الكل ، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق ، وإطباق الكُل على الباطل ، كالممتنع ، وهذا يدلُّ على أنَّ إجماع هذه الأمة على الباطل ، لا يحصلُ ؛ فكذلك في سائر الأمم ، وعبَّر عن أخذ الأموال ب " الأكلِ " ؛ إمَّا لأنَّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده ، وإمَّا لأنَّ من أكل شيئاً ، فقد ضمَّه إلى نفسه ، ومنع غيره من الوصول إليه ؛ وإمَّا لأنَّ من أخذ أموال الناس ، إذا طولب بردّها ، قال : أكلتها ، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل .

واختلفوا في تفسير هذا " الباطل " . فقيل : كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام ، والمسامحة في الشرائع ، وقيل : كانوا يدَّعُون عند العوام منهم ، أنَّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلاَّ بخدمتهم وطاعتهم ، وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوامُ كانوا يغْتَرُّونَ بتلك الأكاذيب ، وقيل : كانوا يُغَيِّرُونَ الآيات الدَّالة على مبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وعلى صدقه ، ويذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدةً ، ويُطَيِّبُون قلوب عوامهم بهذا السَّبب ، ويأخذون الرشوة عليهم ، وقيل : كانوا يُحرِّفُون كتاب الله ، ويكتبون كتباً ويقولون هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم .

قوله " وَيَصُدُّونَ " يحتمل أن يكون متعدياً ، أي : يصدُّون النَّاسَ ، وأن يكون قاصراً ، كذا قال أبو حيان{[17752]} ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّه متعدٍّ فقط ، وإنَّما يحذف مفعوله ، ويراد ، أو لا يُراد ، كقوله { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] .

قوله { والذين يَكْنِزُونَ الذهب } الجمهورُ على قراءته بالواو ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنَّها استئنافيةٌ ، و " الذينَ " مبتدأ ضُمِّنَ معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاءُ في خبره .

الثاني : أنَّه من أوصافِ الكثير من الأحبارِ والرُّهبان ، وهو قول عثمان ومعاوية .

قال زيدُ بنُ وهبٍ : مررتُ بأبي ذر بالربذة ، فقلت : يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد ؟ فقال : كنت بالشام ، فقرأت : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } فقال معاويةُ : هذه الآية في أهل الكتابِ ، فقلتُ : إنها فيهم وفينا ، فصار ذلك سبباً للوحشة بين وبينه ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليَّ ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النَّاس عنِّي ؛ كأنهم لم يَرَوْنِي من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنح قريباً ، فقلت : والله إنّي لم أدع ما كنت أقول{[17753]} .

ويجوزُ أن يكون " الَّذينَ " منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، يُفسِّره ، " فَبشِّرهُم " وهو أرجحُ ، لمكان الأمر .

وقرأ طلحة{[17754]} بن مصرف " الَّذينَ " بغير واو ، وهي تحتملُ الوجهين المتقدمين ، ولكنَّ كونها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرُّهبان أظهر من الاستئناف ، عكس التي بالواو .

و " الكَنْزُ " الجمعُ والضَّم ، ومنه : ناقة كناز ، أي : منضمَّة الخَلْق . ولا يختص بالذهب والفضة ، بل يقال في غيرهما ، وإن غلب عليهما ؛ قال : [ البسيط ]

لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أطعَمْتُ جَائِعَهُمْ *** قِرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ{[17755]}

وقال آخر : [ الرجز ]

على شَديدٍ لحمُهُ كِنَاز *** بَاتَ يُنَزِّينِي على أوفَازِ{[17756]}

قوله : " وَلاَ يُنفِقُونَهَا " تقدَّم شيئان وعاد الضمير مفرداً ، فقيل : إنه من باب ما حذف ، لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه . وقيل : يعود على المكنوزات ، ودلَّ على هذا جُزْؤه المذكورُ ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدين وغيرهما ، فلمَّا ذكر الجزءَ دلَّ على الكُل ، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار ؛ ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]

ولَوْ حَلفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أمُّ عَامِرٍ *** ومَرْوَتِهَا باللهِ بَرَّتْ يَمينَهَا{[17757]}

أي : ومروة مكة ، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤها ، وهو الصَّفا ، كذا استدل به ابن مالك ، وفيه احتمالٌ ، وهو أن يكون الضميرُ عائداً على " الصَّفا " ، وأنَّثَ حملاً على المعنى ، إذْ هو في معنى البقعة والحدبة .

وقيل : الضميرُ يعودُ على الذهب ؛ لأنَّ تأنيثه أشهر ، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضاً .

وقيل : إنَّ كلَّ واحد منهما جملة وافية ، دنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .

وقيل : التقدير : ولا ينفقون الكنوز .

وقال الزجاجُ : " ولا ينفقون تلك الأموال " وقيل : يعودُ على الزَّكاة .

وقال القرطبيُّ " قال ابنُ الأنباريّ " قصد الأغلب والأعم وهي الفضة ، ومثله قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .

ردَّ الكناية إلى الصلاة ؛ لأنَّها أعم ، ومثله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] فأعاد الهاء إلى التجارة ؛ لأنها الأهم " . وردَّ هذا بعضهم ، قال : ليس هذا نظيره ؛ لأنَّ " أو " فصلت التجارة عن اللَّهْو ، فحسن عود الضمير على أحدهما " .

وإنَّما خصَّ الذهبَ والفضة بالذِّكر من بين سائر الأموالِ ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال ، وهما اللذان يقصدان بالكنز ، ثم قال : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : فأخبرهم على سبيل التَّهكم لأنَّ الذين يكنزون الذَّهب والفضة ، إنَّما يكنزوهما ، ليتوسَّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل : هذا يوم الفرج ، كما يقال : تحيتهم ليس إلاَّ الضرب ، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً : فالبشارةُ : عبارة عن الخيرِ الذي يؤثر في القلبِ ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجهِ وهذا يتناول ما إذا تغيَّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم .


[17752]:ينظر: البحر المحيط 5/38.
[17753]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/361) وذكره الرازي في "تفسيره" (16/35).
[17754]:ينظر: المحرر الوجيز 3/27، البحر المحيط 5/38، الدر المصون 3/460.
[17755]:البيت للمتنخل الهذلي في ديوان الهذليين 2/15 شرح أشعار الهذليين 3/263 الكتاب 2/89 جمهرة اللغة 67 سمط الآلي (157) شرح أبيات سيبويه 1/550 المعاني الكبير (384) ولسان العرب[برر] [كنز] وللهذلي في الكتاب 2/89 ولأبي ذؤيب في الحيوان 5/285 شرح شواهد الشافية 488.
[17756]:ينظر الشطر الثاني في اللسان 6/4882 [وفز] البحر المحيط 5/37. ورواية اللسان: أسوق عيرا مائل الجهاز *** صعبا ينزيني على أوفاز.
[17757]:البيت في الدر المصون 3/460.